شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (15)
لم تكن تلك الكلمات في رثاء الشيخ عبد الله بصنوي التي عبر - من خلالها - العلماء والمثقفون، من أمثال: معالي الدكتور عبد الله نصيف، ومعالي الأستاذ أحمد زكي يماني، ومعالي الدكتور محمد عبده يماني، وسعادة الأستاذ محمد سعيد طيب، وغيرهم.
لم تكن مجرد كلمات عبروا - من خلالها - عن حبهم لهذه الشخصية الفريدة، التي عاشت فوق ثرى الأرض المباركة، تدعو إلى الخير، وتحسن إلى الضعفاء والمساكين، وتكرم أهل الفضل، بل كانت - إضافة إلى ذلك - شهادة صادقة، ودليلاً حياً على أن النفوس تنزع إلى رؤية الومضات الإنسانية، والمثل العليا، وهي تتجسد في هذه الدنيا، التي كثيراً ما تزخر بجوانب أخرى، يمكن وسمها بالانحدار أو الظلمة والقتامة. ولعل في قول الشاعر السيد محمد حسن فقي تعبيراً صادقاً عن هذه الحقيقة والتجربة المعاشة:
إنَّ الذي خلقَ الحياةَ حفيلةً
بالشّرِ أنقذنا ببعض خياره
لقد عرفت الفقيد عن قرب، وصادقته لأمد، وكنت كثيراً ما أُحدِّثُ نفسي، كيف تكون الحياة التي نعيشها لو كان معظم الناس فيها على هذا المثال الصادق من الأخلاق، وتلك النظافة من السلوك؟
إنها - بلا شك - سوف تكون أكثر إشراقاً، وأنضر وجهاً، بل سوف يزداد تعلّقنا بالحياة، حُبًّا لها، ورغبةً في التمتع بمباهجها.
وكانت هذه الخطرات، التي أحس بها تعتمد على ما كنت أشاهده بعيني، وأقف على حقائقه الماثلة بنفسي، فكثيراً ما كان يأتي - رحمه الله - في وقت متأخر من الليل أو النهار إلى داره في ((حي الشامية)) بعد أن يكون الناس قد استنزفوا وقته، واستفرغوا جهده، فلا يستقر به المقام في الدار، إلا والمنادي يناديه لقضاء حاجة من الحوائج فكنت، رأفة به - رحمه الله - أخرج رأسي من النافذة، لأطلب من المنادي أن يعود في وقت آخر، لأن الشيخ قد أخلد للراحة، ولكنه - رحمه الله - يسبقني للإجابة من الدور العلوي في الدار، وتكون إجابته مقتضبة: سوف أنزل إليك الآن.
وكان هذا يشجع الناس على المجيء إلى داره في أي وقت شاؤوا، ولا يتحرجون في ذلك، لأنهم يعلمون أنه نذر نفسه، وقف وقته للمجتمع، الذي يعيش فيه.
ومن غرائب الأشياء أن البعض كان يطلب منه التوسط لدى أناس لا يرغب في الحديث إليهم، ولكنه لا يرفض الطلب، ويذهب دون أن تشعر بغضاضة منه في هذا الشأن.
وكنت - ذات مرة - أسير معه في حي الشامية، وكان بينه وبين واحد من أهلها سوء تفاهم، ألقيت السلام على هذا الرجل، ولما تجاوزناه - قال لي: لقد أدخلت السرور عليّ بسلامك على هذا الرجل وسوف ينصلح ما بيني وبين هذا الأخ في الله قريباً - إن شاء الله - في الوقت الذي كثيراً ما يطلب منا بعض الناس أن نحب من يحبون، ونبغض من يبغضون.
لقد أكرم الله ((البصنوي)) ونزهه عن كثير من تلك الأخلاق الذميمة والسلوكيات المنفرة، فكان نموذجاً منفرداً في أخلاقياته، وصورة ساطعة للسلوك الإسلامي الذي حثتنا عليه آيات الذكر الحميد، ونصوص السنة الشريفة، والمنزهة عن كل هوى.
كان يجزل في العطاء للمحتاجين من الفقراء والمساكين، الذين كانوا يحيطون به ليلاً ونهاراً، لإيثاره لهم بحبه، وعطفه، وقربه.
وكان إذا أعطى ولقد حدَّثني بهذا بعضهم بعد انتقاله إلى رحمة الله - كان يقول لهم في حياءٍ وخجلٍ نادرين: عسى أن تكونوا راضين عنا.
ولقد كتبت مرة مقالاً عن صفاته على صفحات جريدة المدينة، فطلب من زوجته الصالحة - وهي أم لي لأنها رعتني وربتني كأبنائها - طلب منها أن تتصل بي هاتفياً، وتطلب مني ألا أعود إلى الكتابة عنه مرة أخرى، لأنه يعتقد أنه ليس في شخصيته ما يستحق الذكر والإشادة، وأنا وغيري يعلم أن كلمات اللغة وتعبيراتها تعجز عن إيفائه حقه من الوصف والإشادة.
ومع أن أم أبنائه الكرام على خلق رفيع، وزهد نادر، إلا أنه يقول لي: يا أخ عاصم، أم الأبناء لا أسمح لها بدخول الغرفة التي تحتوي على أموال الصدقة التي يأتمنني الناس على إنفاقها على ذوي الحاجات.
ويضيف: الله يعلم أنني لم أصرف على أبنائي قرشاً واحداً من هذه الأموال، ولكنني أنفق عليهم من حر مالي.
وإذا طلبه أحدهم ديناً - وكثيراً ما يحصل هذا - فهو لا يدينه إلاَّ من ماله الخاص.
ومع أن جاهه كان مقبولاً عند جميع الناس، في هذه البلاد، من مسؤولين وغيرهم، فهو يرفض التوسط لأبنائه، ويطلب منهم أن يقضوا حوائجهم بأنفسهم، في الوقت الذي كان لا يبخل على الآخرين بجاهه وجهوده.
ولقد أدرك أبناؤه هذه الحقيقة، فرضوا بها، وتعاملوا معها بكل وعي وإدراك، فلقد نشَّأهم - رحمه الله - فأحسن تنشئتهم وأدبهم فأكرم تأديبهم.
ومن وفائه لأصدقائه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة أنه كان يكثر لهم من الدعاء، في كل ليلة، قبل منامه، ويتصدَّق عنهم من ماله الخاص.
وإنَّه ليذكر جميع أصدقائه، دون تخصيص، ومنهم الذين مضى على وفاتهم أكثر من نصف قرن من الزمن، ولهذا لم يكن غريباً عليّ أن أرى تلك الجموع المحتشدة في مقبرة المعلاة، تنتظر تشييعه إلى لحْدِهِ في تلك التربة المباركة.
ولقد سمعت فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل، الرئيس العام لشؤون الحرمين، (سابقاً) وهو يُثني على صفات الرجل الذي رفع الأذان من فوق منائر المسجد الحرام، لأكثر من نصف قرن.
وسمعت أصواتاً يخنقها البكاء، وهي تقول: اليوم يُعزَّى فقراءُ مكة ومساكينها.
يا أبا محمد، يا قارئ القرآن في جوف الليل، يا طائفاً بالبيت في ضحى النهار، يا خفيض الصوت عند الحديث، يا أنس الأحباب في مجالسهم، يا حليماً عندما يستبد بالناس الغضب، ويا فارساً عندما يتراجع الآخرون عن الإقدام على المخاطر.
يا أبي، ويا معلمي، ويا صديقي، مثلك لا يُبكى عليه، فلقد وهبت حياتك للإحسان، وأنفقت عمرك في فضائل الأعمال، ولكنه الفراق، وما علينا إلا التمثل بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وقدوتنا، إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون.
عزائي لأهله وأبنائه وأحبابه الذين كانوا يلتفون حوله، ولم يكن لهم من هدف سوى الاستفادة من تلك السجايا النبيلة والنادرة التي اجتمعت في شخصه، وإنهم ليعرفون عن سلوكيات هذا الرجل - والتي أشرت إلى لمحات منها في هذه المقالة - يعرفون الكثير عن زهده وترفعه وورعه، ولكن وفاته المفاجئة أصابتهم بكثير من الذهول، وأفقدتهم القدرة على التعبير. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :628  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 69 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء التاسع - رسائل تحية وإشادة بالإصدارات: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج