رأيْتُ في وَحْشَة الصَحْراء عَوْسَجةً |
خَضْرَاءَ تَرْقُصُ مِنْ زَهْوٍ ومِنْ طَرَبِ |
تَأْوي إليها رُفُوف الطَيْر آمِنةً |
كأنَّها حَرَمٌ للخائفِ التَعِبِ |
تَسْتَقْبلُ الشَمْسَ نيراناً مُسَعَّرةً |
فلا تُبَالي بما في الشمس مِنْ لَهَبِ |
وَتَعْصِفُ الريحُ إعْصاراً فيُضْحِكُها |
ما في زَمازِمِها الهَوْجاءِ مِنْ غَضَبِ |
تَصْدَى فَترْفَعُ للآفاقِ مُقْلَتَها |
فيَفْتَحُ اللهُ ما استَعْصَى مِنَ السُّحُبِ |
كأنَّما هي في البُسْتان زَنْبقَةٌ |
تَموجُ بالعِطْر في أثْوابها القُشُبِ |
تَفْتَرُّ والقَفْر لا أُنْسٌ ولا أَلقٌ |
والليلُ يَطْرُقُه لكنْ بلا شُهُبِ |
وحولَها عَوْسجاتٌ مِنْ فَصيلتها |
غَرِقْنَ في الصَمْتِ أو أَلوَيْن مِنْ وَصبِ |
يَحْسُدْنَها وهْيَ لا غِلُّ ولا حَسَدٌ |
ما أبَعْدَ القَمَرَ الزاهي عَنِ الرِّيَبِ |
عَجِبْتُ منها ولكنْ حينَ حدَّثَني |
عنها الرُواةُ انقَضَى ما كان مِنْ عَجَبي |
* * * |
قالوا نمتْ كَسِواها، لا يُمَيّزُها |
أصْلٌ وفَصْلٌ ولا شَكْلُ ولا عَبَقُ |
مِنْ أينَ جاءتْ؟ سُؤالٌ لا جَوابَ له |
وكَمْ سُؤالٍ على الأفواه يَحْتَرقُ |
جاءتْ مَعَ الليلِ لَمْ تَحْلُمْ بها رَحِمٌ |
ولا انْجلَى عَنْ مطاوي سِرِّها غَلَقُ |
ورسَّخَتُ رِجْلَها في الرَّمْلِ واشْتَبَكتُ |
جُذورُها حَيْث لا ماءٌ ولا عَلَقُ |
وغالَبَتْ دَهْرَها حتى استقامَ لها |
ما يُشْبه الجِذْعَ منها يَرْشُحُ العَرَقُ |
لكنْ توالَتْ علهيا السافيات فلَمْ |
تَرْحَمْ صِباها ولم يَسْلَم لها وَرَقُ |
وصارَ للإِنْس مِنْ عِيدانِها سَلَبٌ |
وباتَ للجنِّ في مَيْدانها طُرُقُ |
ولَمْ يَلُحْ في حَواشي أفْقِها قمَرٌ |
ولا أطَلَّ على آمالِها شَفَقُ |
فاسْتَسْلَمَتْ لقضاءِ الله واصْطَبَرتْ |
على الرَّزايا وأذْوَى عُودَها الأرَقُ |
لَمْ يَبْقَ مِنْ جِسْمِها الواهي سِوى رَمَقٍ |
واهِ... فيا وَيْحَها ما يَنْفَعُ الرَّمَقُ؟.. |
قالوا وحامَ عَلَيْها ذاتَ آونةٍ |
زَوْجا حَمامٍ ولمَّا اظْلَوْلَمَتْ عادا |
رادا الفَضاء ولكنْ دونما أمَلٍ |
إنَّ الضَّعيفَ طَريدٌ أيْنما رادا |
وبَعْدَ لأْيٍ وإيجاسٍ ورَفْرَفَةٍ |
حَطَّا عليها فمادَ الجِذْعُ أوْ كادا |
حتَّى إذا أمِنَا مِنْ بَعْدِ خَوْفِهما |
تَخَيَّراها على الأخْطارِ مِرْصادا |
فأوْرَقَتْ كي تَردَّ الشَرَّ دُونَهما |
واخْضَوْضَرَتْ كي تُتيحَ الرَيَّ والزادا |
لَمْ يَبَقَ مِنْ شَوْكِها الدامي سِوَى زَغَبٍ |
زاهٍ تَلَوَّنَ أزاهاراً وأوْرادا |
فحال عَيْشُهما في حُضْنِها دَعَةً |
سُبْحان مَنْ قَلَّب الأتْراحَ أعْيادا |
وما انْقَضَتْ فُرْصَةٌ حتى بنَى وَبنَتْ |
عُشّاً يَموجُ على الأفْنان أولادا |
وأشْرَقَ القَفْرُ بالأطيارِ وانْقَشَعَتْ |
عنه الكآبةُ أغْواراً وأنْجادا |
وأصْبَحَت زينةَ الصحراءِ عَوْسَجةٌ |
آوَتُ شَريداً ورَدَّتُ عنه صَيَّادا |