شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سائح في ديار الأنس
لن تغيب عن ذهن الفتى صورة ذلك الرجل الذي كان يتنقّلُ بين بَابيِ الرّحمة والسلام، تتدلى من عنقه حقيبة يبدو أن القدم أدَّى إلى تآكل أطرافها، وكان الرجل بقية أولئك القوم الذين صفت نفوسهم فلا يلتفتون إلى شيء من أمور الدنيا، إنهم يستشرفون أفق الحياة من عَلٍ فيبدو كل شيء لهم تافهاً وحقيراً، وكان الفتى لا يجرؤ على الاقتراب من هذه الشخصية الغريبة، إلا أنه كان شديد التعلق بها، فلا ينسى ذلك اليوم الذي صلَّى فيه الناس صلاة الصبح، وكان اليوم من أيام الصيف التي يشتد فيها الحر فيهرب الناس إلى ((الحَصْوة)) الفاصلة بين جزئي المسجد فيصلون فيها، وما إن انتهت الصلاة حتى انتصب الرجل قائماً.
لقد أدى صاحبُنا رسالته وتهيأ للانصراف من المسجد فازداد تعلّق الفتى بسلوك الرجل وعزم على أن يتبعه في مسيرته، فسلك الطريق المعهودة: سُويقة، ثم باب المَصري، ثم سوق الحبّابة، ثم المنَاخَة الصغرى، ثم واصل سيره إلى درب ((قباء)) والذي كانت البساتين تنتشر على جانبيه، النخيل وأشجار الرمان والليمون، ولما كانت الشمس لم تطلع بعد، فلقد كان صوت ((السّاقية)) يختلط بأصوات الطيور التي كانت تنتقل من شجرة إلى أخرى حرة طليقة كنفس هذا الرجل تُحلق في آفاق الحب والصفاء.
كان الرجل يسير وحقيبته في عُنقِه، وعمامة متميزة في تَكْويرها فوق رأسه ومسبحة أقرب ما تكون إلى القصر منها إلى الطول تتحرّك بين أنامله ولا يصعب عليك وأنت ترى حركة السبحة أن تلحظ تحرّك شفتيه بشيء من الذكر.
وفجأة يلتفت الرجل يمنة ويسرة ثم يسلك طريقاً ضيقاً ومتعرجاً من تلك الطرق التي كانت تصل البساتين بعضها ببعض. وكان على الفتى أن يكون حَذراً لكي لا يُبصره الرجل، فيُفسدُ عليه ما هو فيه من ((صفاء))، وتضيع على الفتى تلك اللحظة التي يعتبرها منحة إلهية تمكّنه من معرفة شيء مما تنطوي عليه تلك الشخصية من أسرار. واستقر المقامُ بالرجل في ناحية نائية من نواحي أحد البساتين، ثم إذا به يَخْلعُ تلك الحقيبة من عُنقه، ثم يفتحها ويخرج منها ((سجّادة)) ويستقبل القبْلةَ ليُصلَّي.
وكانت صلاته صلاة العارفين.. فقد كان مُستغرقاً فيها كل الاستغراق، عَيناهُ متجهتان صوب الأرض وروحه مُحلقة في السماء وجوارحه مطمئنة لا يشغلها شيء مما يشغل أهل هذه الدنيا من أمور، وكأن لسان حاله يقول: وهل في الدنيا شيء يستحق أن نهتم به ونأسى عليه؟ وقضى الرجل صلاته ورفع يديه إلى أعلى.. كان يناجي الإله بصوت منخفض، وقلب منكسر، وعين تنهمر، كانت الدموع تتساقط حَبّات على لحيته البيضاء وكانت ((الساقية)) بجانبه تجري بمائها، وكانت دموعه تشكل نهراً تسبح فيه نفسُ ذلك العارف وتحترقُ به هذه الحواجز التي تقوم بين الناس وبين عالم الروح الباقي، وكان الفتى يحدِّث نفسه قائلاً: أين أهل الدنيا من هذا النعيم الخالد؟ وتذكّر قول أحد العارفين: ((لو علم أهل الدنيا ما نحن فيه من لذة لجالدونا عليها بالسيوف)).
يا صديقي يا من استوحش من صحبة الخَلْق وأنس صحبة الخَالق.. أيها الغَارق في عوالِم التجرّد والسّابح في آفاق الروح والطائر في دنيا الأسرار.. يا من تُضيء دموعه ظلمة الليل البَهيم.. أنت تُناجي رَبّ الملكوت وغيرك يُناجي الفاني من دنياه، أنت تبكي شوقاً لعالم الخلود، وغيرك يبكي ديناراً خسرهُ، ودرهماً أضاعهُ، أنت تتعذّب ألماً باحثاً عن لحظةِ الرّضا والقبول، وغيرك يتعذبُ بحثاً عن ساعة الكَسب الدنيوي، يا صديقي يا من يشهد الفجر مُتألقاً في نفسه قبل أنْ يشهدَه في عالم الحقيقة، يا رفيقي يا من شهد لمحة الضياء في عالم الظلام فبقي هناك مبهوراً بما رأى مستغرقاً في ما شاهد يا من واتته لحظة الرضا وأُكرم بمنحة المناجاة، إنني أبحث عنك اليوم في منعطفات ((الساحة))، وأترقّب مجيئك إلى ديار كانت نفسك تأنس إليها، وأقول غداً في صلاة الفجر يبرز وجهه المضيء بين الوجوه، غداً يُذكِّر الناس بحقيقة دنياهم عندما يضرب الأرض ويُخاطبهم بلغة الحقيقة التي تعجز عقولهم عن إدراكها، غداً أرى شبحه بين الأشجار، وأشهد دموعه وهي تروي الأرض الظّامئة لكلمات الوجد الإلهي، المتطلّعة إلى الحياة المتمرِّغة في التُّرب شوقاً إلى الله وحبًّا فيه، وأظل أمني النفس.. ولكن الأمد يطول دون أن أجدكَ، إنك يا صديقي تعيش في وجداني لا تُفارقه أبداً، وأرى طيفك الجميل في منامي فأستيقظ من نومي وأنا أردد قائلاً: يكفيني طيف الرفيق إذا ما عزّ لقاؤهُ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :633  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 80 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج