شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في قضية المرأة
أحسبني وأنا اكتب عن قضية المرأة في أخريات القرن العشرين لا أعرض لقضيـة جديـدة، أو لمشكلة من مشكلات العصر التي تشغل أذهان الناس في هذا الزمان الذي تجاوز تلك المشكلة منذ عقود كثيرة من هذا القرن العشرين، بل سبقته إلى القرن التاسع عشر، وتناولتها أقلام كثير من المفكرين والكاتبين، واحتدم الجدال بين دعاة تحرير المرأة وسفورها وتعليمها ومشاركتها في أعمال الرجال، والدعاة إلى حجابها ولزوم بيتها والقيام على تربية أولادها وخدمة زوجها.
وكانت معارك حامية بين هؤلاء وهؤلاء، وأعني بالأولين المتحمسين للتحرير، وبالآخرين جماعة المعارضين والمستمسكين بالتقاليد.
وأدلى الشعراء بدلائهم في تلك الحرب الضروس منذ أوائل هذا القرن، وانحاز فريق منهم إلى الدعاة للتحرر المطلق، وانحاز فريق منهم إلى المعارضين، وكان من أولئك الشعراء من وقف بين هؤلاء وهؤلاء.
وكان شوقي (ت1932م) من أول المهللين لها، والمؤيدين لانطلاق المرأة وتحطيم قيودها، وله في ذلك كثير من الشعر، ومنه قصيدة يقول في أولها:
قلْ للرجال طغي الأسيرْ
طيْرُ الحِجال متى يطيرُ؟
أوْهـىَ جناحيه الحديـ
ـدُ وحزَّ ساقيـه الحريرُ
ذهب الحجاب بصبـرهِ
وأطـال حيرتَـه السفورُ
حتى يقول واصفاً معاناة المرأة في الإسار، ونزوعها إلى الخلاص مما قيدتها به التقاليد، أو مما كبلها به الرجال:
ومتى تُساسُ به الرَّيا
ضُ كما تُساس به الوكورُ؟
أوَ كلُّ مـا عنـد الرَّجا
لِ له الخواطبُ والُمهورُ
والسجنُ في الأكواخ أوْ
سجنٌ يقالُ له القصورُ
تاللهِ لو أن الأديـ
ـمَ جميعَهُ روضٌ ونورُ
في كلَّ ظلًّ رَبوةٌ
وبكلَّ وارفةٍ غديرُ
وعليه مـن ذهـبٍ سيا
جٌ أو مـن الياقوت سورُ
ما تمَّ من دون السّما
ءِ له على الأرض الحُبورُ
إن السماءَ جديرةٌ
بالطير وهو بها جديرُ
يقول شوقي إن الطير خلقت للطيران، والتحليق في أجواز الفضاء، ولكنها في عالمنا مهيضة الجناح، مكبلة بالأغلال.
والطير عند شوقي هي الفتاة العربية التي عاشت قعيدة البيت، بين الحجب والأحراس، فاقدة الحرية، سليبة الإرادة، تتطلع إلى نور الحياة يتسلل من خلال حجابها الكثيف، تنتظر البعل الذي يُختار لها، سواء أكان مقامها في كوخ من قصب، أم كان في قصر مشيد يزخر بآيات النعيم، وهيهات أن تطيب لها حياة قفص، وإن يكن ذلك القفص من ذهب مع حرمانها من الانطلاق في أجواء الحرية الجديرة بها.
والشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي (ت 1936م) نزّاع إلى التجديد وإلى الخروج من ربقة التقليد، ويصف شعره بقوله في مقدمة ديوانه": ".. أنزع أن أمشي بشعري في سبيل الحياة الطبيعية، متجنباً المبالغات وما أخلق الشاعر بأن يخرق التقاليد التي ورثها الأبناء من الآباء، فيقول ما يشعر به هو، لا ما يشعر به آباؤه" إلى أن يقول: "والشاعر الحر شجاع لا يهاب في الصدق لوم اللائمين.. يريد كل يوم أن يمرق عن العادات، ويمزق أطمارها البالية، كالفراشة التي تخلع شرنقتها لتبرز في ثوب أجمل محبر بألوان السماء.. "
ولعل هذه النزعة التحررية التي يتميز بها الزهاوي في شعره هي التي دفعته إلى الجهر بدعوته الحماسية إلى سفور المرأة العراقية وبروزها في المجتمعات، في تلك البيئة التي عرفت بحفاظها الشديد على التقاليد والالتزام بالحجاب الكثيف الذي تغشي به المرأة وجهها، والذي لا تكاد المرأة تتبين معه طريقها، ولا يكاد أقرب المقربين إليها يميزها بين الغاديات والرائحات في شوارع بغداد في ذلك الزمان، ولكن الزهاوي برغم ذلك يدعوها إلى الثورة والتمرد على تلك التقاليد التي تلزمها بالحجاب بدعوى أن هذا الحجاب يقيها من الفتن، ويجنبها مزالق الفساد، ويرى الزهاوي أن الحجاب لا يقي عفة الفتاة، وإنما الذي يقيها حقاً هو العلم الذي يبصرها بالحياة ويحفظها من التردي فيما يصوره لها الجهل، فيقول مخاطباً الفتاة العراقية والقوامين عليها في قصيدة عنوانها "أسفري":
أسفري فالحجابُ يابْنَةَ فِهْرٍ
هو داءٌ في الاجتماع وخيمُ
كلُّ شيءٍ إلى التجدُّد ماضٍ
فلماذا يَقَرُّ هذا القديمُ؟
أسْفرِي فالسفورُ للناس صبحٌ
زاهرٌ، والحجابُ ليلٌ بهيمُ
أسْفري فالسفور فيه صلاحٌ
للفريقين ثم ّنفعٌ عميمُ
لم يقل في الحجابِ في شكله هـ
ـذا نبيٌ ولا ارتضاه حكيمُ
هو في الشرعِ والطبيعة والأذ
واقِ والعقل والضمير ذميمُ
هو سجنٌ لهنّ من غير وزرٍ
وهو حرمانُ النورِ، وهو الهمومُ
ولقدْ تطلب العذارىَ نسيماً
ثمّ ما إنْ يهـبّ ذاك النسيمُ
زعموا أنَّ في السفور انثلاماً
كذَبوا فالسفـور طهرٌ سليمُ
لا يقي عفَّـة الفتـاة حجابٌ
بل يقيهـا تثقيفُهـا والعلومُ
أما شاعر النيل حافظ إبراهيم (ت 1932م) فإنه يقف موقف المتردد بين الإقدام على الجهر بهذه الدعوة الجديدة مجاراة لروح العصر المتطلع إلى الجديد في نظم الحياة وأنساقها، والإحجام عن الانتصار الصريح لها حفاظاً على العرف وقيم المجتمع السائدة إذ ذاك.
ولذلك يصبح من العسير الوقوف على رأيه الحاسم في هذا الموضوع الذي لم يكن الرأي العام في المجتمعات العربية قد انتهى إلى رأي قاطع في تلك المشكلة التي أثارها اتصال العالم العربي بأوروبا عن طريق الاستعمار أولا، ثم عن طريق الرحلات المتبادلة، والبعوث العلمية التي أوفدت إلى بلاد الغرب.
وقد أدى هذا الاتصال إلى التفاعل بين الحضارات والقيم الموروثة من جهة، ومظاهر الحياة الأوروبية وقيمها من جهة أخرى.
نقرأ ملامح التردد الذي أشرنا إليه في موقف حافظ من تلك القضية في قصيدته القافية العامرة التي سارت أبيات منها مسار الحكم، وجرت على الألسنة مجرى الأمثال السائرة والأقوال المأثورة، وقد أنشدها حافظ في وقت مبكر من هذا القرن الميلادي العشرين في حفل أقيم بمدينة بورسعيد في 29 من مايو سنة 1910م، لإعانة مدرسة بورسعيد للبنات، ومطلعها:
كمْ ذا يكابـد عاشـقٌ ويلاقِي
في حبّ مصـرَ كثيرةِ العُشَّاقِ
إني لأحملُ في هواكِ صبابةً
يا مصر قد خرجتْ عن الأطواقِ
لهفي عليكِ متى أراكِ طليقةً
يحمي كريمَ حِماكِ شعبٌ راقِ
كلِـفٌ بمحمـود الحلالِ متَّيمٌ
بالبـذْلِ بيـن يديـكِ والإنفاق
ويستطرد في شعر فاخر وفي نفس طويل يشيد بمكارم الأخلاق، وتأثيرها في بناء الأمم ونهضة الشعوب، وبناء الحضارات حتى تطغى هذه الإشادة على الغرض الذي أنشدت فيه تلك القصيدة، فلا يصيب هذا الغرض إلا خمسة عشر بيتاً من ستة وأربعين بيتاً هي عدّة أبياتها. ويبدأ تلك الأبيات بمنزلة الأم، وحاجتها في الشرق إلى العناية بتنشئتها وتربيتها:
مَنْ لـي بتربية النساءِ فإنها
في الشرقِ علَّةُ ذلك الإخفاقِ
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعدَدْتها
أعدَدْتَ شعباً طيبَ الأعراقِ
الأمُّ روضٌ إن تَعهّده الحَيا .
بالرَّيَّ أورق أيّما إيراقِ
الأمُّ أستاذُ الأساتذة الأُلَى
شَغَلَتْ مآثرُهمْ مدى الآفاقِ
لا يذكر الشاعر في هذه الأبيات شيئاً من قضايا المرأة التي كانت تشغل الأذهان سوى دعوته إلى تربية النساء التي يرى تضييعها علة تخلف المجتمع الذي تعيش فيه، وإن لم يحدد نوع التربية التي ينهض بها ذلك المجتمع.
ولا يذكر في الأبيات الثلاثة شيئاً مما تتطلع إليه المرأة، من الأعمال التي تتطلع إلى مزاولتها، أو الحقوق التي تحاول أن تنتزعها من الرجل.
ولكننا رأيناه يذكر المرأة في ثلاثة أبيات متتابعات بصفة واحدة هي صفة "الأم" وكأنه لا يعترف لها في مستقبل حياتها إلا بوظيفة الأمومة التي تنجب الأبناء، ويجب أن يحسن إعدادها لهذه الوظيفة، وهي تربية أبنائها تربية سليمة، لأنها المعلم الأول لهؤلاء الأبناء.
ثم يدلي بصريح الرأي في قضية السفور والحجاب، فينكر أن يكون من الدعاة إلى أن تسفر المرأة عن وجهها، وتبرز في المجتمعات، وتتجول في الأسواق، فإن في بيتها ما يشغلها من التبعات التي لا تقل في أهميتها وجدواها عما يشغل الرجال في مجالات العمل المختلفة:
أنا لا أقول دَعُوا النساءَ سوافراً
بين الرجالِ يجُلْنَ في الأسواقِ
يَدْرُجْنَ حيث أردْنَ لا من وازعٍ
يحذَرْنَ رِقْبَتْـهُ ولا مـن واقِ
يفعلنَ أفعال الرجـال لواهيـاً .
عن واجبات نواعـسِ الأحداقِ
ويدعو في الوقت نفسه إلى القصد في الأمور، فلا يترك للمرأة الحبل على الغارب، ولا يغلو الرجال في حجبها والتضييق عليها، بل إن التوسط بين التقييد والإطلاق أولى، بعد أن تغير الزمان، واختلفت المقاييس:
كلا ولا أدعوكـمُ أن تُسْرفوا
في الحجْبِ والتضييق والإرهاقِ
ليستْ نساوكمُ حُلىً وجواهراً
خوفَ الضياع تصانُ في الأحقاقِ
ليستْ نساؤكمْ أثاثـاً يقتنـى
في الدُّور بين مخَـادعٍٍ وطباقِِ
تتشكّل الأزمـانُ في أدوارهـا
دُوَلا وهنّ على الجمـود بواق
فتوسطوا في الحالتينِ وأنصفُِوا
فالشرُّّ فـي التقييـدِ والإطلاقِِ
* * *
والحقيقة أن الشعراء المعاصرين، وإن كانت لهم أراء ومواقف، وإن اختلفت آراؤهم ومواقفهم من قضية المرأة، لم يكونوا هـم الذين أثـاروا تلك القضيـة التي دارت حولهـا معارك عاتيـة بين المنتصرين لها والمعارضين لحريتها، وإنما أثارها المفكرون أو دعاة الإصلاح الاجتماعي.
ولم تكن أشعار الشعراء في هذه القضية إلا أصداء لما يتردد في بيئاتهم من أفكار أو اتجاهات. وإن كنا لا ننكر أن التعبير عن هذه الأصداء أو محاكاتها كان من العوامل الفعالة في شيوع الفكرة وذيوعها.
وقد اقترنت الدعوة إلى تعليم المرأة المسلمة وإلى سفورها، وإلى مساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات في أذهان أكثر الناس باسم ( قاسم أمين).
وقاسم أمين الذي تنسب إليه تلك الدعوة كردي الأصل، ولد في مصر، وتعلم في مدارسها، ثم بعث إلى فرنسا، فأتم بها دراسة الحقوق، وقد بهره المجتمع الفرنسي، وما تتمتع به المرأة في ذلك المجتمع من الطلاقة والحرية، فعاد إلى مصر يدعو المرأة المسلمة إلى تحطيم قيودها، والتمرد على تقاليد مجتمعها. وبسط رأيه في ذلك في كتابيه المعروفين: كتاب (تحرير المرأة) وكتاب (المرأة الجديدة).
وليس يتسع المجال لتقويم هذه الدعوة أو مناقشتها، فقد اشتد حولها الجدل، واستمر الصراع فترة من الزمن في أوليات هذا القرن بين المتحمسين للدعوة الجديدة وأهل الحفاظ على المثل والتقاليد والقيم المتوارثة التي رأوا أنها أجدر بالمرأة العربية، أو المرأة المسلمة، وأقرب إلى طبيعتها وإلى وظيفتها في الحياة.
والحقيقة أن كثيراً من الدعاة قد سبقوا (قاسم أمين) إلى تلك الدعوة، ومنهم المعلم بطرس البستاني، ورفاعة رافع الطهطاوي، وعلي مبارك، ومنهم أيضاً بعض النساء وفي مقدمتهن الأميرة نازلي فاضل.
بل إن هنالك أسراراً مثيرة وراء تلك الدعوة التي جهر بها قاسم أمين، ووراء تأليفه كتابيه المذكورين..
والوقوف على تلك الأسرار يفضي إلى الاعتقاد بأن قاسم أمين لم يعبر في دعوته التي ضمنها هذين الكتابين عن الرأي الذي يعتقده.. وهي في الحقيقة ليست أسراراً بالمعنى الصحيح، لأن من الذين عاصروا تلك الدعوة من يعرفون حقائق الأمور على وجه التفصيل، ولأن بعضهم كتبوا فيما بعد شيئاً مما عرفوه، أو شيئاً مما شاركوا بأنفسهم فيه من الحقائق التي خفيت على أكثر الناس في وقتها، وبعد وقوعها.
كان قاسم أمين قد قرأ كتاباً بالفرنسية ألّفه "الدوق داركو" هجا فيه المصريين، وأنحى على دينهم وسفّه أحلامهم، وقبّح عاداتهم وأخلاقهم، فانبرى له قاسم أمين، ووضع كتاباً باللغة الفرنسية دفع به عن الدين الإسلامي تلك التهم التي هو براء منها، ووازن بين حال المرأة المسلمة والحقوق التي كفلها لها الإسلام وحال المرأة الأوروبية المتمدنة في زعمهم، ودافع فيه عن الحجاب، وعده دليلاً على كمال المرأة المسلمة، كما هاجم فيه الدعاة إلى السفور.
وقد رأت الأميرة "نازلي فاضل" - أو رأى المقربون إليها - أن في هذا الكتاب تعريضاً بها، إذ كانت تلك الأميرة تبرز للرجال، وتجعل من قصرها منتدى أو "صالوناً" يلتقي فيه أقطاب السياسة ورجال العلم والأدب.
يقول الدكتور فارس نمر أحد صاحبي "المقطم" إن كتاب قاسم أمين الذي ردّ فيه على "الدوق داركو" لم يكن في صف النهضة النسائية التي كانت تمثلها الأميرة نازلي، بل كان الكتاب يتناول الرد على مطاعن المؤلف الفرنسي، ويرفع من شأن الحجاب، ويعده دليلاً على كمال المرأة، ويندد بالدعاة إلى السفور، وإلى اشتراك المرأة في الأعمال العامة..
ويستطرد فارس نمر فيقول: "ولما ظهر كتاب قاسم أمين ساء ما به إخوانه، ورأوا فيه تعريضاً خارجاً بالأميرة نازلي ! وتشاوروا فيما بينهم في الرد، واتفقوا أخيراً أن أتولى الكتابة عن هذا المؤلف، وعرض فصوله، وانتقاء ما جاء بها خاصاً للمرأة، وبدأت في كتابة سلسلة مقالات عنه.. ثم اتفقوا على أن يتقدم قاسم أمين باعتذار إلى سمو الأميرة، فقبلت اعتذاره. ثم أخذ يتردد على صالونها، وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه، وارتفع مقامها لديه، وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذي كان الفضل فيه للأميرة نازلي، والذي أقام الدنيا وأقعدها، بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب"
ويتضح من هذا أن قاسم أمين لم يؤلف كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" ليعبر فيهما عن رأي يؤمن به ويدعو إليه، وإنما كتبهما استرضاء وزلفى إلى هذه الأميرة التي كان لها شيء من الطول، لقربها من حكام البلاد ومستعمريها.
ويؤكد هذا أن قاسم أمين حاول في أخريات حياته أن يتنصل مما دعا إليه، فكتب مقالاً نشرته بعض الصحف، وفي أوله يقول: "لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى، حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب، وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس.. "
* * *
يتضح من هذا أن قاسم أمين لم يكن زعيماً لهذه القضية، أو تلك الحركة كما قيل عنه، أو كما تمنوا أن يكون، وأنه لم يكن فيما صدر عنه مما سطر في كتابيه المعروفين عن عقيـدة يؤمـن بها، أو رأي يدعو إليه في عزم وإصرار، شأن أصحاب المبادئ التي يلتزمون بها، ويضحون من أجلها بما يستطيعون التضحية به من دعة وسعة في العيش، وشرف في عالم المنصب والجاه، ومنزلة فـي دنيا الناس.
ولكنه كتب ما كتب في ذينك الكتابين تقرباً وزلفى إلى الأميرة ذات الحول والطول، وإشفاقاً على نفسه من سخطها وما قد يجر عليه من ويلات بعد أن رأى المنافقين والمتملقين يهتبلون الفرصة للدنو منها، وكسب رضاها، والظهور بمظهر المدافعين عنها أو عن سلوكها في استقطاب رجال السياسة وأعلام الفكر والأدب والشعر ليعمروا ناديها أو صالونها، وجلهم نشئوا في بيئات متواضعة تتوق إلى ولوج القصور، ورؤية الحياة فيها، ومسامرة أربابها الذين يتبسطون في مجالستهم، وفي التحدث إليهم ليكونوا لهم دعاة يشيدون بأمجادهم، ليزدادوا في نظر المستعمرين تألقاً، وفي قلوبهم تأثيراً بما يوجههم إليه سادتهم !
وقد اقتصرت ظاهرة "الصالونات" النسوية في مصر آنذاك على فئات من المجتمع الوافدة من تركيا وبعض بلاد الشام، من أمثال الأميرة نازلي فاضل التي أشرنا إليها، وكانت تنتمي إلى الأسرة الحاكمة في مصر، ومثل الكاتبة" مي زيادة" التي استقطبت ندوتها أو صالونها عدداً كبيراً من ساسة مصر، ومن قادة الفكر والأدب فيها، وكانت تسحرهم بمنطقها وحركاتها ونظراتها، حتى لقد كانت تلك النظرات والحركات توهم كثيراً منهم بأنها له وامقة أو عاشقة، فألفوا فيها الأشعار، ودبجوا فيها المقالات، والواقع أن قلبها وهواها كان في شغل عنهم جميعها بالأديب المهاجري الكبير "جبران خليل جبران" الذي أدى صدوده عنها إلى أن تنهي حياتها في "العصفورية" أو في مستشفى الأمراض العقلية في لبنان.
أما المرأة المصرية فقد ظلت في معزل عن حياة هذه المجتمعات، لأنها حرمت تلك الأسبـاب، أو فقدت القدرة على تلك المهارات، حتى سرت إليها العدوى، ونالت أكثر مما كانت تصبو إليه من الأماني والأحلام، وجر ذلك الصراع إلى جدل ونقاش حول قدرات المرأة ووظيفتها في الحياة، وجدارتها بما كانت تتطلع إليه.
ومن أطرف ما رواه العقاد في حوار جرى بينه وبين السيدة "نبوية موسى". يقرر أنه لا يذكر أنها خاضت قط في حديث من أحاديث السياسة التي كانت تشغل الأذهان كلها في تلك الأيام، وإنما كان شاغلها الأكبر حديث الرجل والمرأة في الحياة العامة والخاصة.
وكانت نبوية موسى تطيل المقارنة بين الرجال والنساء، وتقديم الدليل تلو الدليل على أن الرجل هو أضعف الجنسين عقلاً، وأقصرها باعاً، وأقلهما حيلة!
قال العقاد: ومن أدلتها التي كانت تكررها لإثبات هذا الرأي أن الرجل والمرأة يأكلان الحلوى معاً، ولكن الرجل هو الذي يؤدي الثمن وحده، وهو طائع! فلماذا يصنع ذلك لولا أنه هو المخدوع المغلوب الذي يسخر لقضاء مآرب المرأة من قديم العصور؟!
يقول العقاد: فلما أكثرت السيدة نبوية موسى من تكرير هذا الدليل قلت لها مرة، بل أقدر من الرجل والمرأة معاً طفلهما الصغير! ..
قالت: وكيف ذلك؟
قلت: لأنهما يعطيانه الطعام، ويقدمان له الدواء، ويرشونه بالدراهم أحياناً، ليقبل على الأكل والعلاج!
قالت وهي تقهقه وتغرق في الضحك: هذا قياس مع الفارق!
وعادت إلى أحاديث الرجال، و "قلة عقولهم" لأنهم يقعون في حبائل المرأة، ولا يعرفون لها جمالاً غير جمال الأجسام دون جمال العقول!
انتهى ما رواه العقاد من ذلك الحوار، وأضيف إليه أن السيدة نبوية موسى لم تكن ذات حظ من جمال الأجسام الذي أشارت إليه. والواقع أنها كانت في طليعة أقوى النساء شخصية وانضباطاً، وعملاً في مجال التعليم، وقد أنشأت في القاهرة "مدارس بنات الأشراف" وكانت بفضل إدارتها وقيادتها مدرسة "نموذجية" لما ينبغي أن تكون عليه معاهد تعليم البنات في بلادنا.
* * *
ومهما تكن حدة هذا الصراع فقد نجحت المرأة إلى حد كبير في اقتحام معاهد التعليم والتثقيف في صنوف المعارف الإنسانية التي كانت من قبل وقفاً على الذكور، ولم يحل بينها وبين التفوق عليهم في بعض الأحوال حائل، وخاضت المرأة في مجالات العمل المتنوعة التي أتاحتها لها الثقافات التي حصلتها في الجامعات وفي معاهد التعليم المختلفة، فكان من النساء طبيبات وممرضات ومعلمات ومهندسات ومحاميات وصحفيات، وحصلن على أعلى الدرجات العلمية من جامعات مصر وجامعات في الشرق والغرب، ووصل عدد كبير منهن إلى مرتبة الأستاذية في الجامعات وتبوأ عدد منهن منصب الوزارة في بعض أقطار العالم العربي.
ومهما تكن الدواعي والأسباب الظاهرة أو الكامنة فيما حققته المرأة من آمال في السفور، وفي الخروج إلى الحياة، وفي تلقي العلوم وتحصيل الثقافات، وفي التطلع إلى المناصب، وفي مساواة الرجل في سائر الحقوق، فإنني لا أشك في أن ما حصلت عليه من ذلك، كان على حساب الرجل وتنازله عن كثير من حقوق الزوجية، والقوامة الطبيعية التي تقابلها المسئولية عن جميع أفراد مملكته الصغيرة، وكان أيضاً على حساب تربية الأبناء والبنات ورعاية البيت التي تخلت عنها المرأة العاملة بدعوى إرهاقها في العمل..
ومعنى ذلك أن حياة المرأة أصبحت كحياة الرجل سواء بسواء، فهي تعمل كما يعمل، وتتقاضى من الأجر مثل ما يتقاضى، أما مسئولية البيت وتربية الأبناء فيه فهي مشتركة بينهما، والزوج هو المضحي، وهو الخاسر في كل الأحوال..
ومن اليسير أن نتخذ من حياتنا الحاضرة مثلاً ونماذج يراها ويحياها أزواج العاملات من بنات حواء.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :845  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج