شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في قضية الشعر الشعبي
نحن جميعاً نحب لغتنا العربية حباً صادقاً عميقاً. .
ونحن جميعاً نتذوق أدبها الرفيع، ونطرب لإنشاده، ونستمتع بقراءته، ونتأثر بما فيه من قيم جمالية، سواء أكانت قيماً تعبيرية، أم كانت قيماً فكرية أو شعورية، وإن كانت الحقيقة أن هذه القيم لا ينفصل بعضها عن بعض.
ويجد كل مسلم وكل عربي في هذه اللغة العربية رباطاً قوياً يصله بدينه، ويصله بتراث آبائه، وأمجاد أسلافه في مجالات الفكر وفنون الأدب، إذ كانت هذه اللغة لغة القرآن الذي ينتظم أصول عقيدته، وما هو مسئول عنه من العبادات، وأصول المعاملات، وقواعد السلوك التي ينبغي أن يفقهها، وأن يتأدب بها كل مسلم. وهي لغة الحديث الشريف الذي يفصل للناس ما أنزل إليهم من ربهم لعلهم يهتدون.. وهي لغة العلوم والمعارف الإسلامية والعربية، وما نقل إلى هذه الأمة من تراث الأمم التي اتصلت بها، وكان لها تاريخ، وكانت لها حضارة.. وهي لغة الشعر والكتابة والخطابة التي يجد فيها غذاء لعقله، ورياضة لفكره، وجلاء لعاطفته..
هذه كلمة لا بد منها في مقدمة ما نرى من رأي فيما يسمّى الأدب الشعبي، أو الشعر الشعبي الذي كثر الكلام فيه، واحتدم الخلاف حوله، واشتدت الملاحاة بين أنصاره وخصومه، حتى أصبح هذا الشعر قضية من القضايا أو مشكلة من المشكلات الأدبية التي تتجرد لها الأقلام هجوماً ودفاعاً منذ سنوات، وفاضت جداول الصحف بصور من الحوار، الذي كان في أكثره حواراً ساخناً، لا يخلو من العنف الذي تدفع إليه العصبية لهذا الرأي أو ذاك.
والحقيقة المرة أننا لا نكاد نعرف الاختلاف في الرأي إلا ضربا من ضروب القتال، أو مظهراً من مظاهر العداوة، واللدد في الخصومة.. وأعتقد أن ذلك ليس الطريق الذي يكشف عن حقائق الأشياء أو يوصل إليها إذا كنا ننشد الحقيقة وحدها، وننشدها لذاتها بعيدة عن الأهواء ونوازع النفوس.
* * *
وأحب أن أشير أولاً إلى إحدى الحقائق التي تتصل بمفهوم الأدب الشعبي أو الشعر الشعبي بعد أن رأيت أن أكثر الكاتبين يكادون يتفقون على أن هذا الأدب الشعبي هو كل ما قيل أو أنشد بلغة الشعب، وتلك حقيقة لا أشك فيها.
ولكننا لا نسلم بأن هذا الأدب ينبغي أن يكون بلغة العامة، أو لغة البدو، أو لغة النبيط التي ينسب إليها في المملكة العربية السعودية..
بل إننا في سبيل الحفاظ على صحة المفاهيم نرى أن لغة التعبير في هذا الأدب الشعبي ليست وحدها لغة العامة، ونرى أن دائرته تتسع ليشمل ما كانت لغته لغة العرب الفصحاء، وما كانت لغة التعبير فيه تلك اللغة المبتذلة التي هجنتها العامة بالتحريف أو بالتصحيف، أو بإزالتها عن دلالاتها الوضعية تحقيقاً أو تجوزاً أو توسعاً، أو بارتضاخ لهجة من تلك اللهجات التي عفى عليها الزمن، والتي نعلم جميعاً أنها هذبت وتوحدت، وبلغت ما بلغت من درجات النضج والكمال التي نراها في لغة القرآن.
ليست تعنينا إذن أن تكون لغة الشعر الشعبي في مفهومه الصحيح عامية أو فصيحة، فقد تكون هذه اللغة صحيحة فصيحة خالصة من كل شائبة، وقد تكون هذه اللغة موغلة في الابتذال، خارجة عن أصول التعبير العربي الصحيح. ولا نستطيع أن نعد الاختلاف في لغة ذلك الشعر هي الحد الفاصل بين الشعر الشعبي والشعر المعروف الذي يمثل أدب الخاصة في كل جيل من الناس.
ولكن الحد الفاصل بينهما يتمثل في شيء واحد يختص به هذا الشعر الشعبي وهو أن هذا الشعر ملك للشعب كله، أو لمجموعة كبيرة منه، وليس لأحد أن يدعيه لنفسه، أو ينسبه لغيره..
وقد كان القائل في أول الأمر معروفاً، ولكن سرعان ما أصبح يتردد على كل لسان، وينتقل في الأزمان، وبذلك بقي الشعر، ونُسي الشاعر، وأصبح تراثاً للشعب، يتغنى به، ويحذف منه، ويضيف إليه، ويزيده على مر القرون تنقيحاً أو تهذيباً، حتى يكون أصدق في التعبير عن أماني الشعب وآلامه وعواطفه، وفي وصفه لطبيعته وتقاليده الموروثة.
وعلى هذا يتصف الأدب الشعبي بالقدم والعراقة، وبأنه مجهول القائل، وبذلك يمكن الحكم عليه بالشعبية... وعندئذ يكون من هذا الأدب ما هو صحيح فصيح، وما هو عامي، أو بدوي، أو نبطي، أو غير فصيح.
فالرابسوذيات وهي الأشعار التي كان يتغنى بها الشعراء "الرابسوذيون" الجوالون عند اليونان في جاهليتهم...
والأشعار التي كان يتغنى بها جماعة السكارى في أعياد إله الخمر دثيرامبوس، أو باخـوس، أو ديونيسيوس...
وأناشيد الرعاة... والأشعار التي كان ينشدها جماعة "المنسنجرس".. وجماعة "التروبادور".
كل ذلك من الشعر الشعبي الذي جهل الناس مؤلفيه، وأصبح ملكاً لكل جماعة من هذه الجماعات.
وكذلك الملحمة الشعرية الإنجليزية "بيوولف Beowulf" التي تعد أقدم ما كتب شعراً في الفترة الأنجلو سكسونية، وإن كانت لا تمثل الحياة في إنجلترا، لأن قبائل "الأنجلز Angles" هي التي نقلتهـا معها إلى إنجلترا قبل الفتح النورماندي، ومع ذلك لم تكن قصة هذه الملحمة قصة قبائل الإنجلز، ولكنها قصة أهل اسكندناوة نقلهل الأنجلز معهم، ثم نظموها شعراً في إنجلترا.
والملحمتان الشهيرتان "الإلياذة" و"الأوديسة" يمكن عدهما من الشعر الشعبي إذا أخذنا بكلام بعض النقاد الذين يذهبون إلى أن هاتين الملحمتين ليستا من عمل هوميروس، ولكنهما من صنيع عدد من الشعراء الإغريق المجهولين، وأن اسم "هوميروس" لم يكن سوى رمز لهؤلاء الشعراء المجهولين، وكذلك إذا أخذنا بقول من يري أن هوميروس لم يكن سوى منشد لهاتين الملحمتين.
وهكذا نرى أن الأعمال الشعرية التي عرفتها الشعوب، وتغنت بها كثيرة في تاريخ الإنسانية في الشرق والغرب، وأنها مع ذلك مجهولة المؤلفين.
وفي أدبنا العربي كثير من الآداب الشعبية، ومنها قصص ألف ليلة وليلة، وقصة عنترة، وقصة أبي زيد الهلالي سلامة، وغيرها من القصص الشعبية المجهولة المؤلفين.
* * *
وبعد فإن الأزجال، أو الشعر العامي أو البدوي أو النبطي، حقائق واقعة في بيئاتنا العربية، وهي فنون يعبر بها العامة عن أغراضهم، ويصفون فيها تجاربهم ومشاعرهم باللغة التي يعرفونها، ولا يجدون غيرها وسيلة للتصريح بها عن مكنونات أنفسهم.
أقول هذا، لأؤكد أن اللغة الفصيحة لا يمكن أن تعجز عن الوفاء بمقتضيات التعبير عن النفس الإنسانية، ووصف خلجاتها عند من يحذقها، ويعرف أسرار التعبير بها.
ومما ينبغي التسليم به أن ما يصدر عن أي إنسان من قول أو فعل إنما يمثل انعكاساً لشخصيته، ولجميع العوامل التي أثرت في تكوين هذه الشخصية وأن أسلوب الكاتب أو الشاعر من أهم ما يستدل به على معالم تلك الشخصية ومقوماتها.
ومع هذه الحقيقة ليس لنا أن ننكر على العوام أو أشباه العوام أن يصدر عنهم هذا الشعر، وأن يعبروا فيه عن تجاربهم وعواطفهم وانفعالاتهم باللغة التي يعرفونها، ويعرفها جماهير الذين يُنشد فيهم هذا الشعر.
ويبقي النكير فيما إذا تعمد قرض هذا الشعر بلغة العوام واحد من العلماء والعارفين، أو من الأدباء المثقفين، إذ أن من غايات العلماء والمثقفين النهوض بمن حولهم من الحشو والدهماء لا أن ينحطوا إلى مستوياتهم الفكرية أو الفنية.
ولا عبرة بما قد يثيره بعض هذا الشعر من دواعي الإعجـاب بما فيه من جـودة التصويـر أو روعة التخييل، فكثيراً ما تفتن هذه النفوس بأعمال تنكرها القيم الدينية، أو القيم الخلقيـة، أو القيـم الاجتماعية. ومن ذلك التماثيل المنحوتة، والصور العارية، وشعر الخلاعة والمجون.
وقد يصطنع بعض الظرفاء شيئاً من أدب العامة على سبيل التظرف والتملح، وإثبات قدرتهم على الإتيان بمثل ما يأتي به أولئك العوام..
ومن أمثلة ذلك تلك المباراة المثيرة التي كانت بين السيد عبد الله النديم وشيخ "الأدباتية" في محافظة الغربية في مصر.. ولست أرى المجال يتسع للاستطراد إلى ذكر شيء مما دار في تلك المباراة الطريفة التي شهدها ألوف من الناس.
أما مضمونات هذا الشعر فإنها لا تقل بحال عن مضمونات الشعر العربي الفصيح، والحكم عليهما واحد من حيث الإبداع أو الاتباع، ومن حيث تفاوت القدرة على التصوير والتخييل. ففي كل منهما الجيد والمتوسط والرديء، كسائر الأعمال التي يختلف تقديرها باختلاف درجتها بين التحليق والإسفاف.
وربما كانت العواطف والأفكار والمعاني في هذا الشعر العامي أكثر مساساً بواقعية الجماعة التي ينشد فيها هذا الشعر..
ولكن العامية في لغة هذا الأدب أو هذا الشعر تحصره في نطاق الإقليمية المحدود، أو في نطاق الجماعة التي تعرف هذه العامية، إذ أن لكل بلد من بلدان العالم العربي عاميته التي ينفرد بها ولا يعرفها إلا أبناء ذلك البلد. وربما تختلف العاميات وتتعدد اللهجات في البلد الواحد. وفي مصر مثلاً تختلف عامية سكان الوجه البحري عن عامية أهل الصعيد، من حيث بنية الألفاظ، ومن حيث مخارج الحروف، ومن حيث الدلالة على المعاني، اختلافاً ملحوظاً.
أما أدب الفصحى فإن جميع الذين يعرفون هذه اللغة، لغة التنزيل ولغة التراث العربي في الفكر والأدب يستطيعون أن يفهموا الشعر العربي الفصيح، وأن يتذوقوه، وأن يدركوا ما فيه من قيم جمالية في مضموناته أو في وسائل أدائه مهما تكن بيئاتهم أو مواطنهم، ومهما تكن أزمانهم.
فهم يقرءون أدب الجاهليين وأدب الإسلاميين وأدب العباسيين وأدب المغاربة وأدب الأندلسيين وأدب المهاجرين، ويستمتعون بكل ذلك وينقدونه، ويميزون جيده من رديئه.
وأذكر أنني دعيت مرة للتعقيب على ندوة شعرية شارك فيها شعراء ملتزمون بنظام الأوزان والقوافي، وشعراء من أنصار التجديد، وزجالون نظموا خواطرهم بلغة العامة.. وكانوا جميعاً من المثقفين.
وراعني أن أجد في كلام واحد من الزجالين كثيراً من المعاني الجديدة، والأخيلة البارعة، والصور الرائعة.. وقد أثنيت عليه بما أعجبني من كلامه..
ثم فاجأته بقولي: "كنت أريدك شاعراً على مستوى الأمة العربية يقرأ شعرك أبناؤها في كل مكان، ولكنك رضيت لنفسك ولشاعريتك أن تظل حبيسة هذا الإطار، لتبقى شاعر الحارة أو القرية التي تنتمي إليها، ولا تنطلق بها إلى عالمك العربي الفسيح" !
وقد وقعت كلمتي موقعها من نفسه، وصار بعد ذلك من شعراء الفصحى المذكورين..
وذلك خلاصة رأيي فيما قد يوفق إليه شعراء العامية من إجادة أو إبداع.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :656  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.