شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > كتاب الاثنينية > حصاد الغربة > ذكريات عن الماضي: مقدمة بقلم الشاعر
 
ذكرياتٌ مِن الماضِي
مقدّمة بقَلم الشّاعر
في مجموعتين شعريتين صَدَرَتا لي في بغداد خلال الستينات، لم أشأ أن أكتب بنفسي مقدمةً لأيٍّ منهما كما جرت العادة. وقد كتب مقدمة إحداهما "شعاع في الليل" الصديق الدكتور صلاح نيازي؛ بينما تركت المجموعة الأخرى تتولى تقديم نفسها.
أما الآن وقد بَعُد العهد وتوالت السنون، فإني أحس بحاجةٍ لأن يعرف قرَّاء هذه المجموعة أو الديوان شيئاً عن صاحبه وعن بداياته الشعرية وروافِدِه الأولى التي درج منها، وتلك قصة لا تخلو من طرافة.
كانت البداية سِنِيّ الصبا الأولى مع دواوين الشاعر الشعبي الشهير (الملاَّ عبود الكرخي) رحمه الله، حيث كانت العائلة وبعض الجيران يجتمعون لدينا في البيت يطلبون إلى الفتى الصغير الذي أظهر وَلَعاً مبكراً في الشعر ليقرأ عليهم أشعار الملاَّ عبود والتي كانوا ينصتون إليها بشغف واهتمام، تقطعه بين آونة وأُخرى صيحة إعجابٍ أو ضحكةٌ جماعيةٌ يدوي بها المكان لما يتضمنه شعر الملاَّ من سخريةٍ لاذعةٍ بالأوضاع الاجتماعية والسياسية حينذاك.
وكان هذا الجو الذي كثيراً ما يتكرر كل يوم جمعة مقترناً بالجو العائلي الواسع، حيث كان الخال (حبيب الشيخ ظاهر) واحداً من أبرز شعراء مدينة (الحي) المتخصِّصين في ما كان يُطلق عليه (الشعر الحسيني) الذي يتركز أساساً على مدح آل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصوير مأساة استشهاد الإِمام الحسين بن علي في كربلاء، وهو شعر يغلب عليه طابع الحزن والفجيعة، ويتوزع على العامية والفصحى.
ويُشار هنا إلى أنَّ الكثير من الشعراء الحسينيين. كما كانوا يسمونهم، غالباً ما يضمِّنون أشعارهم شعارات ودعوات سياسية ترتبط بما كان يدور حينذاك في البلاد من مشاكل تمسّ حياة الناس ومواقفهم تجاه السلطة القائمة.
أما المحيط العائلي المباشر للشاعر فقد تأثَّر، إضافة لخاله، بوالدته التي كانت تقول الشعر شفاهاً وعفو الخاطر عدا ما كانت تلقيه بمسامع الفتى من أشعار شعبيةٍ مختلفة الأغراض لشعراء مجهولين. وتحضرني بهذا الخصوص حادثةٌ طريفةٌ، عندما اجتمع عدد من السجناء السياسيين في سجن (نقرة السلمان) الصحراوي حول والدة الشاعر، خلال إحدى الزيارات، طالبين منهـا أن تقـول لهم شعراً. وعندما سألتهم عن الموضوع الذي يريدون منها أن تقول الشعر فيه، اقترح عليها السجناء أن تقوله في ولدهـا السجين وهـي ترى القيـود الحديدية في قدميه.
مدَّت الأم يديها إلى الحديد، ورفعت وجهها في وجه ولدها السجين وأنشأت تقول مرتجلةً وباللهجة الشعبية:
هلا بابني اليشيل الراس طاريّه (1)
لاجل عين الشعب عايف أهاليّه (2)
* * *
لاجل عين الشعب صامد لكل سجّان
يذكر يوم (قيس) و (حازم) و (شمران) (3)
أريدنَّك تذلها لـ (نقرة السلمان) (4)
ما أنت ابني لو أنك تخلف النيّة
هلا بابني اليشيل الراس طاريّه
* * *
بعد التخرج من المدرسة الابتدائية في مدينة الحي، انتقل الشاعر إلى بغداد طالباً في (كلية الملك فيصل الأول)، وهي ثانويةٌ خاصة بالطلبةِ المتفوقين من كلِّ أنحاء العراق تجري الدراسةُ فيها باللُّغة الإِنجليزية.
في هذه الفترة كانت أولى قراءاتي في الشعر الفصيح، وعلى الأخصّ شعر الجواهري والرّصافي. وخلال العطلة الربيعية الأولى وزَّع مدرس اللغة العربـية حينذاك (الأستاذ مهدي العبيدي) على الطلبة واجباتٍ مدرسيةً اختياريةً لإِنجازها أيامَ العطلة. وكانت حصّتي منها المعلَّقات المشهـورة في الأدب الجاهلـيِّ، قـراءةً ثم حفظاً لإِحداها.
ويلوح لي الآن أنني كنت في غاية الفرح لهذا التكليف، إذ اتجهت فوراً إلى مكتبات سوق السّراي في بغداد واقتنيتُ كتاب المعلقات وشرعت القراءة فيها وأنا في السيارة التي أقلَّتْني إلى مدينتي. وخلال الأيام الأولى للعطلةِ شعرت بوطأة المفردات الصعبة والمعاني الغريبة للشعر الجاهلي، إلاَّ أني لم أيأس من محاولة الفهم، فأشارت عليّ والدتي بالتوجه إلى دار مدير المدرسة الابتدائية التي تخرجتُ فيها واسمه (السيد عباس الحكيم)، رحمه الله، لأجد لديه العون اللازم. وكان الرجلُ على قدرٍ عال من الحرص على تنشئة الطلبة بروح الأدب والشعر والخطابة.
وإذ علم الرجلُ بالمهمة التي جئتُـه من أجلهـا، نهض من مكانه متجهـاً إلى مكتبته وعاد إليَّ وهو يحمل قاموساً في لغة العرب وأجلسني بجانبه وراح يشرحُ لي طريقة استعمال القاموس لحل ما يستعصي عليَّ فهمه من مفردات القصائد.
ولعلَّ من الأمور الهامة التي تركت في نفسي أثراً كبيراً خلال تلك الجلسة، جوابه العميق الدلالة على تساؤلي حول الفائدة التي نجنيها من قراءة ذلك الشعر بتلك المفردات الغريبة التي لم تكن ترد في ما نقرأه أو نتداوله من كتب حديثة أو ما نتحدَّث به في حياتنا اليومية. كان حديثه عميقاً ومؤثراً حول أهمية (التراث)، وكانت تلك كلمة أسمعها لأول مرة، في صقل المواهب وإغنائها. وقد أشار عليَّ بعدم التخوُّف من هذه المفردات وفي نفس الوقت عدم الاهتمام الزائد بمعانيها الدقيقة إلاَّ بقدر ما تدفع إلى ذلك الحاجة إلى فهم المعنى العام الذي يرمي إليه الشاعر. وخلال تلك الجلسة أيضاً أكَّد لي أمراً آخر كان هو الآخر ذا أثر كبير في حياتي، وهو إشارته إلى القرآن الكريم الذي يُعتبر عماد اللغة وأساس البلاغة والمنبع الأصل الذي يستطيع من خلاله الشاعر وقارىء الشعر أن يتلمَّس الطريق لتوسيع معارفه اللغوية وضبط لغته على أسس سليمة.
ولم يكتف السيد الحكيم بتوجيهاته القيمة تلك، بل زودني خلال تلك الجلسة بنسخة من القرآن الكريم هدية لي آخذها معي إلى بغداد. أما القاموس فإعارة أستعين به خلال دراستي للمعلقات، على أن أعيده إليه قبل سفري.
وبعد أسبوعين كنت أطرق الباب ثانية على ذلك الأستاذ الفاضل لأعيد له القاموس وأسلِّم عليه قبل السفر، فإذا به يدعوني إلى داخل المنزل ويأخـذ بتوجيـه الأسئلة إليَّ طالباً مني قراءة بعض ما حفظته من المعلقات وسائلاً إياي عن معاني بعض كلماتها ليتأكد من إجادتي استعمال القاموس الذي أعارني إياه. وقد لاحظ السيد الحكيم علائم الارتباك تلوح على وجهي وأنا أُسلِّمه القاموس، إذ سقطت ورقة من بين ثناياه، وكنت وضعتها عمداً. كنت في داخلي سعيداً إذ رأيت أستاذي يمسك الورقة ليقرأها، وكنت أتابع ملامح وجهه وهي تفصح عن الإعجاب والرضـا مشفوعاً بابتسامة هادئة فيما كانت عيناه تمرَّان على أبيات من الشعر كتبتها علـى تلك الورقة:
شكراً على إعارة القاموس
أعانني حقاً على دروسي
وكان خيرَ نافعٍ معينِ
جلا غموضَ الشعر في عيوني
وأنه لو كان في البقاله
كنتُ اشتريته على عجاله
وأقطع السعر من المصروفِ
حتى إذا تعثرت ظروفي
فإنه مساعدٌ أمينُ
وكل ما أسأله يعينُ
* * *
كانت تلك أول أبيات من الشعر كتبتها في حياتي، وكانت جائزتها القاموس الذي أعارني إياه السيد الحكيم، حيث أصبح ملكي بعد أن قُدِّم إليَّ هدية منه.
لقد ترك هذا اللقاء المبكر في نفسي أموراً نفعتني كثيراً؛ فمنذ ذلك الوقت وأنا أحس بفرح غامر كلَّما وقعت عيناي على قاموس جديد في اللغة، سواء كان جديداً في صدوره أو في إطلاعي عليه، وإذا كانت القواميس لا يتم استعمالها إلاَّ بحثاً عن مفردة معينة فإني صرت أستعمله أحياناً لمجرد القراءة والاطلاع.
ومنذ ذلك اللقاء مع السيد الحكيم أيضاً، تغيرت إلى حد كبير طريقة تناولـي للقرآن الكريم، إذ لم أعد أقرأه لمجرد ثواب القراءة، كما علَّمتني أُمي، بل كنت أحاول أن أفهم ما أقرأ وأتمعن في معاني الكلمات.
بعد ذلك اللقاء أيضاً اكتشفت في نفسي ميلاً غريزياً شديداً للشعر، فاقتنيت حال وصولي بغداد كتاب "ميزان الذهب في صناعة شعر العرب" متوهماً أنَّ ذلك الكتاب سيجعل مني شاعراً، إذ سيعطيني الميزان الذي أزِنُ به كل بيت أقوله.
كان الأستاذ (مهدي العبيدي) رحمه الله مدرِّساً للغة العربية في كلية فيصل كما أسلفت. وقد أصدر عام 1946م كتاباً بعنوان "حقيقة الزهاوي" وأعطاني نسخة من ذلك الكتاب. وكانت قراءتي المبكِّرة له سبباً مباشراً لوضع حاجز قوي بيني وبين ذلك الشاعر الفيلسوف، إذ أخذتُ أنظر إليه من خلال رؤية ذلك الكتاب الذي هاجمه بعنف ونفى شاعريته، فلم أعد أرى في الزهاوي شاعراً يستحق الاهتمام. وكثيراً ما كنت أشير إلى وصفه الظلمة، إذ يقول: (أدخلت فيها إصبعي فلم أشاهد إصبعي) معتبراً ذلك البيت دليل التهافت والسطحية في شعره.
والغريب أن أثر ذلك الكتاب في نفسي كان قوياً إلى درجة أني لم أقرأ الزهاوي قراءة جادة حتى الوقت الحاضر، الأمر الذي يدلّ بوضوح على ما للقراءات والتوجيهات المبكرة من أثر على نفوس الفتيان خلال سني الدراسة الأولى.
في عام 1947م تمَّ فصلي من كلية فيصل خلال موجة تصاعد الحركة الوطنية ومشاركتي في الإِضراب المشهور للطلبة، والذي جرَّ إليه كل ثانويات بغداد. وإذ سُدَّت منافذ الدراسة في وجهي، بادرتُ إلى العمل (كاتباً) في السكك الحديد. وبعد إعلان الأحكام العرفية في أعقاب حرب فلسطين عام 1948م، زُجَّ بي في السجن مع العشرات من الوطنيين. وخلال فترة السجن التي امتدت سبع سنوات متصلة انصرفت بكليتي إلى الشعر، وعلى الأخص كتابة الأغنيات الوطنية للسجناء.
وفي عام 1954م، وكنت في سجن (بعقوبة) السياسي، قمت بتدوين أشعاري على ورق خفيف وبحروف صغيرة، ثم سلَّمتها لأخي الذي كان يزورني كل شهر. وبعد أن غادرت الأوراق سجن (بعقوبة) صارت تتنقل بسبب موجات البطش والإِرهاب من حفرة في حديقة الدار إلى كوَّة في السقف، بين مدينة بغداد ومدينة الحي، ثم مدينة البصرة حيث كنت أعمل هناك، وحيث استقرت تحت أرضيةٍ خشبيةٍ في خانٍ تابعٍ لشركة نقلٍ يملكها أحد الأصدقاء. وفي هذا المكان كانت النهاية لتلك الأشعار التي عانيت الكثير للاحتفاظ بها، إذ لم أحصل إلاَّ على فتافيت ورق تركتها الجرذان بعد وجبةٍ شهيةٍ من الشعر. وقد صوَّرتُ هذه الحال في أبياتٍ نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" ضمن الزاوية المعروفة لخالد القشطيني (صباح الخير)، قلت فيها على لسان جرذ كبير:
أيها الشاعر لا تحزن فما
كان للجرذان أن تترك فرضا
فُرض (القرضُ) علينا عادةً
فانتهت أشعارُك العصماءُ قرضا
قد وجدناها (قريضاً) فمضى
حكمُنا في قرضها طولاً وعرضا
* * *
ومهما يكن من الأمر، فقد كانت الذاكرة حينذاك نشطة بما يكفي لتذكُّر الكثير من تلك الأشعار، إن لم يكن كلّها، فكان أن صَدَرَتْ مجموعتي الشعرية الأولى (شعاع في الليل) عام 1962م برعاية اتحاد الأدباء العراقيين وتعضيد وزارة المعارف العراقية، ثم تلتها المجموعة الثانية (أفراح تموز).
غير أن تأثير (الملاّ عبود الكرخي)، الشاعر الشعبي الشهير، وتأثير خالي الشاعر الحسيني (حبيب الشيخ ظاهر)، والبيئة الشعبية التي قضيت فيها سِنيّ طفولتي الأولـى
وصباي، ما لبثت أن فجَّرت في نفسي كوامن رغبةٍ جامحةٍ لكتابة الشعر الشعبيّ، وهو ما غلب على معظم إنتاجي في بداية الستينات، إلى جانب كتابة عدد من كلمات الأغاني الشهيرة لملحنين ومطربين كبار مثل الفنان أحمد الخليل والمرحوم ناظم الغزالي وغيرهم.
ولقد ظل تأثير الكرخي في نفسي كبيراً إلى درجة أني حفظت الكثير من أشعاره وكتبت في ذلك دراسة واسعة عن شعره فيما كنت خارج العراق، وقد أصدرتها وزارة الإِعلام العراقية في كتابٍ نشره المركز الفولكلوري التابع للوزارة.
وتعود الأيام والأحداث دورتها الأولى مع أشعاري الشعبية كما كانت مع شعري الفصيح، إذ تضطر المرأة الطيبة، وهي والدة زوجتي، إلى إلقاء كل تلك الأشعار مع مسودة دراسة عن الأمثال الشعبية في التنور خلال إحدى مداهمات سلطات البعث الذي وفد كالطاعون عام 1963م ليسنّ في العراق شريعة الغاب التي ما تزال تحكمه حتى الآن.
وتبدأ في حياتي مرحلةٌ جديدة ترتبط بالغربة التي امتدت حتى الآن عشر سنوات ترتبط كلها بالشعر الفصيح بمختلف أغراضه السياسية والاجتماعية والعاطفية وكذلك الأخوانيات مما يجد القارئ في هذه المجموعة التي بين يديه بعض نماذجه.
وبغض النظر عما يراه النقّاد في شعري، وما قد يجده القارئ من متعة أو ما يحس به من نفورٍ تجاه هذه القصيدة أو تلك.. وبغض النظر عن المشاعر العالية من الود والتقدير التي يقابلني بها الكثيرون من المعارف والأصدقاء في هذه البلاد وغيرها من محبي الشعر؛ أودّ التأكيد على أني لا أعتبر نفسي شاعراً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل إني أقرب ما أكون إلى إنسان محبّ للشعر أواصل قراءته دون انقطاع وأحسّ بمتعة هائلة وأنا أتمعن في صوره ومعانيه وما يبعثه من أحاسيس في النفس البشرية، الأمر الذي لا يوجب معه استغراب القارئ من تلمُّس الكثير من الصور والمعاني مطروقةً لدى الكثير من الشعراء السابقين، لأني أنهل من معينهم الذي لا ينضب، وأتمثل في أعماقي إبداعهم العظيم، ولا تكفّ روحي عن الخفقان في آفاق شاعريتهم العظيمة التي سطرت عبر القرون ذلك الشعر العظيم الذي قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب. مقولته الشهيرة: "الشعر ديوان العرب".
وفيما يتعلق بهذا الدّيوان بالذات، لا بدّ من كلمة خاصة. فكما يرى القارئ أن دفَّتَي هذا الديوان تضم أشعاراً قيلت في أغراض ومناسبات شتى، الأمر الذي يجعل البَوْن شاسعاً بين أوله وآخره، سواء من حيث الأسلوب والهدف وحتى مستوى الحس الشعري، إذ يواجه القارىء أحياناً مقطوعة هي أقرب إلى النظم منها إلى الشعر، لكنها تتميز بروح الدعابة التي تجعلها مقبولةً إلى حد ما في إطار الأخوانيات التي أفردتُ لها موقعاً خاصاً.
وقد كان من رأيي أن أختصر الديوان على أبوابه الأولى فقط، إلاَّ أن العديد من الأصدقاء أشاروا عليَّ بإدراج كل ما أدرجته فيه، ليس فقط لأنه ديوان شعر يُفتَرضُ أن يضم كل ما يقوله الشاعر بغض النظر عن هدفه ومستواه، بل لأن عملية الإصدار ذاتها ليست بالسهولة التي قد تتبادر إلى الذهن، وقد لا تصح فرصةٌ أخرى لإِصدار ما يتبقى من الأبواب، عدا أن الكثير من الأصدقاء المقربين توَّاقون لأن يروا ما قاله الشاعر فيهم مدرجاً في الديوان، حتى وإن كان هجاء وإذ نشرت بعضاً من تلك الأشعار فقد أبقيت معظمها لمناسبةٍ قريبةٍ يصدر عنها ديوانٌ جديدٌ يضمّ كلّ ما قلته في باب "الإخوانيات".
والآن وقبل أن أصل إلى نهاية هذه الصفحات، لا بدَّ لي من إبداء مشاعر الشكر والامتنان مرتين لأخينا الشيخ عبد المقصود خوجه؛ مرَّةً لتفضُّله عليَّ بإقامـة حفـل تكريم لشخصي المتواضع في دارته العامرة، وهو ما اعتبرته تكريماً لشعراء العراق وللشعب العراقي الذي يعيش هول المحنة التي ألقاه في أتونها طاغية العراق.. ومرةً لتفضُّله بالإِنفاق على طبع هذا الديوان الذي ما كان ليصدر لولا معونته.
وكانت هذه اللفتة الكريمة من الشيخ عبد المقصود قد جاءت إثر أبيات قدَّمتها له فيما يشبه الارتجال، قلتها وأنا أتحدث للشيخ أبي تراب الظاهري الذي طلب مني أن أكتبها وأقدِّمها للشيخ عبد المقصود، وقلت فيها:
(أبا سعيدٍ) إن ديواني
تعلّق اليوم بأرداني
يريد أن يأتي إلى قصركم
ليشتكي ظلمي وطغياني
يقول إني صرت سجّانه
وإنني بعرفه جاني
ويطلب الحكم له عاجلاً
فاحكمْ على الخصم بإحسان
* * *
وعَدْتُه النشر وها قد مضى
على وعودي تلك عامان
ولم أزل أُخلِفُه موعدي
لأن ضِيقَ اليد أضناني
فهل أرى من طيبكم نفحةً
تعبق في أردان ديواني
وما أن وصلت هذه الأبيات (الإِخوانية) إلى الشيخ عبد المقصود حتى بادر فوراً إلى طلب مسودة الديوان، بل صار يلحّ عليَّ في طلبها، إذ لم تكن جاهزةً حينذاك. وبهذه المناسبة أُجدد جزيل شكري لأخينا الشيخ عبد المقصود خوجه سائلاً الله أن يحفظه لأهل الأدب والعلم، وأن يبسط له من نعمائه ما هو أهل له.
كما أتقدَّم بالشكر الجزيل لأخي وصديقي وأستاذي الجليل الشيخ أبي تراب الظاهري الذي تكرَّم بكتابة توطئة للديوان ملتمساً منه العذر على ما تجرأتُ عليه من حذف أحد مقاطع كلمته التي أفاضَ فيها شعورَه على شخصي بما لست أستحقه وعلى شعري بما لم يصل إليه، مما ينبع من مشاعره الأخوية وسماحة الخلق التي عرفتها في شيخنا الجليل أبي تراب الذي ما زلت أطالبه بوفاء دين لي عليه، هو قصيدة يجدها القارئ في هذا الديوان تجاوزت مائة بيت من الشعر قلتها في الشيخ أبي تراب ومكتبته العامرة، وقد وعد بالردّ عليها فلم يفعل حتى الآن.
كما أتقدَّم بجزيل الشكر والعرفان لأستاذنا الفاضل معالي الشيخ محمد حسن فقي، الشاعر الكبير، على ما أجهد نفسه فيه من عناء قراءة ديوانٍ لشاعر لم يكن قد تعرَّف إلى شخصه عن كثب وجشَّم نفسه عناء البحث فيما عساه يكون شفيعاً لوضع اسمه الكبير الذي يحتلّ في نفسي منزلةً رفيعةً على مقدمة يكتبها بذلك القلم السيال المتدفق والروح الطيبة الخيرة.. فألْفَ شكر لسيدنا الشيخ الذي قلت فيه تعقيباً على قصيدة رائعة له بعنوان (الشاعر):
يا لصاحٍ أضناه طولُ الرقادِ
وطليقٍ في ربقة الأصفادِ
وشجيّ الفؤاد ينفثُ هماً
وتراه دريئة الحسّادِ
تتجلى مثل العروس بهاءً
في سنا شعره حروف الضادِ
* * *
وأخيراً لا تفوتني الإِشارة لما كان لإِقامتي في هذا البلد الطيب المضياف من أثر طيب على نتاجي، حيث وجدت التربة الصالحة والجوّ الإِبداعي الهادئ والصداقة الحميمة لمئات الأصدقاء السعوديين والأخوة المقيمين من محبِّي الشعر، داعياً المولى عزَّ وجل أن يديم على هذه البلاد أمنها ورفاهها ويحفظ لها رجالاتها الميامين ويبعد عنها كل مكروه.. إنه سميع عليم.
الدكتور زاهدْ محمّد زهدي
جـدّة
 
طباعة

تعليق

 القراءات :509  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 146
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.