شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من باب العنبرية (5)
الأنوار تنبعث خافتة من فتحات النوافذ المطلة على الساحة التي تفصل بين باب عبد العزيز وبقيع الغرقد ولكن الأنوار التي تشع على النفس والقادمة من ساحة فرش الحجر هي ما كان يجذب الفتى إلى تلك الأماكن، باعثة في دواخله صفاءً وحباً، وتلك اللذة الحقيقية التي لو ذاق الآخرون شيئاً منها لما نعوا على الفتى حنينه وأخذوا عليه مثل هذا الوجد والتعلق ولتركوه في حنينه ووجده وهيامه وتعلقه. فهو غير آبه بما يقوله القوم عنه وليس واجداً فيما يهمسون به غضاضة أو أمراً جللاً.
انصرف الناس مسرعين من تلك الساحة بعد أن حل موعد إغلاق أبواب المسجد الطاهر. ولكن أنى للفتى الذي تعشقت روحه ذلك الألق وانغمرت بفيضه أن ينصرف؟ وأنه ليعز عليه أن يختفي من بين ناظريه ذلك المشهد البهي الذي يجمع بين المنارة الرئيسة والقبة الخضراء وما حوت الأرض تحتهما من أجساد طاهرة هي أنفس وأعز وأطهر وأكرم ما حوته الأكوان بأجمعها.
ينطلق الفتى مع رفيقه الزين من قرب دار العلوم الشرعية حيث قضى الفتى أحلى أيام دراسته بين جوانب فصولها ويتجهان نحو الساحة المجاورة للبقيع فإذا - فجأة - يربت على كتفيه قائلاً: هل شاهدت المعلم؟ يشير إلى المكان الذي يمشي فيه الرجل بخطوات مطمئنة وواثقة، نعم إنه المعلم قلادة لعله لقب الحارة أو كنيتها.
رجل يلبس ثوباً قد أتقنت حياكته ويرتدي فوقه جبة بيضاء أو (كوت) ويعتمر كوفية بلدي، ويتدلى طرفا إحرامه أو غترته من على كتفيه، يمشي مختالاً كبقية الصفوة من مفاليح الحارة ورجالاتها. ولو دققت النظر في لون ثيابه لرأيتها من شدة بياضها ومعالجتها بالنشاء كياً وتهذيباً، نعم لرأيتها تنضح نوراً وتسطع بهاءً في ضوء تلك القناديل الجميلة الخافتة الضوء التي كانت تزدان بها أزقة البلدة الطاهرة ودروبها المسكونة بالطمأنينة والسلام والوئام. أناقة المعلم محمد عثمان تذكرني بأناقة رجلين آخرين هما الأفندي محسن بري وإبراهيم البسام - رحمهما الله - وكان حانوت المعلم مواجهاً لباب جبريل. تلقي عليه التحية فيرد عليك بكلمات الحب والصفاء النابعة من قلبه الطيب، ويبتسم فتشعر أنها الابتسامة التي يهديها إليك حبيب أو صديق. فلم يكن القوم يعرفون الابتسامة الصفراء، ولا تلون الوجوه، ولا تناقض المواقف، ولا ازدواجية السلوك، وكان حانوت المعلم أكثر ما يكون ازدحاماً بالرفاق ما بين صلاتي المغرب والعشاء. ثم ينصرف المعلم مسبحته في يده، وذكر الله على لسانه، فهو من حفظة كتاب الله، ويجالس العلماء، ولكن على هدي وبصيرة. فلم يجنح يوماً لمواقف المتشددين وظل الحب مشربه، والنقاء طبعه ومسلكه.
يا صديقي: اليوم نبتاع الغالي من الثياب، ونركب الفاره من المطايا، ولكن البريق والنصاعة قد فقدا مما نلبس، والجمال تبدد وتلاشى فيما نركب عليه لاهثين ومسرعين. أترى ما كان يبدو على وجه القوم من جلال وعلى أطراف ثيابهم من نصاعة مرده إلى قلوبهم التي فطرت على الحب، وأرواحهم التي سمت بالذكر، ونفوسهم التي انصقلت بالرفيع من الأخلاق والعظيم من المثل؟ أم أن الرجال الذين كانوا يزينون الملابس عندما يرتدونها ويمنحونها من أعماق نفوسهم بهاءً وجلالاً قد انطفأت جذوة الحياة فيهم فهم تحت أطباق الثرى يرجون رحمة ربهم؟ أم أنهم أضحوا أحلاس منازلهم ورضوا بالخلوة مع بارئهم فمنحهم من نعم الحب والوصال ما أغناهم عن الحياة الزائلة، والمخلوق الضعيف الفاني؟
ولقد تسألني يا صديقي عن هذه الرحلة التي انطلقت فيها سائراً من العنبرية إلى الحارة وفرش الحجر وما بينهما، فإنني لأعيدك إلى مقالة سابقة التي ذكرت فيها أيام الخليف، حيث يتركها أهلها إلى مكة حاجين ومعتمرين، في تلك الأيام التي أضحت بعيدة زماناً ونائية مكاناً خرج المعلم أو ولد الشيخ إشارة إلى أسرته ذات التاريخ العلمي، خرج إلى العنبرية حيث يحلو السمر البريء مع الخلان، وعندما بلغت به قدماه إلى حلقة اللعب لم يجد جماعته من أهل الساحة. وتفرس في الوجوه فلم يجد عيال الرباط ومفاليحه. ورأى نظرات ترمقه شزراً ولكنه الضيف على أهل الحي الذي يمتلىء بأهل الشهامة والنخوة من أمثال حمزة لبان والدوي وعبيد الله عبد الرجال. ورفع المعلم صوته بزومان له دلالته عند أبناء الحارة، سمعوه يقول:
غريب ولا لي جماعة
في وسط بيشة وداعة
تكفون يا أهل الشجاعة
غريب ولا لي جماعة
وكنت نسيت الشطر الثاني من هذا القول فذكرني به الشيخ سراج عياد، فهو والسيد الفاضل عباس مالكي يحفظون ما لا أحفظ.
وتجاوبت مع صوته الطيور الوادعة في مخابئها بين أشجار النخيل والرمان. وسرى الصوت بين قناطر المياه ورددته جدران القشلة وقباب التكية. وابتسمت وجوه القوم له، وتحلقوا حول ذلك الفتى الفارع الطول، القوي العزيمة والطيب الخلق ولم تستطع العيون الغريبة أن تنال منه شيئاً.
تلك شيم وأخلاق رفيعة تعمقت في النفوس وامتزجت في دماء القوم قبل أن تتجسد سلوكاً وتتبدى في أفعال أبناء مدرسة الحياة حقيقة وواقعاً. ولنبك اليوم - نحن معاشر المثقفين - حالنا كيف يخون أحدنا رفاقه بعد عشرة دامت سنيناً، ويقرضهم بين أسنانه بغضاً، وحقداً حتى يصل ذلك - أحياناً - إلى شيء من سوء الأدب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :763  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 131 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج