شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
183- صنعـاء
صنعاء.. يا لحنَ الزمان البكر في سمع العدمْ
صنعاء.. يا أول حَرف خُط في لوح القِدَمْ
من قبل أن يكتبَ بالحبر على طرس قَلَمْ
وقبل أن يشمَخَ "إيوان" وأن يُبْنَى "هَرَمْ"
صنعاء.. يـا عـرش الملـوك الصيـد "أذواء" الكـرمْ
كم عبد الغواةُ فيك للجمال من صنمْ
ورتَّلوا لقدْسِهِ من سجعة ومن نَغَمْ
كم من "نـبيٍّ" قـد عرفـتِ وهـو يشـدو بالحكَـمْ
وشاعر، وساحر وكاهن، وكم.. وكمْ!
من فرحة، ونكبة ومن سرور، وألمْ
واثبْتِ بالحيلة أحياناً – وحيناً بالشممْ
قد يهرم الدَّهر ولكن لن يُصيبك الهرمْ
سرَّ الشباب فيك قد أعيا الزمان والأممْ
و "قلبك العصيُّ" لَمْ يُهْزَم لحادثٍ أَلمّ
للحرب، أنت "هيكل" وأنت للحب "حرمْ"
من شفق الخلد نسجتِ المجد للشعب علَمْ
والصبغة الحمراء قدْ قطرتها ورداً ودمْ
* * *
أقسمُ بالوالدِ والأمِّ.. وما أغلى القَسَمْ
لقد حويتِ مـن صفـات الحسْـن مـا خـصَّ وعَـمَّ
والله قد أعطاكِ منها ما اصطفى وما أتَمّ
أولاك ما لم يول – قصداً – بلداً من النعَمْ
وما حَبَا قوماً كما حبَا ذويك من شِيمْ
من رقَّةٍ في عفةٍ ومن حفاظ للذمَمْ
* * *
صنعاء.. قلبها أرقّ من نسائم السَّحرْ
للحُبِّ في غياضها أهلٌ، وللحُسْن سمرْ
أبدعها الله لأهل الفنِّ مأوى ومقَرْ
كم صدح الشعر وغنَّى، كم تصابى، وشعر
وكم تمادى في الذنوب. وتجنَّى، وغفرْ
* * *
صنعاء.. "قلبها العصيّ" لا يُبالي بالخطَرْ
ولا يلين لتصاريف الزمان والقدرْ
لكنَّه للحبِّ يُعطي حِسَّهُ؛ إذا أمرْ
سيَّان من ماطلهُ ومن عصَى، ومن شكرْ
تزوَّدت بكلِّ ما يصرف عنها كلَّ شرْ
لكلِّ قوم شِربُهم "فكلُّ شِرب محتضَرْ"
ما يصرع الطَّاغي إذا اشتطَّ، وأدهى وأمرْ
وما به لكلِّ جبارٍ أثيم مزدَجَرْ
كم من مليك سامها بالخسْف عمداً وقهرْ
قد خلَّدته لعنة الدَّهر، وآب محتقَرْ
وكم طموح لم ينَلْ إرباً، ولم يقضِ وطرْ
استنجدتْ آماله بها.. ففاز، وانتصر
* * *
صنعاء.. والقرون تترى، ما أسا وما أسرْ
تواكبت على ثراكِ كل أصناف الصورْ
من كل لونٍ للحياة، والفناء، والعِبَرْ
أنا الذي قد بارك الآلامَ فيك واصطَبرْ
لولا علاكِ لاندحَرْ.. لولا هواك لانتَحَرْ
لولا خيالات الوصال ما تغنَّى أو شعرْ
تقدَّس الجمالُ فيك، وتألَّه البَشرْ
وكلُّ شيء صاغهُ الخلاَّقُ فيك.. بقدر
* * *
صنعاء.. يا ملعبَ أوهام الشباب الحالم
مدينة الخلود، والأسرار، والطلاسمِ
يا مسرح الهوى، ويا روض الغرام الهائم
في أفقٍ يزهو بألوان الجمال الدائمِ
مضمَّخ النُّور بنفح الطيب، والبراعم
عرائس الخيال في غلائل الغمائم
ترقص كالأطفال بين الزهر والنسائم
ما بين طرفٍ ساحرٍ من فوق ثغر باسم
وبين خصر ناحلٍ من تحت صدر ناجم
ترتعش اللذات كالورود في الكمائم
وبين هاتيك "الرَّوابي" الخُشع الجواثم
تزدحم الأهواء في توق وشوق عارم
وتُجْتنى القطوف قد طابتْ لكل لاثم
والحُبّ قد خوَّلها عفواً.. لكل آثم
* * *
أوَّاه.. يا قلبي، أفق وتب، وعش، وسالم؛
كفاك ما قد نلتَ من هول، وذل حاطم
كل حياتي عشتها في حندس المظالم
إمَّا يتيماً ينظر الكونَ بطرف ساهم
أو خائباً في حبِّه أو شارداً كالهائم
أو في السجون موثقاً أو في لظى الملاحم
أو باكياً مصارع الرفاق في المآتم
لا أتَّقي مصيبةً إلاَّ بخطبٍ داهم
متى متى.. ألقى عصا الترحال، والتخاصم؟
وفي "أزال" حيثما درجتُ بالتمائم
أحسوا ثمالة الحياة في سلام دائم
* * *
صنعاء.. قـد قالـوا حَـوَت دون سواهـا كـل فـنْ
لو قيل للدهر ألا يعرف ما بين المدنْ
لها شبيهاً في الجمال، والدلال، والفتنْ؟
لقال ليس.. وأضاف لا، وما، ولم، ولنْ
هندسة الإِبـداع قـد.. حبـت لهـا قلـب "اليمـنْ"
وحكمتها في القرى.. بين "ظفار" و"عدنْ"
"سام بن نوحٍ" رادها.. واختطَّها له وطنْ
بعد استشارة النجوم، والعقول، والفطنْ
* * *
صنعاء.. قلبها "عصيّ" في الخطوب والمحنْ
جحافل "الأحباش" لم تُسْلسْ لتيهها رسنْ
ظلَّت على ولائها "لتُبَّع" و "ذو يَزَنْ"
وفضلت علـى "الصّلـيب الحبشـي" صمـتَ "الوثـنْ"؛
ضلالةٌ جميلةٌ فيها الإِباء قد كمنْ
* * *
أوَّاه يا "صنعاء" قد أخنى على قلبي الحزَنْ
ضيَّعتُ في الأوهام عمري، وشبابي في الإِحَنْ
سخرتُ بالموت جنوناً، وهزئتُ بالزَّمنْ
مشَرداً أو تائهاً، أو في السجون مُرتَهَنْ
أو في نضالٍ.. دُونَما جَدْوى، ودونَما ثمنْ
فَقَدْتُ أصحابي، وأترابي.. وأهلي، والسكنْ
ولم أفقْ إلاَّ على صوت المشيب والكفنْ
* * *
في الحبِّ عقلـي انهـار مخْبـولاً، وإحساسـي انطَحَـنْ
مشاعري ذابت، وروحي كلَّ، واستخذى، وأنّ
ما كنت من أكفائه فَشَفَّ قلبي. وامتَهَنْ
وكنتُ قد أعطيتُه مِنِّي الخفيّ والعلَنْ
* * *
أوَّاه يا صنعاء أشواقي تدمدمُ في الضلوعْ
لم يبق لي شـيء بـه أُعـزي إليـك سـوى الدُّمـوعْ
دمع المعذب، والمشرد، والمتيَّم، والولوعْ
دمـع المشيب علـى شبـاب هـام فـي تلك الربـوعْ
دمع الضيـاع علـى "المداكـي" والمفـارج والشمـوعْ
دمع الندامة ذاب بعـد اليـأس مـن جفـنْ الخضـوعْ
* * *
صنعاء قلبها "العصيّ" ليس بالبَرم الهلوعْ
هزم "الغزاة" بصبره وحمى "الفتوة" بالقنوعْ
لا للطغاة الباطشين هَفَا، ولا عرف الخنوعْ
لكنه يصغي إلى شكوى المدلَّه والجزوعْ
باللحن تنتحر القوافي فيه من شعر يروعْ
بالحسن تلتجئ المفاتن منه في عطر يضوعْ
بالمجد يجأر، وهو بين مخالب الصقر الطَّموعْ
* * *
صنعاء.. هل يُرجى لمثلي نحـو سفحـك مـن رجـوع؟
أنا "ابنك العاصـي" رجعـت أجـرُّ أذيـال الخشـوعْ
قلبي على دين الصبابة ما له عنها نزوعْ
شهدتْ على إخلاصه رجفاته بين الضلوعْ
وخفوقه إن لاح في جُنح الدجى برق لموعْ
وإذا تَبَتَّل كنتِ أنتِ له الضَّراعة والدموعْ
ويكاد لا ينساك حتى في السجود وفي الركوعْ
هل لي إلى "القلـب العصـيّ" إذا تمنَّـع مـن شفيـعْ؟
كللتُ قرباني إليك "عقيرة" الصبِّ المطيعْ
بتمائمي، وعزائمي بطفولة الحب الوديعْ
بالشعر، بالأنغام، بالآلام، بالقلب الوجيعْ
بهـواكِ "يا صنعـاء" لو ضاعـت حياتـي لـن يضيـعْ
بيروت: 23 رمضان 1389هـ
2 نوفمبر 1969م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :293  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 208 من 639
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.