شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شباب العرب في ضيافة ملك العراق
ما دمنا في إسهاب الحديث عن البعثتين الكشفيتين: بعثة الكشافة العراقية، وبعثة الكشاف العربي في دمشق، فإن الاستطراد يقتضي مني وقد شاركت بما ذكرت في البعثتين المشار إليهما في ما سبق، أن أذكر بعثة جامعية ثالثة قدر لي أن أكون بين أعضائها إلى قطر عربي عزيز وهو العراق من قطر عربي عزيز آخر وهو لبنان. فقد كانت في الجامعة الأمريكية في بيروت جمعية عربية قومية أدبية تسمى جمعية "العروة الوثقى"، أنشأتها الجامعة الأمريكية منذ سنوات عديدة قبل وصولي إليها في عام 1935م، لتستقطب تلك الجمعية الطلاب العرب من أقطارهم العربية المعروفة، حتى يجدوا فيها مجالاً واسعاً للتمرين على إنشاء المحافل والجمعيات التي تنمي عقيدتهم العربية القومية في ذلك الوقت، الذي خرجت فيه الأقطار العربية من الحرب العالمية الأولى متحررة من النفوذ الإسلامي العثماني إلى النفوذ الاستعماري الفرنسي في سوريا ولبنان والمغرب، والإنجليزي في العراق ومصر وجنوب الجزيرة العربية وفلسطين، والنفوذ الإيطالي في ليبيا.
وكانت القومية العربية والدعوة إليها وإثارة غرائزها قد نمت وظهرت منذ أوائل القرن العشرين الميلادي، وأواخر سني الحكم العثماني عندما انبثقت في دول البلقان التي كانت تحت النفوذ العثماني كاليونان وبلغاريا ورومانيا وما يسمى بيوجوسلافيا اليوم وألبانيا، قوميات تلك الشعوب العديدة المختلطة والمتناثرة والمتحاربة، والتي كانت تحقن من قبل الغرب وروسيا القيصرية، وتشحن بإثارة قومياتها العنصرية التي تستطيع بها التمرد والانفصال عن النفوذ العثماني المسلم يوم كان مسيطراً على جميع تلك الأقطار.
ولقيت القومية يومئذ أرضاً خصبة في تلك الشعوب، لأنها كانت قد نجحت ووجدت أرضاً خصبة في منابعها الأولى، التي صدرت عنها كألمانيا الموحدة بقيادة زعيم وحدتها قبل ذلك "بسمارك"، وكإيطاليا التي توحدت دويلاتها المختلفة والمتنافرة والمتحاربة تحت سيطرة زعيمها المشهور أيضاً "غاريبالدي"، وعندما اتحدت ألمانيا بعد صراع مرير بين إماراتها وعناصرها ودويلاتها، واستقرت على ما كان يسمى الرايخ الأول ثم الثاني، واتحدت إمارات إيطاليا المختلفة في صقلية وفينيسيا ونابلي وجنوه وتوسكانا وروما والأقطار الشمالية منها. استقرت حينئذ في نظام ملكي مشابه للنظام الإمبراطوري في ألمانيا، سرت عدوى هاتين القوميتين الجرمانية والإيطالية، إلى شعوب البلقان تحت رعاية وتغذية وتنمية وإيحاء ألمانيا وإيطاليا وروسيا القيصرية وفرنسا وبريطانيا. فتناثرت مبادئ القومية بين شعوب البلقان، وقامت الثورات الشبيهة بالثورات التي قامت في ألمانيا وإيطاليا قبل ذلك، وكلها كانت تصبو بعون وتوجيه ومساعدة تلك القوى الأوروبية الكبيرة لتدمير الإمبراطورية العثمانية وتحطيمها ومحوها من الوجود.
في تلك العهود التي كانت الدولة العثمانية تمد ظلالها على إمبراطوريتها الشاسعة الواسعة في شرق وشمال أوروبا وفي غرب وجنوب آسيا، كان العربي يسير من عدن المعروفة على المحيط الهندي صاعداً في أرض مستمرة إلى الشام ولبنان والأناضول وآسيا الصغرى، ومن ثم يستمر سائراً ومسافراً – إذا افترضنا أنه على قدميه – إلى بلغاريا ورومانيا، وما يسمى اليوم بيوغوسلافيا، وإلى المجر، حتى يصل بعد ذلك إلى أسوار مدينة "فيينا" عاصمة النمسا، وفي كل هذه الرحلة لا يحتاج العثماني والعربي الذي كان عثمانياً إلى حمل جواز سفر ولا هوية، لأنه كان يمشي في بلاده وتحت علمها إلى أن يصل كما قلنا إلى حوض نهر "الدانوب" في "فيينا".
هذه الإمبراطورية الشاسعة الواسعة، التي قامت منذ العصور الوسطى وأصبحت في عشرات السنين أكبر قوة ضاربة في شرق أوروبا، يتردد إلى خلفائها أباطرة وملوك الروس والجرمان والإيطاليين والفرنسيين والإسبان، حتى نصل إلى أباطرة وملوك بريطانيا.
إذن كانت المؤتمرات السرية والعلنية التي تعقدها الدول الغربية والشرقية، تختلف فيما بينها اختلافاً يستوجب حمل السلاح وخوض الحرب، ولا يتفق إلا في نقطة واحدة في جميع تلك الدول، وهي كيف السبيل إلى تفتيت الإمبراطورية العثمانية وإزالتها واقتسام جميع تلك الأقطار الإسلامية والعربية التي كانت تحت سيطرتها، واستعمارها من قبلهم.
أما الأقطار التي كانت تحت النفوذ العثماني فالسعي كله كان على استقلالها من النفوذ العثماني أولاً، ثم تقويتها وجعلها دولاً قوية تسير في الفلك العربي والشرقي.
عمل الغرب أيضاً على إثارة القومية في الأقليات التي تتألف منها الدولة العثمانية نفسها، فأثاروا النعرة والقومية الطورانية، حتى تستقطب شباب الشعب التركي المتطلع يومئذ إلى حياة غربية شبيهة بالحياة التي يراها في الدول الكبيرة المحيطة به، ونفخوا في الشباب التركي من روحهم للتمرد على الإسلام، الذي كان دين الدولة ولواءها وعرش خلافتها، لتنشأ دولة تركية عنصرية تقوم على قومية لا دينية، كما حصل بعد ذلك بتطور الحوادث حتى وصلت تركيا إلى هذا المجال المرسوم لها رسماً مبيتاً سراً وعلناً.
وقامت الأقلية الكردية أيضاً تبحث عن قومية تشابه قومية تركيا، وقام الشعب اليوناني الذي كان تحت النفوذ العثماني أيضاً يبحث عن أصله وفصله بثورات متوالية وحروب متتالية ضد الدولة العثمانية، حتى استقل وانفصل وأصبح دولة مستقلة.
وحصل في الجبل الأسود، وفي ألبانيا، وهي جزء من الدولة العثمانية، وكانت من أقوى الأجزاء التي تتألف منها تلك الدولة، أن قامت فيها ثورات قادها دعاة للقومية الألبانية حتى انفصلت عن الدولة العثمانية بدورها، وأصبحت اليوم دولة قومية وعنصرية لا دينية.
وجاء دور العرب، فتحركوا كما تحرك غيرهم يريدون التخلص من العهد العثماني، بما فيه من تاريخ إسلامي ارتبط بهم وشاركوا فيه، وجاءهم التشجيع أيضاً من أنفسهم ومن قادتهم الذين تخرجوا وتعلموا في المدارس الغربية، والذين درسوا القوميات الشرقية والغربية بدورهم، وعرفوا كيف قامت فيها الثورات والصراعات والانفصال بعضها عن بعض، أو الاتحاد بعضها مع بعض، حتى استقرت في مستهل القرن العشرين على ما استقرت عليه.
قامت الثورة في الحجاز بوعود من بريطانيا للملك حسين شريف مكة يومئذ، بعد أن اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى في عام 1917م، وكانت المفاوضات السرية وجس النبض وتبادل الرسل قد بدأت فور اندلاع الحرب، لينضم الشريف حسين إلى الخلفاء الدين أعلنوا الحرب على الدولة العثمانية، على وعود تمخضت عنها تلك المفاوضات السرية سميت فيما بعد بوعود "مكماهون"، وهو أحد قادة الإنجليز الدهاة الذين استقروا في القاهرة قلب البلاد العربية، والتي كانت محتلة من قبل الإنجليز، وفي تلك الوعود رسائل متبادلة بينه وبين الشريف حسين، تتعهد فيها بريطانيا بلسان رجلها المطلق النفوذ يومئذ "مكماهون" في البلاد العربية باستقلال جميع البلدان العربية الآسيوية كلها، من عدن واليمن والحجاز وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين حتى جبال "طوروس"، وهي حدود الأناضول في الشمال الغربي من آسيا الصغرى.
وتم الاتفاق على ذلك فقام الشريف حسين بما سمى بعد ذلك بثورته في عام 1916م، يقودها أبناؤه الأمراء: علي وعبد الله وفيصل وزيد، وجرت الأمور حينئذ بما يعلمه الجميع بانتصار الحلفاء على الدولة العثمانية، وقد تفككت بسبب هذه الزعازع والزلازل والحروب المركزة عليها لتدميرها، وسقطت البلدان العربية حينئذ تحت النفوذ الإنجليزي والفرنسي، كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، لأنه في نفس الوقت الذي كانت المفاوضات السرية تجري بين "مكماهون" وبين الشريف حسين في القاهرة وجدة، كان مؤتمر يجتمع في مدينة صغيرة بإيطاليا تسمى "سان ريمو"، صدرت عن اجتماعات الحلفاء الغربيين ومعهم روسيا القيصرية يومئذ قبل الثورة البلشفية المعروفة بعد ذلك في عام 1917، وسميت نتائجها وقراراتها التي صدرت عن ذلك المؤتمر بمعاهدة "سايس بيكو" المستر سايس هو المندوب البريطاني، الذي تولى صياغة تلك المعاهدة، والمسيو بيكو هو المندوب الفرنسي في جناح الحلفاء المشتركين في تصفية الإمبراطورية العثمانية، ولم يعلم العرب ولا الشريف حسين طبعاً يومئذ بما جرى، ولا بما تم ولا بتلك المعاهدة التي قسمت الأجزاء المنفصلة عن الدولة العثمانية، إلى ما أصبح بعد الحرب العظمى الأولى يعرف كما قلنا بمصر والسودان وفلسطين والعراق وجنوب الجزيرة العربية للإنجليز، وسوريا ولبنان لفرنسا، وليبيا لإيطاليا، والمغرب الأقصى بالفعل تحت النفوذ الفرنسي من تونس إلى الجزائر إلى المغرب، إلا بعد اندلاع الثورة الشيوعية في روسيا والقضاء على الحكم القيصري فيها، وانفصالها عن حلفائها الغربيين المشار إليهم الذين دخلت الحرب معهم ضد ألمانيا والمجر وبعض دول البلقان والدولة العثمانية حليفة هذا المحور.
وتم كل شيء في العام العربي يومئذ وفق ما اتفقت عليه الدول العظمى، وأصبحت البلاد العربية تحت الاستعمار الغربي، وأعلن وعد بلفور الذي كان مبيتاً بين الوعود التي كانت مقررة، ثم أعلنت بعد ذلك وأفاق العرب على أنهم حاربوا النفوذ العثماني ليتحرروا منه ومن خلافته الإسلامية، فوقعوا تحت براثن الاستعمار الغربي الجديد، وتحت براثن الاحتلال الإسرائيلي فيما بعد، وهو ما لم يمر لهم على بال ولم يفكروا فيه. ولم يتصوروا في يوم من الأيام أن قيامهم مع بريطانيا وفرنسا سيوردهم المورد الذي وقعوا في شراكه، ولا يزالون يتخبطون بعد ذلك للخروج من تلك الشباك في صراع طويل انتهى بعد الحرب العظمى الثانية بوقوع الجميع في شباك وحبائل إسرائيل، وهو ما هم اليوم فيه.
في هذه الأعاصير، وفي هذه المفاجآت التي لم يحلم بها العرب ولم يعلموا ولم يتوقعوا أبداً، شباب العرب بدورهم في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن يتحسسون مواقعهم ويبحثون عما يخرجهم من ظلمة الاستعمار الغربي إلى نور الاستقلال الذي وعدوا به، ثمناً لمشاركتهم في حرب الدولة العثمانية والثورة عليها والانقضاض على قواها في بلادهم، وكانت هناك جمعيات قومية عربية محدودة، قد قامت وظهرت في السنوات الأخيرة من سنوات الدولة العثمانية، قامت في إسطنبول وفي بعض البلدان السورية، لتدافع عن العرب أما عنصرية الشباب التركي "الطوراني" الذي اعتنق الطورانية التركية مبدأَ قومياَ له، يتملص بها من ظلال الإسلام والخلافة تحت إغراء وعون ومساعدة الغرب، فكان من خططه أن يدعو إلى تشجيع الشعب التركي على قيام دولة طورانية، وهو العنصر الأول والقبلي للشعب التركي، يخرج بها الشعوب العربية الإسلامية التي التصقت وانضمت إلى الدولة العثمانية للاحتماء بها من الغرب والتحصن بقواها العظيمة يومئذ من هجمات الاستعمار الغربي على البلاد العربية، بما في ذلك هجمات الاستعمار البرتغالي والإسباني والفرنسي والإنجليزي على مواقع وأقطار الشمال والغرب الإفريقي، وما كان يحيط بالعالم العربي من أفريقيا وآسيا يومئذ، ولعبت تلك الجمعيات القومية التي ظهرت في إسطنبول دوراً أولياً للدفاع عن العرب وعن مكانتهم، وعن تراث الإسلام الذي يحمله الشعب التركي نفسه. ولكن كان الأمر قد بيت من القوى الغربية ورسم وصدرت التعليمات بتنفيذه في شتى الميادين المختلفة من رقعة الشرق الأوسط والبلاد العربية بصفة خاصة، هذا ما دفع بعض طلاب الجامعات – ولا جامعات يومئذ في مستهل القرن إلا الجامعة اللبنانية والجامعة الأمريكية – لتنشيط ونمو هذا الشعور بالضياع، والتفكير في أن يحذو حذو الدول القومية الغربية بما فيها الدول العلمانية التركية التي قامت على أنقاض الإمبراطورية العثمانية وهكذا كان.
نعود إلى الحديث عن جمعية العروة الوثقى التي استهللنا بذكرها في هذه الحلقة، ونقول بأن الجامعة الأمريكية في بيروت بسبرها أغوار الأجيال الصاعدة تحت أنقاض كارثة انهيار الدولة العثمانية وكارثة انهيار الآمال والوعود من "مكماهون" في الأقطار العربية المشار إليها، والتي لها بين جدران الجامعة وفي صفوف كلياتها أكبر عدد من الشباب العربي الذين التحقوا بها ليدرسوا ويتعلموا، ويتخرجوا بعد ذلك على المنهاج الغربي المعروف في الغرب بشطريه الأوروبي والأمريكي.
فقد رأت الجامعة إفساح المجال للمتحمسين من طلابها في أن تكون لهم ندوة عربية يلتحقون بها وينتمون إليها، ويجتمعون فيها تحت إشراف مستشار من كبار رجالات الجامعة وأساطينها، يسهل لهم اللقاء والبحث والخطابة والدرس والأحاديث القومية التي يفرجون بها همومهم وكروبهم مما وقعوا فيه، وهكذا قامت جمعية العروة الوثقى ليلتحق بها من شاء من طلاب الجامعة المنتمين إلى أي قطر عربي، وفتح لها مجال الاجتماع والتجمع في جو ديمقراطي يستطيع فيه كل طالب أن يبدي وجهة نظره التي تحصل عليها على مقاعد الدراسة العلمية في كلياتها، وتنتخب لها رئيساً ممن يرتضيه الطلاب المنتسبون إليها، على أن يكون سير العمل فيها تحت إشراف مستشار تعينه الجامعة. وأتذكر أن في أوائلهم الدكتور الكبير قسطنطين زريق، الذي ألف كتاب الوعي القومي في أواسط الثلاثينيات من هذا القرن، واضعاً اللمحات التي يجب أن تتلون بها القومية العربية التي تدعو إليها جمعية العروة الوثقى، وانتشرت الفكرة لأن الشعور بها قد كان كما قلنا رد فعل للخيبات والنكبات المتوالية التي مرت على البلاد العربية، وكلها تقريباً من الغرب.
وقد انتمى إلى هذه الجمعية وعمل فيها واشتهر بمبادئها عدد كبير من متخرجي الجامعة الأمريكية في بيروت، الذين أصبحوا في نصف القرن الحالي أصحاب الأسماء الكبيرة أو اللامعة في بعض مجالات السياسة والعلم والتربية والاقتصاد والاجتماع والعسكرية.
وعندما اجتمع المؤتمرون لوضع أساس هيئة الأمم المتحدة في "سان فرانسيسكو) عام 1945، كان بين رؤساء وأعضاء الوفود العربية عدد بارز من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت، ومن الملتقين مع مبادئ جمعية "العروة الوثقى"، أذكر منهم بدون ترتيب ولا إطالة: الرئيس فارس الخوري، والدكتور شارل مالك، والدكتور قسطنطين زريق، والدكتور فاضل الجمالي، وغيرهم من خريجي الجامعة الأمريكية. ثم التحق بالوفود العربية على هيئة الأمم خلال الأربعين عاماً المنسلخة من عمرها عشرات آخرون من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت، أو المنتسبين إلى العروة الوثقى فيها، وبين رجالات الثورات العربية التي قامت في العالم العربي وفي فلسطين بالذات عشرات من المتخرجين من تلك الجامعة والمنتسبين إلى العروة الوثقى.
نعود إلى جمعية العروة الوثقى بعد هذه الإطالة التي آمل ألا تكون مملة، وإن كانت في ذاتها لمحات عابرة جر إليها الاستطراد واقتضاها الإسهاب، فعندما وصلت إلى الجامعة الأمريكية في بيروت في عام 1935م، والتحقت بالصفوف الأولى من الكلية الثانوية العامة، لضعفي في اللغة الإنجليزية، فقد كنت وعددٌ من رفاقي في مدرسة الفلاح قد قاطعنا دروس اللغة الإنجليزية التي فرضت يومئذ علينا ولم نرض بتعلمها، فلما قدر لي الالتحاق ببيروت كانت اللغة الإنجليزية بالنسبة لي عائقاً في مواكبة الصفوف العالية في الكلية الثانوية، التي كان بإمكاني بما تلقيت من علوم العربية في مدرسة الفلاح والمسجد الحرام، أن أتخطى بعضها إلى أعلى منها لو كانت لغتي الإنجليزية تساعد على ذلك، غير أني برغم ذلك قد بدأت فور وصولي إلى بيروت في الانغماس في تتبع الشعر والأدب، ولقيت المجال واسعاً جداً لشاب متطلع مبتديء مثلي، ورأيت في طلاب الجامعة في صفوفها العليا عدداً كبيراً من النابغين المشهورين بالشعر والأدب، وكانوا كلهم أعضاء ينتمون إلى العروة الوثقى. وقد تفضلت العروة الوثقى في الأسبوع الثاني من وصولي وقد بلغها خبر البعثة السعودية التي كنت عضواً فيها، أن دعتني إلى حفل يتعرف فيه أعضاء الجمعية المنتمون إلى كل البلاد العربية وأن ألقي بينهم قصيدة يتعرفون بها على أول شاعر يجيء من الحجاز.
أصدقاء العروة الوثقى
في ذلك الحفل الذي ترأسه رئيس العروة الوثقى يومئذ الدكتور – في ما بعد – عمر الخليل وكان عربياً قومياً، تعرفت على عدد من الشعراء أذكر بينهم الصديق الأستاذ رشدي المعلوف، والشاعر المعروف سعيد عقل، الذي لا صلة له لا بجمعية العروة الوثقى ولا بالجامعة الأمريكية ولا بالقومية العربية. ولكنه كان يُدعى لإلقاء بعض قصائده، إما في الجمعية وإما في قاعة المحاضرات المشهورة بالجامعة في بناية "وست هول".
وعرفت يومئذ أيضاً الصديق الدكتور محمد عبده غانم، وهو من عدن تخرج من الجامعة في أواسط الثلاثينيات، وعاد إلى بلاده فأصبح مديراً عاماً للمعارف في عدن، تخرج على يديه سواد المثقفين والمتعلمين في كليات عدن ومعاهدها ومدارسها، وعرفت الأستاذ الشاعر عيسى العيسى، الذي تخرج من الجامعة وكان عضواً في العروة الوثقى، ثم عاد إلى بلاده فلسطين، وكان يحرر في إذاعة الشرق الأدنى يوم كانت في القدس، وينشر من أشعاره قصائد في المجلة التي كانت تصدر عنها ويشرف عليها عدد من أدباء فلسطين.
وعرفت فيها الصديق الشاعر حسين سراج وهو سعودي في الطائف، كما لا يحتاج أن نقول والذي كان أردني الجنسية يومئذ، وكان لي أخاً كريماً مع شقيقه الأستاذ عبد الحميد سراج، الذي تنقل في مراكز دبلوماسية كثيرة في الأردن، كان آخرها سفيراً في إيطاليا، حيث توفي هناك، وعرفت أيضاً الدكتور أحمد كمال وشقيقه الدكتور علي كمال الطبيب اليوم في مستشفيات بغداد..
وجمعية العروة الوثقى يطول الكلام عنها، ولكني أقول إنها كانت مجالاً لي أرتوي منه وألتقي فيه بتلك النخبة من العالم العربي، الذين كانت أهوائي في تلك الأيام وما بعدها تلتقي معهم في الشعور العربي الجامع، والروح المتوثبة والإصرار العميق في أن نخدم البلاد العربية، وأن ندعو إلى وحدتها وجمع شملها، وعدم الاعتراف بالحدود الفاصلة بينها، وكانت الأناشيد والمحاضرات التي تدعو إليها الجمعية وتنشرها في مجلتها المسماة باسمها، والتي استمرت بضع عشرة سنة، فكانت لا تفوتني محاضرة فيها، وكان أكثر المنتمين إليها في تلك السنوات ما بعد 1935م إلى أن اندلعت الحرب في عام 1939م، وكنت أشارك في أكثر نشاطاتها ومحاضراتها للصداقة التي أشرت إليها مع القائمين عليها، خصوصاً الود الذي كان يشملني به مستشارها الدكتور قسطنطين زريق، والذي كان يرى في إفساح المجال لي في أن أكون بين أعضائها تمثيلاً للجزيرة العربية، حتى إن العروة قد دعت في سنة من سنواتها إلى مؤتمر عام للطلبة العرب في العالم العربي في الجامعة الأمريكية في بيروت، واختارتني كما سمتني في منشوراتها عن المؤتمر وبطاقاتها للدعوة إليه "ممثل الجزيرة العربية".
وأتذكر من أعضاء الجمعية التحضيرية لذلك المؤتمر الذين زاملتهم كما سموني واختاروني، ممثلاً للجزيرة العربية الأصدقاء الدكتور أحمد كمال، وقد سمى مندوباً في اللجنة التحضيرية عن فلسطين، والصديق الدكتور أمجد غنمة اختير مندوباً عن الأردن، وقد كان في أكثر سنواته الأخيرة طبيب شركة التابلاين من السعودية إلى لبنان، وآخرون من هيئة التحضير لمؤتمر الطلاب العرب، سموا مندوبين عن الأقطار العربية الأخرى سوريا والعراق ومصر ومندوب اليمن وعدن هو الدكتور محمد عبده غانم كما أشرت إليه، وكانت سكرتيرة اللجنة التحضيرية للدعوة لهذا المؤتمر الآنسة مديحة طه باشا الهاشمي من العراق.
الدعوة إلى العروبة والوحدة العربية:
وهكذا اشتهرت جمعية العروة الوثقى في الجامعة الأمريكية ببيروت بدعوتها إلى العروبة وإلى الوحدة العربية، والتعارف بين الأقطار العربية وتبادل الزيارات والمحاضرات واللقاءات بين الجامعات والمحافل العلمية وجمعيات الشباب، وعلى هذا وجهت وزارة المعارف العراقية وكان يرأسها يومئذ وزيرها صالح جبر ومديرها صديقنا معالي الرئيس الدكتور فاضل الجمالي أمد الله في حياته في عام 1939م الدعوة إلى العروة الوثقى، لاستضافة وفد من أعضائها يكون عدده حوالي الخمسين طالباً وطالبة، يزورون بغداد والمدن العراقية الأخرى، ويتعرفون على نادي "المثنى" وهو النادي العراقي العربي القومي الذي أنشئ يومئذ في قلب عاصمة الرشيد، فاستقطب دعاة الوحدة العربية المؤمنين بها والعاملين من أجلها.
وهكذا تألف وفد العروة الوثقى في ذلك العام 1939م قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الكبرى بشهور، وتألف من ذلك العدد المحدد من وزارة المعارف العراقية، واختارتني العروة الوثقى أن أكون بين أعضائها المؤلفين من الأقطار العربية كلها باسم ممثل الجزيرة العربية.
وهكذا كان استعدادنا لهذه الزيارات القومية التي كنا نحلم بها وبمثلها إلى الأقطار العربية الأخرى، وتوجهنا بالسيارات من بيروت إلى دمشق بعد ترتيب مسهب لبرنامج الزيارة تم بين الجمعية وبين وزارة المعارف العراقية، وقدمت فيه الأسماء. وكان رأس هذا الوفد بعض كبار أساتذة الجامعة وهم: الدكتور شارل مالك، والدكتور قسطنطين زريق، والأستاذ أنيس المقدسي، والأستاذ الصديق محمد كنعان الخطيب، والأستاذ يوسف صوراتي، وذلك النفر من الطلبة والطالبات الذين لا تحضرني أسماؤهم.
وصل الوفد إلى دمشق قبيل المغرب، فهيئت له ثلاث حفلات كبيرة، رأى المشرفون على الوفد، عندما حضرت الحافلات وتهيأت للانتقال إليها من التاكسيات الصغيرة التي حملتنا من بيروت، أن يعقدوا مؤتمراً سرياً بينهم يضعون فيه خطة تنظيم الطلبة والطالبات في السيارات الثلاث، لأن المسافة بين دمشق وبغداد كانت تقتضي السير ليلاً ونهاراً، حتى تقطع بها صحراء ما يسمى ببادية الشام أو صحراء سوريا الكبرى، فرأوا أن يضعوا الطالبات، وكان عددهن نحو عشرين طالبة، في إحدى السيارات الثلاث يكون سيرها بين السيارة الأولى والثانية خوف الضياع في ظلمة الليل ورمال الصحراء. فلم تكن الطريق يومئذ بين العاصمة الأموية والعاصمة العباسية مخططة ولا معبدة ولا مسفلتة، والضياع كان لمثل هذه السيارات التي يقطع بها السائقون البراري والقفار في ظلمات الليل وحتى في النهار كان يتكرر كثيراً، وكثيراً ما تنتج عنه الحوادث والكوارث.
وفرقوا الطلاب الآخرين في جداول بأسمائهم على السيارتين الأخريين، وأن يركب الأساتذة متفرقين في السيارات الثلاث، وقد فكروا في اجتماعهم الذي لم نعلم به. وكان اجتماعاً واقفاً على جانب الطريق في خطة السير في همس بينهم حتى لا يستمع الطلاب إليه، لأن الصراع والمنافسة والأماني كانت تجيش في صدور أعضاء البعثة من الشباب في كيف يكون إركاب زميلاتهم الطالبات، وهل سيكون مفرقاً في كل سيارة؟ وهذا ما كانوا يعتقدونه، فجاء ترتيب الأساتذة رؤساء الوفد خصوصاً الدكتور قسطنطين زريق -أمد الله في حياته- أن تكون السيارة الوسطى كاملة للطالبات، وأن يركب بجانب سائقها أستاذ اختاروه لوداعته وكبر سنه وهو الأستاذ يوسف صوراتي، وأن يكون معه في مؤخرة السيارة الكبيرة الخاصة بالطالبات أحد الطلبة.
وهنا جاء تداول الرأي بين الأساتذة فيمن يكون مختاراً من الطلاب أعضاء الوفد مع الطالبات، والصراع على ذلك كان ينتظر أن يكون ساخناً بين أولئك الشباب، فوقع اختيارهم على "عبد الله بلخير" بالإجماع، بعد أن رأوا وهم يبتسمون بان هذه المهمة التي يتطلع إليها هؤلاء الشباب يجب أن لا تكون إلا للشاب عبد الله بلخير، لأن أسباب ترشيحه واختياره متوفرة في رأيهم بأنه "ابن حلال" ومن مكة، فله في ذلك ما يبرر اختيارهم له ونزوله عند حسن ظنهم في أن يحافظ على القطيع، وأن يكون مع الأستاذ المشار إليه في المقدمة، مسؤولاً عن "حفظ الأمن" وسلامة الركاب.
وانتهى على هذا قرارهم في رسم سير سيارات الوفد في الموكب، وكان أعضاء الوفد مبتعدين عنهم يتسمعون إليهم ويتلقطون ما قد يصل من محاورتهم، ليروا كيف سيكون موضع زميلاتهم في الليلة الظلماء التي يفتقد فيها البدر، فلما انتهى الأساتذة إلى ذلك القرار، لا أزال أتذكر كيف رفع الدكتور زريق صوته منادياً، وقد بدأت ظلمة بعد المغرب. (يا شباب.. يا شباب، تفضلوا) فأقبلنا عليه طلاباً وطالبات، فقال لنا: خطة السير الآن لقطع العراء خلال هذا الليل حتى نصل إلى بغداد بعد مغرب الغد هي: أن يكون الفريق الأول من الشباب في السيارة الأولى، وسيكون معهم بجانب السائق الدكتور شارل مالك والأستاذ كنعان الخطيب، وسأكون أنا والأستاذ أنيس المقدسي بجوار السائق في السيارة الأخرى، وأن تتوسط السيارة الثالثة في سيرها بين هاتين السيارتين ويكون فيها جميع الطالبات، ويكون الأستاذ يوسف صوراتي بجوار سائقها، وأن يكون عبد الله بلخير في مؤخرة السيارة، وعلى هذا الترتيب يجب أن يكون السير، وانفجر الشباب صاخبين معترضين يصيحون، ومنهم من يضحك ومنهم من يحتج، ويقول: يا دكتور هذا ترتيب غير عادل، لماذا لا تتفرق زميلاتنا في السيارات الثلاث، وصاح أحد الزملاء لا أزال أتذكر اسمه الأستاذ أحمد السبع من قلقيلية في فلسطين. وكان ولا يزال من أعز أصدقائي يصيح على الدكتور: لماذا عبد الله بلخير بالذات وليس غيره يكون مع الطالبات؟ فقال لهم وهو يضحك: لأن عبد الله هو أبو الخير، ولن يصدر منه ما يخل بالأمن، وهو من مكة، جدير بأن يكون موضع الأمانة والرعاية لزميلاتكم الطالبات، كما أن أختيارنا للأستاذ الصوراتي كان مبيناً على مثل هذه العوامل، فكلكم يعلم أنه أستاذ كريم جدير مع عبد الله بلخير بمثل هذه المهمة، والتف حولي الطالبات يبدين سرورهن وفرحهن مهنئات على أن أكون في صحبتهن ومسؤولاً عنهن. وزملائي الشباب يمطرونني وابلاً من الشتائم، وما كنت والله في تلك اللحظة أعلم اختيار رؤساء الوفد لي لمثل هذه المهمة أهو مدح لي، أم قدح فيما لا أريد أن أسميه، وكل ما في الأمر أننا قد تواثبنا حينئذ إلى السيارات، وأخذت مقعدي في جو عابق من الصخب والضحك يجيء من سيارتنا متبادلة مع زملائنا الطلاب في السيارتين الأخريين.
وتم انتقال الجميع إلى مقاعدهم على هذا الترتيب، وصدرت تعليمات الدكتور قسطنطين زريق المشرف على الوفد إلى سائقي السيارات أن يكونوا صفاً واحداً متباعداً تجنباً لزوابع الأتربة التي ستثيرها مثل هذه السيارات الكبيرة في الصحراء، وأن يحرص الجميع على تتبع السيارات الثلاث، ومراقبة عدم ضياعها، وأن يكون هذا الحرص منصباً بصفة خاصة على السيارة التي تحمل الطالبات.
وهكذا هدرت محركات الحافلات، وأشعلت أنوارها من الداخل والخارج، وكانوا قد فرقوا علينا بطانيات من الصوف وقاية لنا من برد الصحراء في آخر الليل وبعض قوارير الماء والخبز والجبن المشترى من أسواق دمشق والسيارات تطوي بنا البلد طياً.
وقامت المشكلة الأولى في "فردوسي الذهبي"، فقد بدأ النزاع والخلاف بين الطالبات على البطانيات وعلى كل واحدة من الطالبات تريد أن تجلس بجانب صاحبتها، فلا تقبل الأخرى أن تتزحزح من مقعدها إلى المقعد الآخر، وكانت مقاعد الحافلة على عدد من ركب فيها. وبدأ السير وبدأت الأناشيد من سيارات الشباب التي تحف بسيارتنا يقودها الأستاذ كنعان الخطيب بصوته الجهوري، يرددون النشيد المعروف يومئذ "موطني موطني"، والنشيد الآخر "نحن الشباب لنا الغد ومجده المخلد، نحن الشباب" فترتفع أصواتهم في الصحراء بين ضحكاتهم وصخبهم، ويكون حماسهم مشتعلاً كلما لاحظوا أن حافلة الطالبات، تستمع إليهم، وتصفق لهم، وأخذت الطالبات يصحن على أن أقود نشيداً من هذه الأناشيد التي كنا جميعاً ننشدها في اجتماعات العروة الوثقى وفي سهراتها ولقاءاتها وأسمارها، فخيبت آمالهن في ذلك لاستحيائي وخجلي المتوارث عن الآباء والأجداد.
وبقينا في نحو ساعة كاملة ونحن نستمع من السيارات الأخرى إلى صخب جارف وأصوات حماسية في أناشيدها، ولكن من باب (اسمعي يا جارة).
ومرت علينا نحو ساعتين في ذلك الجو الصاخب ترتفع بنا السيارات وتنخفض في مطبات متوالية ورمال كثيفة، تسمع لمحركات السيارة فيها أنيناً وزئيراً وصخباً، حتى تعبت الحناجر وخارت القوى استعداداً للنوم، ومال كل رأس على كتف الرأس المجاور، وبقيت أراقب ما كنا فيه، حتى نامت الطالبات وبقيت في محلي في مؤخرة السيارة، وبقي الأستاذ الصوراتي الجالس بجانب سائق سيارتنا غير نائم (فمن رعى أمراً عظيماً لم ينم). وكان من حرص الأستاذ الصوراتي على السلامة ألا يغمض له عين حتى لا ينعس السائق. وبعد مسيرة نحو عشر ساعات قطعنا فيها أكثر الصحراء بين بغداد ودمشق، وصلنا إلى أول محطة عراقية في قلب الصحراء، وهي محطة "الرطبة" فتوقفت السيارات ولقينا من قائد حاميتها العسكرية الترحيب المنتظر، فقد كان منتظراً لوصول الوفد إلى هناك، وقام النائمون وطلب منا أن نخرج من السيارات لنتناول إفطار الضيافة المعد وشرب الشاي والقهوة ففعلنا.
وكان التعب قد أرهق الجميع، وكان الغبار قد غطى معالم الزينة من "البودرة والحمرة" فاغبرت الوجنات، وذبلت العيون، وخرج الشبان من سيارتهم يلتفون بزميلاتهم يحفون بهن ويستفسرون عن سلامة الجميع في ضوضاء محببة وضحكات متناثرة، وكان نصيبي منهم ما استجرت منه بالدكتور قسطنطين زريق، أن يكفهم عن الالتفاف حولي وتوجيه الأسئلة والمشاغبات إلي.
وقضينا ساعة ملئت السيارات فيها بالوقود، وانتهينا من مأدبة الإفطار، وكانت الشمس لا تزال في أول شفقها، ثم ركبنا سياراتنا، وحفل كل مقعد من مقاعد هذه الحافلات بمن كان يجلس فيه إلا من استبدل مكانه بمكان آخر فيما لا يخرج عن الأوامر الصارمة لنا من قائدنا الدكتور زريق، وبدأنا رحلة الجزء الآخر من الصحراء حتى قطعناها، ثم استرحنا بعد ذلك ساعات، اضطرت السيارات فيها أن تتريث بنا عندما اشتدت حرارة الظهيرة فوق رمال الصحراء، ثم وصلنا إلى بلدة "الرمادي" بعد مغرب ذلك اليوم الذي تركنا دمشق في مغرب أمسه، ولم نكد نصل إلى مداخل هذه القرية حتى داهمتنا جموع صاخبة متماوجة هازجة من رجال وشباب وطالبات يحملون الأعلام وينشدون الأناشيد ويدقون الطبول، وكلها ترحيب بهذا الوفد من الشباب العربي القومي، وكانت الهتافات لفلسطين والتحيات لسوريا ولبنان والعراق وللوحدة العربية ملء الحناجر، وكان الظلام قد عم مداخل المدينة، وفوجئنا حينئذ من كثرة الزحام بمن رفع عصاه ليدق نوافذ سيارة الطالبات لتحيتهن (على الطريقة العراقية)، فتحطم الزجاج وجاءت بعض الشظايا في وجه الطالبة التي كانت خلف زجاج النافذة وعلا الصياح حينئذ، وهنا جاء دوري في أن أفعل شيئاً، لأن صياح الطالبات من دم الإصابة الذي سال من وجه الطالبة قد جعلها ولولة استغاثة اشترك فيها كل الطالبات من تفجع ودعوات نجدة.
وشققت الطريق بين مقاعد الطالبات إلى الطالبة لأرى ماذا يجب أن أفعل، ولم يكن أمام الصخب الذي التف حول السيارة ما يستحسن معه توقف السيارة، فقد كان الأستاذ الصوراتي المسؤول الأول فيها وأنا المسؤول الثاني يخاطبني من النافذة التي بين السائق وبين الطالبات، بأننا لا نستطيع الوقوف بين الجموع والأَوْلى أن تبحثوا عما يصلح الإصابة، فاستعنا ببعض الطالبات، وأخرجت منديلي الذي كان في جيب سترتي واستطعنا أن نمسح به ما سال، وشققنا ذلك العباب المتلاطم من المستقبلين في هوساتهم (وارجو أن يكون معلوماً أن "الهوسة في اللغة الشعبية العراقية هي "الأهزوجة"، وليس من باب "الهوس" المعروف في الأقطار العربية الأخرى، فلا يغضب علينا من يظن أننا نقصد بها معناها في تلك الأقطار)، ولم يكن هناك إمكانية للتوقف للبحث عن دكتور، قد كانت النجاة هي الأحزم والأسلم. وهكذا كان حتى وصلنا إلى مداخل بغداد، وبرغم وصولنا في ساعات متأخرة فإن الحكومة العراقية، كما هيأت الاستقبالات في "الرمادي" و "الرطبة" قبل ذلك، هيأت الجماهير للاستقبال في بغداد على طول الطريق الممتدة من الجهة الشامية فيها حتى مدرسة "الأعظمية" العليا، التي هيئت لنزول أساتذة وأعضاء وفد العروة الوثقى.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :582  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج