شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ الدكتور حسن عبد الكريم الوراكلي))
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين معلمنا وقدوتنا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .. حضرات السادة والسيدات،
أحب في بداية هذا الحديث الذي يخيل إلي أنه سيكون من قبيل المعاد المكروه بعدما تكرمتم بالاستماع إلى ما قدمه مقدم الحفل ومن بعد راعيه الأستاذ عبد المقصود ومن بعدهما السادة الأحباء والأخلاء الذين كانوا وهم يتحدثون ينفقون مما عندهم أقول ماذا عساي أن أتحدث به بعد تلكم الكلمات البهيات البديعات، إذا كان لابد لي من حديث، فإنني سأجعله في شقَّين، أعرض بالشقّ الأول وعلى شيء من الاختصار والعجلة ما يتعلق بتجربتي الحياتية، وأجعل مداره في الشقّ الثاني حول التجربة العلمية والأدبية، كان المولد في قاصية بلاد العرب في تطوان ولعل أقراننا أي مجايرينا كما يعبَّر اليوم يذكرون جميعاً أنه ما كان يسمح لهم في بلدان المشرق والمغرب أن يلتحقوا بصفوفهم الدراسية صباح كل يوم إلا بعد أن ينشدوا ذلك النشيد الشهير
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمنٍ
إلى مصر فتطوان
تطوان التي وقعت في قاصية بيتين هي تقع كذلك كما أسلفت في قاصية بلاد العرب فيها كانت الولادة وفيها كانت النشأة قبل عقود من الزمن، وإني لأستحضر من ذلك مشاهد كثيرة من تلك النشأة، صورتها في كتابي الغدايا والعشايا، وهي سيرة ذاتية وأسوق منها بعض ما يحسن إلقاء الضوء عليه في مثل هذا الحديث، ولدت في كنف أسرة كانت كلما رزقت طفلاً قدَّر الله سبحانه وتعالى أن يرحل عنها، لقد جئت إلى هذه الأسرة بعد وفاة نحو خمسة أطفال فكان أن قيض الله سبحانه وتعالى لي بعد هؤلاء الخمسة أو الستة أن أعيش بين والد يغمرني بعطفه وأم تغمرني بحنانها، بين والد يحلم أن يرى في هذا الطفل الصغير ما يراه من أمر الفقهاء والعلماء ولم يكن معدوداً فيهم كان رجل تجارة ودؤوب عمل في ميادينها المختلفة، ولكنه كان شغوفاً بالعلم، دؤوباً على مجالسة العلماء والفقهاء في حلقاتهم بمساجد الحي، وكنت كلما تقدمت بي السن أستشعر منه هذا الحرص على أن يرى في ولده الذي أكرمه الله تعالى به بعد أطفال وأولاد رحلوا عنه وتركوا حرقة في نفسه، كنت أستشعر منه ذلك وأزداد استشعاراً بذلك كلما تقدمت بي السن كما سأوضح، وألتفت إلى السيدة الوالدة رحمها الله فأجدها وكأنها تفرغ علي من الحنان ما ادخرته من حنان كان من المفروض أن توزعهم على كل هؤلاء الأولاد الذين رحلوا من قبلي، وكنت وإني لأذكرها دائماً كل ما هممت بالخروج إلى كتّاب الحي أو "المسيد" كما نسمّيه أو حلقة التحفيظ أو المدرسة الابتدائية أو إلى المتوسطة أو الإعدادية أو الثانوية ثم إلى الجامعة أقبِّل يديها وأنحني على رأسها أقبِّله فتشيعني بدعاء لا أذكر أنها كانت تجعل له ثانياً تقول لي "الله يحلي كلامك يا ولدي" وأنا أستحضر من مشاهد النشأة في كنف هذه الأسرة وفي كنفَي الوالدين الكريمين طيب الله ثراهما مما أبان به السيد الوالد رحمه الله عن حرصه أن يرى في طفله ما يراه في فقهاء مساجد الحي وخطبائه، أنه كان سارع بشراء مكتبة كاملة رأى أنه إذا لم ينقذها هو بشرائها ستضيع، وجاء بهذه المكتبة ووضعها في صالة من صالات البيت العربي الكبير الذي كنا نقيم فيه حتى إذا كنت في الثانية من الابتدائية أمسك بيدي ذات يوم وقال لي تعال يا حسن، وفتح باب تلك الصالة وقال لي هنا تجلس لتقرأ، وتراجع دروسك، وتحضر واجباتك المدرسية كل يوم، وكان ذلك هو أول لقاء لي بالكتاب خارج نطاق الكتاب المدرسي، هذه لمحات أختصر القول فيها لأنتقل إلى عنصر آخر من عناصر القول في شق هذا الحديث الأول وهي المؤثرات التي كانت وراء إقبالي على العلم وعلى الدرس وعلى التعلق بالعلماء والأدباء، هذا البيت كما قلت لم يكن بيت عالم ولكن كان بيت رجل يحب العلم، وكان بيت والدة تدعو مع ابنها إذا أصبح وإذا أمسى أن يحلىِّ الله كلامه، ولكن هذا البيت اشتمل على مكتبة وهذه المكتبة كانت من مخلفات الخال رحمه الله، وكان من فقهاء القرويين، ومن خطباء البلد ومشاهير المقرئين والمدرسين فيه، وإني لأعتبر أن دخولي بفضل الله ثم بفضل السيد الوالد رحمه الله إلى هذه المكتبة على فتاء العمر نعمة من الله أذكرها كلما ذكرت ما كان لله سبحانه وتعالى علي من أفضال ثم لسيدي الوالد رحمه الله، هذه المكتبة كانت كما قلت مكتبة فقيه وخطيب ومدرس ورجل من رجالات الوطنية في تلك الفترة، هو الفقيه الأديب الأستاذ محمد باروز يرحمه الله، إني لأذكر وقد صورت ذلك في بعض ما كتبت في "الغدايا والعشايا" وبعض رسائلي إلى ابنتي الدكتورة ندى وهي تغترب في طلب العلم قبل سنوات طويلة مرّت أدخل إلى هذه المكتبة وأظل أتأمل في رفوفها التي صفِّت فيها المجلدات والكتب غير المجلّدة وكما قلت على فتاء الأمر تلميذ في السنة الابتدائية الثانية، فتتعلق عيناي بواحد من هذه المجلدات، وتمتد يدي وأخرج الكتاب وأفتحه، وإني أذكر هذا كما لو كان يحدث الآن أمامي، فتقع عيناي على عنوان يحدث عندي رجة "البحر المحيط" وكنا يومئذٍ ندرس الجغرافيا ببحارها ومحيطاتها لم يكن الأمر يتعلق إلا بكتاب أبي حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط .. أتصحفه وأتصحفه ولما لا أكاد أعي أو أفهم شيئاً وأعيده إلى مكانه وفي نفسي حسرة، وتكرر هذا المشهد بيني وبين الكتب المصفوفة على الرفوف في تلك المكتبة، ثم في تلك الأثناء ونحن جلوس ذات يوم في قسمنا مع أستاذ مادة العلوم استمعنا طرقاً على الباب، دخل على إثره رجلان الذي يتقدم تبين أنه كان مسؤولاً في مديرية التعليم أو مندوبية التعليم كما كنا نسميها، والثاني كان مساعداً له يحمل صندوقاً ووضعه على طاولة المعلم وبعد أن دار بينهما حديث توجَّه إلينا المعلم وقال إن نيابة التعليم بعثت لكم مكتبة هي المكتبة التي سمِّيت بالمكتبة المتجولة Bibliotica Empolante الأسبان كانوا لا يزالون يومئذٍ، وهذه الآن بين أيديكم من أراد أن يأخذ منها كتاباً ويقرأه ويعيده بعد أسبوع فله ذلك يأتي ويأخذ الكتاب ويسجل عليه ويقرأه ويعيده بعد أسبوع، وكنت فيمن قفز إلى طاولة المعلم وامتدت يدي والحقيقة أنه لم يكن ثمة من توجيه ولا إرشاد ولا حسن اختيار للكتب وهذا شيء نسجله للتاريخ واستخرجت كتاباً، كان هذا الكتاب هو كتاب النبي لجبران خليل جبران وأخذت الكتاب معي إلى البيت وبدأت أقرأ فيه كان الأمر بالنسبة إلي أشبه ما يكون بالبحر المحيط لأبي حيان، لم أفهم شيئاً وأنتم تعرفونه والمشتغلون بالأدب يعرفون لغة جبران وتهويماته وخلالاته ولكنني مع ذلك حرصت على أن أنهي الكتاب قراءة وأن أعيده إلى المكتبة المتجولة، ثم آخذ كتاباً آخر في الأسبوع التالي وأسجل عناوين الكتب التي أخذتها، باختصار كان ذلك أول لقائي مع الكتاب وازدادت خبرتي بالكتاب سنة بعد أخرى حتى إذا شارفت نهاية الدراسة الابتدائية كنت بدأت أختلف إلى حوانيت الوراقين، أو إلى المكتبات وأتخير منها وعلي أن أذكر شيئاً آخر في مكتبة الخال وهو توافرها على كتب تفسير وفقه وأصول وتاريخ ولكن إلى جانب ذلك منذ ذلك الحين كنت نقّاباً كثير التنقيب، وقعت ذات يوم على كتاب ليس مجلداً كتاب صغير واستخرجته من المكتبة وهي الآن تشكل جزءًا من مكتبتي الخاصة كان ذلك الكتاب بعنوان ((رحلة الصيف)) وكان المؤلف هو الدكتور طه حسين وبدأت أقرأ الكتاب وأنا في السنة الرابعة الابتدائي فوجدت لغة سهلة ووجدت نفسي قادراً على استيعاب كثير مما يقول صاحب هذا الكتاب ولا سيما أنه يرحل بي أرض لا أعرفها ويحدثني عن مشاهد لا عهد لي بها، فأنست بالكتاب وكان ذلك كما قلت فيما كتبت عن الدكتور طه حسين في كتاب "وشي وحلي" كان ذلك أول عهد لي بقراءة طه حسين وستطول صحبتي معه بعد ذلك في كتبه كافة، وكنت أحلم أن أجلس إليه في جامعة القاهرة، لكنه بادر وجاءنا إلى تطوان، وجلست إليه في تطوان وذلك حديث يطول، هذا مؤثر أول من المؤثرات التي أحسب أنها كان لها أثر عميق في صلتي بالكتاب، المكتبة مكتبة الفقه والتفسير والأصول والعلوم التاريخية والحضارية إلى جانب كتب حديثة وأنا أشرت من قبل إلى أن الخال رحمه الله كان في طليعة رجال الوطنية والمشتغلين بنشر الوعي الثقافي وتأسيس المدارس الوطنية، وكذلك وجدت من بين هذه الكتب كتاب شكيب أرسلان "لماذا تأخر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟" مجموعة عناوين تعرفت عليها في هذه المكتبة وتعرفت بعد جبران خليل جبران على عناوين أخرى في المكتبة المتجولة، وكلما قرأت كتاباً وحرصت على أن أنهيه من الغلاف إلى الغلاف إلا ووجدت أفقي يتسع ومداركي تنبسط ومقامي بين تلامذة القسم يتميز مع كوكبة من رفاق الدرس في الابتدائي وما تلى الابتدائي بعد ذلك. هذا المؤثر الذي كان مسرحه البيت وكان مسرحه المدرسة تآزر بمؤثر آخر هو البيئة التي نشأت فيها أستطيع القول إنها وفرت لي نماذج وقدوات علمية وأدبية أرى أصحابها إذا أصبحت وأراهم إذا أمسيت كان يجاور بيتنا بيت ما كان المغاربة يصطلحون على تسميته بشيخ الجماعة أي بصدر العلماء أو بقيدوم العلماء، كان هذا العالم والفقيه الأصولي سيدي محمد الزواق وكان لا يبت في أمر يتعلق بعلوم الشرع ولا تصدر فتوى في هذا الأمر أو ذاك إلا إذا كانت باستشارته، كان بيت فقيه الزواق جوار بيتنا وكنت أرى الفقيه يخرج للصلوات الخمس وأسارع فأنحني وأقبِّل يديه أو سلهامه، وكلما تقدم بي الأمر إلا وجعلت أقتفي خطواته حتى انتهيت بهذا الاقتفاء إلى المسجد الذي كان يصلّي فيه الفريضة ويؤم بالناس ويخطب الجمعة، في هذا الزقاق الذي كان يقع فيه منزلنا كان يسكن مؤرخ تطوان واحد من رعيل الحركة الوطنية في شمال المغرب الأستاذ محمد داوود يرحمه الله وهو صاحب "تاريخ تطوان" الذي يقع في أزيد من تسعة مجلدات، هذا المؤرخ كان يسكن غير بعيد ويفصل بيته عن بيتنا بضع دور، فكان بالنسبة إلي وقد تقدم بي العمر وأصبحت تلميذاً من الصفوف الأولى في المتوسطة ونشر كتابه يومئذٍ مختصر تاريخ تطوان أرى فيه النموذج والقدوة، وأسائل نفسي كيف كتب هذا الرجل هذا الكتاب، وأقتني الكتاب، وأضعه ضمن محتويات مكتبتي إلى جانب مكتبة الخال ثم إلى جانب العالم الفقيه والمؤرخ والصحفي والإعلامي كان أسس مجلة أسماها "مجلة السلام" وكانت تعتبر منبراً للفكر المغربي والإسلامي والعربي بما تنشره على صفحاتها من عطاء الإسلام في المغرب العربي وفي المشرق العربي، إلى جانب الفقيه زواق والفقيه داوود كان يسكن غير بعيد عنا أديب تطوان المميز الأستاذ محمد الصباغ، كانوا يلقبون عليه على عادة أهل المغرب في تعلقهم بالنماذج المشرقية بـ ((جبران المغرب))، ولعل هذا اللقب كان يعجبه فترة من الزمن تم تمرد عليه واستقل بكيانه، وكان يمثل فعلاً مدرسة في الكتابة الإبداعية الفنية التي يجارى فيها، كنت أقرأ له وأنا يومئذٍ في الأولى الثانوية قرأت له من كتبه "الهاث الجريح" وقرأت له "العبير الملتهب" ومثل هذه العناوين، لكن الأمر بالنسبة إلي محمد صباغ كان أهون بكثير مما كان عليه مع أستاذه جبران، وإلى جانب هذه النماذج الفقهية والتاريخية والأدبية التي كنت معجباً بسلوكياتها وبحديثها أنصت إلى خطب الفقيه الزواق وأصلّي وراءه وأقرأ في "تاريخ تطوان" وأعجب بهذه المعلومات التي حشدها الأستاذ محمد الداوود رحمه الله عن هوائل تطوان وأمثال تطوان وتاريخ تطوان قبل أن ينشر كتابه الضخم في تسعة مجلدات وأقرأ للصباغ.... كل هذا أعترف أن كانت له انعكاسات إيجابية على رصيدي الثقافي والعلمي إلى جانب هذه البيئة لابد لي أن أذكر بكثير من التقدير والإعجاب وأنا قلت فيما كتبت عنه كلمة افتتحت بها تلك الكتابة، قلت لو كنت كاتباً برنامج شيوخي لجعلت في مقدمه شيخي وأستاذي الأستاذ عبد الله قنون، وحين جلست إلى الأستاذ عبد الله قنون في تلك المرحلة من حياتي المبكرة كان الأستاذ عبد الله قنون يشغل منصب وزير الحكومة الخليفية التي كانت عاصمتها تطوان قبل الاستقلال وقبل أن يلتئم شمل المغرب كله، لكن هذا المنصب لم يكن يمنع الرجل من أن يحلق للدرس في مسجد من مساجد الحي الذي كنت أسكن فيه وهو مسجد الفاسي فكنت إذا خرجت من الكتّاب سارعت وبإشارة كريمة من السيد الوالد إلى حلقة الأستاذ قنون رحمه الله، وسيقدر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أن أجلس إلى الأستاذ قنون في أصول الدين، وأن أجلس إليه في إقرائه صحيح البخاري وأن أروي عنه كذلك تعتبر حلقة الأستاذ عبد الله قنون في مسجد الفاسي عنصراً آخر من العناصر الإيجابية التي شكلت في حياتي تلكم المؤثرات العلمية التي أسلفت الإشارة إليها لعلّني أنتقل الآن بعد إشارة خاطفة إلى أن حرص السيد الوالد على أن يعلم ولده وأن يرى فيه ما كان يحلم أن يرى في أولاده كافة الذين رحلوا عنه ولم يبق بقضاء الله وقدره بين يديه إلا هذا الولد الذي سيعقبه الشقيق الأصغر الأستاذ عبد الواحد وهذا الوالد حرص على أن لا يحرم ولده، وقد كان يرى كثيراً من أبناء أصحابه وأقرانه يرحلون إلى بلدان أخرى في طلب العلم، فما كان منه إلا أن أوفدني للدراسة في مصر ولا منحة بل على نفقته الخاصة، وتلك كانت أول رحلة لي في طلب العلم طبعاً لم تكن تنشد مزيد كمال فلم يكن لي من كمال في العلم يومئذٍ كنت شادياً في العلم، وتعددت بعد ذلك حتى أختصر القول وجهات هذه الرحلة العلمية إلى القاهرة إلى الرباط إلى فاس وأخيراً إلى مدريد أو إلى مجريد كما يسمِّيها المؤرخون العرب، وفي هذه الحواضر العلمية المغربية والمشرقية نهلت من حياض العلماء والشيوخ والأساتيذ المشهود لهم بالكفاية العلمية في غير علم، وتخرجت بفضل الله بشيوخ بالدرس الشرعي في رحاب كلية أصول الدين وتخرجت بفضل الله تعالى بأيدي أساتيذ أكفاء من أهل المشرق والمغرب في علوم اللغة والأدب في آداب فاس، ثم شاء الله سبحانه وتعالى أن يكرمني برحلة إلى الضفة الأخرى أو العدوة الأخرى إلى الأندلس وأن أقيم في مدريد للطلب والتحصيل، وإني لأشهد بأني تعرفت في هذه الرحلة على نماذج من أساتذة الجامعة الإسبانية كانوا مثال العالم والمربي والراعي للذين يتولون إقراءهم وتدريسهم الإشراف عليهم، كما تعرفت في هذه الرحلة على أقران من زملاء الدرس من بنين وبنات وبعضهم الآن يشغل مناصب في الجامعة الإسبانية وبعضهم نذر نفسه ونذر جهده لخدمة التراث الإسلامي العربي في الأندلس وبعضهم كما قلت وأقول في كل مناسبة أدعو الله سبحانه وتعالى أن يختم عليهم بالإيمان، وإنهم ليعكفون على درس التراث الإسلامي والأندلسي بصفة خاصة في مجال العلوم الشرعية والمعارف الدينية من تفسير وحديث وفقه، فلا أملك وأنا أتأمل هذا الإقبال من لدنهم على هذا التراث إلا أن أدعو لهم بالهداية إلى الإيمان.
أنتقل إلى الشق الثاني من هذا الحديث وهو التجربة العلمية والأدبية وأشير في البداية أنه بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بفضل هذه المكتبة المبكرة التي فتحت عيني عليها وهي تحوي من كتب العلماء والمؤلفين فنوناً شتى تفسيراً ومجاميع حديث صحاح ومسانيد وكتب فقه إلى جانب كتب أدب وتاريخ ثم بفضل ما أتيح لي أن أتلقاه من علوم الشرع في كلية أصول الدين ومن علوم اللغة آدابها في كلية الآداب بفاس وبالرباط وفي مدريد حصلت من المعارف ما أنا به قرير العين وكل ينفق مما عنده فكان من أثر ذلك التحصيل المتنوع أن انعكس على أعمالي العلمية والأدبية التي يمكن أن نجعلها تحت هذه العناوين: الدرس والبحث والتحقيق والترجمة والبيبليوغرافيا والإبداع وحق هذا أن يقدر لأنه كان أول ما شغلت به لم أشغل به وأنا في نهاية الإعدادية أو المتوسطة ولأنني شغلت به وأنا لا أزال في الابتدائية، فلم أكن أفهم جبران ولا أكاد أدرك مقاصد الصباغ وأقرأ شكيب أرسلان فيثيرني ذلك السؤال إلى آخره... في تلك الفترة المبكرة أجريت قلمي بكتابة الإبداع السردي وكنا أنشأنا ونحن في الابتدائية مجلة خطية أنا والشيخ محمد منتصر ريسوني والأستاذ رضوان الحدادو .. مجموعة من هؤلاء الذين وثبوا على صندوق المكتبة المتجولة هذه المجلة ستتحول بعد ذلك حين نتخطى المدرسة الابتدائية إلى الثانوية إلى مجلة مطبوعة، هي مجلة النصر التي استقطبت حينذاك أقلام الشباب الناهض وبعض الأساتذة الذين كنا نحبهم ونكبرهم ونحن نجلس إليهم في ثانوية القاضي عياض، كتبت إذاً القصة وكانت هذه المجلة الخطية أول مسرح لي في نشر قصصي، لكنني لم ألبث إلا قليلاً بعد ذلك مرَّت سنتان بعد أن قرأت المنفلوطي والسباعي وقرأت محمد الريسوني وعبد المجيد بنجلون فأعجبني السرد وأهواني، فأجريت قلمي لكتابة قصة أسميتها ((العقوق)) وقلت لابد أن أبعث بها إلى جريدة كانت يومئذٍ تصدر في تطوان هي جريدة النهار، نهار التطوانية مع أنها بيروتية، فقرأها المحرر الأدبي وسارع بنشرها فانتفشت وامتلأت وأعجبت بنفسي ورأيت أني متميز بين رفاقي، ينشر لي نص سردي في جريدة ذائعة الانتشار كالنهار، هذا شيء يحمل على أن يعجب الإنسان بنفسه، ثم ازددت إعجاباً بنفسي حين قدمت قصة أخرى بإسم "العم علي" وأنا ما زلت أتذكر هذه الأشياء إلى معد برنامج قصة الأسبوع الأستاذ محمد القاضي الريسوني فسارع إلى إذاعتها، هنا وصلت القمة من الإعجاب والتيه .. وبعد ذلك كان لهذا أثر في أن أمضي في هذا الدرب في كتابة القصة، كتبت وكتبت ونشرت ولكن لعلمكم الخاص لم أنشر مجموعاتي القصصية إلا بعد نحو أزيد من ربع قرن من كتاباتي السردية وكتبت في مقدمة مجموعة الريح والجدير أنه إذا أراد أحد من النقاد أن يحتكم إلى نصوصي السردية فلا ينظرن إلا إلى ما نشر في الريح والجدوى، وكر وفر والحوات، وما عدا ذلك فهو عندي من الموءودات، ولا يلتفت إليه، المهم أترك الإبداع السردي الذي جرني إلى كتابة الرسالة وكتابة اليوميات والمذكرات الخ، ثم جاءت الجامعة وجاء البحث العلمي وجاءت عناصر الإغراء بالبحث العلمي فيما نكلف به من إعداد بحوث، فانغمرت بذلك وصار بيني وبين الإبداع ما يشبه القطيعة تم جاءت مرحلة الماجستير والدكتوراه والسفر إلى الجامعة الإسبانية وازداد الطين بلة حين وجدت مما وقع إلي من كتب الدارسين الأسبان المهتمين بالتراث العربي الإسلامي وأنا لا أسميهم مستشرقين أسميهم مستعربين لأنهم عنوا بتراث اللغة العربية ولم يعنوا بتراث إسلامي آخر في بلاد فارس أو في بلاد تركيا..، عنوا فقط بالتراث العربي وبالتراث الأندلسي بصفة خاصة وكان شيخهم الشيخ قوديا يقول ـ وكان يحب أن يلقب بالشيخ ـ إن على الأسبان أن يحرصوا على أن يتعربوا لا أن "يتأربوا" يعني أن لا يلتحقوا بأوروبا، المهم رأيت من هذه البحوث ما هو جدير بالنقل والترجمة فدأبت أشتغل بالترجمة وكان أن ترجمت كتباً منها ابن سيدا المرسلي وابن وضاح القرطبي إلى آخره، المهم جرفني البحث العلمي وفي ركابه أو من قبله التحقيق ومعهما البيبليوغرافيات كتبت فيها لسان الدين الخطيب دراسة وببليوغرافيا، كل ما كتب عن الخطيب في العربية وغير العربية، كتبت أبو الفضل القاضي عياض ثبت بيبليوغرافي وهو كل ما كتب عن القاضي عياض بالعربية وبغير العربية مما وصلت إليه يداي ووقعت عليه عيناي وإلى آخره، كتبت أيضاً تراث المغاربة والأندلسيين في آثار الدارسين السعوديين وشحذت فيه أزيد من خمسمائة وتسعين عنواناً مما أنجز من رسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه داخل الجامعات السعودية مما يتعلق بتاريخ المغاربة والأندلسيين ومما نشر خارج الجامعة السعودية الخ. تلكم كانت هذه مجالات التجربة العلمية والأدبية التي أمضيت فيها منذ أن نشرت أول نص قبل خمسة عقود تقريباً، ومنذ خمسة عقود أعترف أنني خلالها ما تركت كتاباً في يوم من الأيام إلا إذا كان لا قدرة لي ولا استطاعة إلى حمله فالكتاب معي وأنا طالب في قاعة الدرس في الثانوية نأمل أن يتغيب الأستاذ فنقضي ساعتنا في قراءة الكتاب في صالة طبيب الأسنان ربما ألم الضرس معي لكن الكتاب أيضاً معي وكتبي اليوم شتى، ومواعيدي معها متعددة فهذا ينتظرني في الصفحة خمسين وذاك في الصفحة سبعين والآخر في الصفحة ثمانٍ وأربعين وكلها على موعد في العودة إليها وهي على ضيق المكان سكنى الشقق، في تطوان طبعاً شيء آخر، ولكن هنا اقتحمت علي حتى حجرة نومي وصالة سفرتي ومجلس زواري، فالكتاب رفقته هي التي كان لي أول عهد بها في مكتبة الخال رحمة الله عليه وستظل هذه الرفقة موصولة غير مقطوعة نستمد منها ونقبس ونستفيد منها ونفيد.
وإني إذ أختم هذه الكلمة التي أرجو أن لا أكون أطلت بها وإلا فالحديث طويل لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر لله سبحانه وتعالى على ما أنعم وما شملني به من نعم كثيرة لا تعد ولا تحصى كان ينبغي أن أذكر منها كذلك سكنى مكة ومجاورة بيت الله الحرام والتجربة العلمية الأدبية الطويلة في رحابها لكن الوقت يضيق، وأشكر كذلك لأسرتي ولوالديّ من قبل على ما نصحا ووجَّها وأتاحا من فرص للدراسة داخل المغرب وخارج المغرب ومن الأثر الكريم الذي كان لهما علي أن أذكرهما ما حييت وأدعو لهما وأشكر كذلك لأسرتي وفي مقدمتها أم أيمن وأولادي وبناتي الدكتورة ندى والدكتورة نسيبة والدكتورة شذى وأيمن والبراء اللذان هما إن شاء الله تعالى في طريق الطلب والتحصيل، ثم أشكر للصديق العزيز المفضال راعي هذه الاثنينية بل دعوني أقول راعي حركة العلم والثقافة في هذا البلد الكريم الأستاذ عبد المقصود خوجه وأدعو له بالصحة وبالعافية وبمزيد من التوفيق في ما يبذله من جهد في خدمة الثقافة البانية الهادية في هذا البلد الكريم وأشكر لكم تفضلكم بالإنصات وصبركم على طول هذا الحديث والسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1022  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 252
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.