شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في روابي قباء (4)
يتذكر الفتى في صباه ذلك الميدان الفسيح في مسيل (قباء) الذي يقصده الناس عصراً لرؤية لاعبي النادي العريق في المدينة (أُحُد) ويؤمه ليلاً ((المطاليق)) من أبناء الأحياء المختلفة ليؤدوا لعبة المزمار الشهيرة، بعضهم يعتلي شجر الأثل ليقتطع منها الأخشاب التي تصلح أن تكون وقوداً للنار، والآخر بالتعبير البلدي ((يدم))، والبقية يخرجون من الصف على نسق واحد وهم يبرزون قدرتهم على التلويح بالعصا.
صديقي المخضرم ابن جَبَل حدثني قائلاً: خرجنا ذات يوم إلى خارج المدينة، لا يعلم إن كان المكان هو ((المسيل)) أم ((السكة)) أو ((الحفيرة))، وتجمع ليلتها المطاليق من كل حي وكان الشرر يتطاير من عيون الناس والخوف يسكن النفوس، ولكن الرجال يحاولون الظهور بمظهر من لا يخاف غريمه بل ربما قصد إلى استثارته وتحديه.
فجأة يبرز من وسط الصفوف رجل دقيق الجسم، أسمر السّحنة، حسن المظهر، ((السَّليمي)) على كتفه، وحذاؤه المزركش يسمع الكل وطأته المتميزة على الأرض، فالسكون يُجللُ ذلك الوادي العميق والجبال من حولهم تردّد صدى (الزّومال) المعروف:
((من دار سليمان جينا.. يا منجي تنجينا))
يقف الرجل في منتصف الحلقة يضع عصاه ((المزقرة)) بالقرب من موضع النار المشتعلة ثم يبتعد قليلاً ويقول: يا أبا قدور، اليوم يوم عيد ونريد أن نعود إلى أهلينا بالملابس النظيفة التي أتينا بها إلى الحلقة فمنظر الدم لا يلائم يوماً كهذا اليوم. لقد عرفت نِدّيدَه في اللعب والمَشْكَلَة ((أبو قدورة)) عرفته وجسمه ينضج بالعافية وكان إذا خرج الصبي من الصف بغير إذن الكبير، لمس الكبير بعصاه عصى الصبي لمساً خفيفاً فإذا هي تتكسر قطعاً، إنه ناموس اللعب وتجربة السنين. ثم رأيت ذلك الجسم يذوي كما تذوي الأغصان من أشجارها، سبحان من يعطي العافية ثم يسلبها وله في ذلك حكم تدق عن الفهم وتجل عن الإدراك.
يواصل الراوي حديثه قائلاً: يقترب ((ابن الساحة)) من نديده رجل ((المناخة)) ويجيبه مبتسماً: لك ما تريد يا ((أبا ساعد)). ولوهلة تذرف عينا صديقي بالدمع وهو يقول ((رطن)) أبو قدور حذرنا من الاعتداء على أحد، وقال الكلمة رجال.. ثم لعبنا واختلط أهل المناخة بالساحة وذهبنا بعد منتصف الليل إلى دورنا ولم تتسخ ثيابنا بما كانت تتسخ به من قبل وتعجب الناس من ليلتنا تلك التي سادها الصفاء وكان الفضل فيها للرجل الذي تمرس بشؤون الحياة وشجونها ولم تغب عن ذهنه عواقب الفرقة والتشتت حتى عندما يخرج الناس ليلهوا ساعة من ليل أو نهار ثم يعودوا أدراجهم وقد امتلأت نفوسهم من جديد بحب الحياة والتمتع بما أحله الله لعباده فيها.
وعرفت الرجل الحكيم يجلس في المناخة وهو يرتدي ثوباً زينت فتحاته ((بالقيطان)) ولكنه لا يغشى لعباً ولا يذهب إلى حلقة، بل يمد بصره بين الحين والآخر إلى ذلك الشارع المستقيم الذي يصل المناخة بساحة المسجد - شارع العينية - فصديقي يتعجل موعد الأذان وانطلاقته من منارة المسجد ليسلك شارع الجلال والجمال في طيبة، ويهبط إلى تلك الساحة الكبيرة التي كانت تقوم أمام المسجد وأبوابه المتعددة التي كان صاحبنا يختار من بينها باب الرحمة.
كان ينظر إلى ذلك العقد الجميل الذي يرتفع فوق الباب، هو لا يقرأ، ولكنه يسمع من الناس أن الآية التي نقشت حروفها فوق ذلك العقد هي قوله تعالى قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر: 53).
وفي طلعة يوم جميل من أيام المدينة المشرقة بالنور كان الرجل ينام تحت تلك الشجرة الكبيرة ذات الأغصان الكبيرة بالقرب من باب ((الكومة))، وهناك صعدت روحه إلى بارئها وهو يردد الشهادتين، يومها أدركت لماذا يصر الناس في البلدة الطاهرة على الدعاء لأنفسهم ومن يحبون بحسن الخاتمة.
روى صديقي روايته ثم انصرف ودمع غزير يروي لحيته الكثة التي جللها الشيب وسمعته يردد هذا القول البديع من الشعر:
يا قرينَ السُّوء مَا هَذا الصِبا
فنَى العُمر كذا في اللعبِ
شَبَابي بَان عنّي فمضى
قبل أن أقضِي منه أربي
ما أُرَجى بعَده إلاّ الفَنَا
ضَيقَ الشّيْبُ عليّ مطلبي
وَيْحَ نفسي لا أراهَا أبداً
في جميلٍ، لا ولا في أدب
نفسي لا كنتِ ولا كان الهوَى
راقِبي المْولَى وخافي وارهبِي
 
طباعة

تعليق

 القراءات :678  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 84 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الغربال، قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 1999]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج