شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مُقَدّمة
لم يعرف الاستقرار، ولا خلدتْ نفسه إلى مستقَر منذ أن أعرف الحياة.
دائماً يصبو إلى هدف، أو يهفو إلى جديد، ودائماً ينزع إلى مجهول، فلا يقف إلاَّ على الحيرةِ والهباء.
يشعر دائماً بالاغتراب، ويحس بأنه ناءٍ عن كلّ ما حوله.. بل وعن كل ما يَنْطَوي عليه.
بين أهله وأحبابه، أو تَائِهاً في الآفاق.
بينَ الناسِ، أو وحيداً شريداً.
في انْطِلاقِهِ وحريته، أو بين الحواجزِ والأغْلال.
دائماً.. هو المغترب النَّائي.
مغتربٌ في موطنِه، مغترب في غربته.
ولا نديمَ ولا سلوى، ولا مؤنس ولا عُلالة، إلاَّ الشعر، يقرؤهُ أو يغنيه، فيخفف آلامه، ويجفِّفُ دموعَه، ويَصدُّ به أشباح العذاب، ويستَنْزل بِه الرحمة والحنان، ويصور خَلجات فكره، ولفحات آلامه، وحنين روحِه، ويُعللُ أماني قلبه، ونزعات نفسه، ويهدهدُ صبايا آماله، وذكريات صباه، ويعوذ به من كل بلاء، ويعربُ به عن كلّ شعور جميل، ويذكي به ناراً ونوراً.
الشعور بالغُربة، والإحساس بالخيبة، هو الذي حداه إلى أن يقول (1) في "عدن"، 1363هـ/ 1944م:
قدرٌ، أو مصيبةٌ، أو شقاءٌ
ليس يدري مـاذا دهـاهُ فهامـا؟
لَيْسَ في وُسْعِهِ الكلام، ومـن كـا
نَ مُصاباً لا يَستطيع الكلاما
كلُّ ما في لِسانِه أنه زا
غَ عن الأهـل خشيـة أن يُضامـا
نَظَر العُشَّ فـازدارهُ مـع الـذل
وولى عنه يجوبُ الظَّلاما
يشربُ القيظَ روحُهُ في المَفَـازا
ت ويَقْتَاتُ الهول والآلاما
وأن يقول في الفترة نفسها، وفي المكان نفسه:
غريبٌ يجوبُ القَفْرَ والليـلَ سـادِرُ
ولا هادياً إلاَّ النجومُ الزَّواهرُ
وفي قلبه مما يكنّ معارك
نوازعُ، يطغـى لَفحُهـا، وخواطـرُ
. ومن حوله الأخطار تسري رهيبـة
تطارحه أوهامَهُ وتحاورُ
وتَنْثر أشواك الأسـى فـي طريقـهِ
فيا ويحَه، كم يتقي ويحاذرُ
وهو الشعور نفسه الذي انتابه وهو يودع "صنعاء" في سنة 1364هـ/ 1944م، فقال:
ودَّعتُ تلكَ الرُّبوعَ حيراناً
يفيضُ قلبي أسىً وأشجانا
وقفتُ في ساحها، أخاطبها
بالدمع لا أستطيع تبيانا
تَحيَّر اللفظ في فمي حَزَناً
يعثُرُ بينَ الشفاهِ حَسْرَانا
أنظرها خاشعاً، وقد مَلأتْ
صدري همومُ الفراق نيرانا
* * *
يا ويـح نفسـي! أكُلَّمـا نَعمـت
بالوصل.. لاَقَتْ نـوى وهِجرانـا؟
وَوَدعَتْ صَفْوَها وراحتَها
وصادفَتْ جفوة وحِرْمَانا؟
فَصادمتْها الخطوبُ قاسِيَةً
تَسُومُها بالعذاب ألوانا
* * *
كم أذْرعُ الأرض ذاهلاً وَجِلاً
وكم أجوبُ البلاد هيمانا؟
كشارِد، يأسُه يُطاردُهُ
يُريه أيان سارَ أحزانا
فليتني ما شهِدت شارقَةً
وليتني ما عرفتُ إنسانا
وأي شعور، غير الشعور بالاغتراب في هذه الحياة، حين بلغ الخامسة والعشرين وهو في المعتقل سنة 1367هـ/ 1948م، فقال:
مَرَّتْ حياتي، ولمـا يُقْـضَ لي وطَـرٌ
وليس لي غير نيل المجـد من وطـرِ
خمسٌ وعشرون عاماً، ما ظفرت بِهـا
من الحياةِ بغير الهمّ والكدرِ
إمّا غريباً أقاسي كل نائبةٍ
أو موثقاً بين سمع المـوت والبصـرِ
ًلولا بقية آمال تهَدْهدها
في قلبِيَ المتَعنِّي رحمة القدرِ
فارقْت دنيا الورى بالهـمّ منتحـراً
إمّا إلى جنَّـةِ الفردوس، أو سَقَـر!!
وحين كان يستَدرُّ عطف جلالة أمير المؤمنين الإمام أحمد، أطال الله عمره، ليصفح عنه في سنة 1372هـ/ 1952م، فيقول:
دَعَاني وحُزْني، في محاريب عزلتي
فقد سَئِمتْ روحي حياةَ البرية
عشِقْتُ الأسَى من طول ما شفَّني
الأسَى وَهِمتُ بآلامي لِسَرْمدِ شقوتي
فلا تَطْلبا عندي رقَى السحر والمنَى
ولكن خُذا عني صَدَى كلّ خيبَةِ
فقد هَرِمَتْ أيام لَهوي وبهجتي
وماتَتْ ليالي صبوتي وشَيبتي
فأمسيتُ في أكفَانِ سُقْمِي ونكبتي
أراقبُ بَعْثي، وانتعاشي ويَقْظتِي
وما أنا بالحي الذي طاب عيشُه
ولكنني في السجن حيُّ كمَيِّتِ
ولم يَبْقَ في كأسِ الشقاءِ ثُمالَةُ
لغيري.. فقد أفرغته نَخْبَ حيرتي
أعانِقُ طغيان المخاوفِ، مُطبقاً
جفوني، على أشباح يأسي وذِلَّتِي
وخلف الدَّياجي يجثم النُّورُ مُطبقاً
جفوني، على أشباح يأسي وذِلَّتي
وخلف الدَّياجي يجثم النُّورُ موثقاً
ينوء بأعباء الليالي الثقيلةِ
أسارقه اللَّمْحَ المفزّعَ خائفاً
كأني رجاء في فؤاد فريسةِ
حناناً "أمير المؤمنين"، فإن في
حنانك ما يشفي عُضال الرَّزيـة
ودعني إبادر حظّ عمري من المنى
قبيْلَ احتباسي في شباك المنيةِ
فقد عَجَمَتْ عودي الكوارث فانثنى.
مهيضاً يلاقي الموتَ في كلِّ خُطوةِ
. وغلَّتْ صروفُ الدهر كفَّ عزيمتي .
وفَلَّت شَبا حدّي، وأبلَتْ عزيمتي
ولم تُبْقِ لي خِلاًّ، ولا ذا قرابة
يُصِيخُ لِقُربي، أو يفي لموَدَّةِ
كان أيضاً يصور حياته وأحاسيسَه وآلامه، وقد بلغ المنى من ذلك حين قال في قصيدة أخرى من الروي نفسه وفي الموضوع نفسه:
إلى من أبث الشجو؟ قلبي موجَعٌ.
ونفسي في نيران يأسي وخيبتي؟
قطعتُ حياتي تأئهاً أجرع الأسى
ضُروباً، وأشقى في منامي ويقظَتي
وأنفد أيَّامي بكاءً ولوعَةً
وأسكبها في شعر بؤسي وشقوتي
وأجري وراء الوهم حيرانَ، أسْتَقي
كؤوس الفنا من كفّ تيهي وحيرتي
وأغذى مراراتُ الخطوب، وأشتوى
على جاحمٍ من نارِ حُزني وحَسرتي
ولا صاحبٌ إلاَّ الدموع أذِيلُها
وإلاَّ بقايا زَفرةٍ طَيَّ مهجتِي
وأشلاء روحٍ مزقتها همومها
وأنقاض نَفْس حُطِّمتْ بالتَّشَتُّتِ
إلى من أبثّ الشجوَ؟ لم يَشفِني البُكا
ولم تغنِ آهاتي، ولم تُجدِ زفرتي
ولا عَصَمَتْنِي من زماني سماحتي
ولا نَفَعتني في حياتي جرأتي
خُلِقْتُ شَقيّاً، مزَّق اليتْمُ خافقي
صغيراً، وأبلى الحُبُّ رَسْمَ شَيبتي
وألوتْ بي الأسفارُ شَرقاً ومغرباً
ولم تَرْعَني في أُسْرَتي وأحبَّتي
وتفضل الإِمام العظيم بعفوٍ عظيم، ومارس الحياة أشكالاً وألواناً خيراً وشراً، ونُعمَى وبُؤْسى، ولكن القلق الدائم.. والتَّوق إلى الجديد.. واستشفاف المجهول.. والشعور بالاغتراب.. إلى هموم وهموم، أبقتْهُ، دائماً صبّ الشعر، باكياً ناعياً، أو صارخاً داعياً، أو مفكراً أو لاهياً، وقد يذكر عنه الناس شيئاً – والجحُودُ دائماً مقبرةُ المخلصين – ولكن أحداً لن يستطيع أن يقصيه عن زمرة الشعراء وكفى.
وبعدُ، فهذا الديوان الثاني للشاعر جمع فيه ما قاله بعد أن صدر ديوانه الأول سنة 1953 وما لم يتمكن من نشره أو ما كان مفقوداً من شعره القديم.. فديوان "عُلالة المغترب" إذنْ قديمٌ جديد..
فيه شعر: قيل سنة 1943م وآخر قيل سنة 1963م، ولكن النفَسُ نفْسُه، وطابع الحزن، ومَيسم الآلام يسود كليهما.
وفي حياة الشاعر "صاحب الديوان" أحداث جسيمة كان لها أعظم الأثر في توجيهه، وأفكاره، وثقافته، وعلاقاته بالمجتمع والناس، وأهم هذه الأحداث ثلاثة:
1- فقد نشأ يتيماً، وعرف الحزن صغيراً، وتمرَّس على مختلف الآلام يافعاً، فأحب الحزن، وقدس الدموع، وأكبر المساكين، وكره القسوة، وعاف الذلّ، ومقت الدجَّالين.
2- اعتزل الناس خمس سنوات في "حجة"، فرأى كيف تتغير الأحوال، وتتقلَّب الأمور، وكيف يتحول العدو صديقاً، وكيف يتحوَّل الصديق.. وكانَتْ فترة تأمل، ودراسة، واعتبار ففكر كثيراً، وقرأ كثيراً، وازداد فهماً وإيماناً.
3- عفا عنه جلالة الإِمام أحمد، وكانت قد امترسَتْ فيه الأقاويلُ، وأحدقَتْ به الحزازات، ولكن الإمام العظيم وخلائقه الكريمة تجاوزت وسَمتْ وعرَّفت الشاعر كيف يُحسنُ الأبطال، كما أنه عرف أيضاً. كيف يتقيَّد بالإِحسان ويعتنق الوفاء.
آثار هذه الثلاثة الأحداث، اليتم والعزلَة والوفاء، تتحكم في حياة الشاعر، وتظهر جليَّة واضحة في كل ما يأتي وما يدع من خير وشر وقول وعمل.
وفي هذا الديوان بكاء مع الأشقياء، وثورة على القُسَاة، وتمجيد للرحمة، وتفنيد للأدعياء، وتقريعٌ للمنافقين، وإشادة بالأبطال، ودعوة إلى المجد، إلى ذكريات استجرَّها من ماضٍ باك، أو خيالات استوحاها من أحلامٍ بائدة.
ولقد كان الشاعر في كثير من الأحيان صريحاً في تعبيراته عن خوالج النفس البشرية، وانفعالات الوجدان الإنساني مِمَّا قد لا يستسيغه بعض أهل الفضل من المتزمتين، أو من لم يتعمقوا في دراسة الأدب العربي.. وطبيعة شعره قبل الإسلام وبعده.. ولن يسلم الديوان وصاحبه من لوم هؤلاء أو أولئك، ولكن من ذا الذي لَمْ يُلَمْ قَطْ؟ ومن ذا الذي قد تفَردَ بالحسْنى؟
ويحتوي هذا الديوان على قصائد لم يتقيَّد الشاعر فيها بقافية واحدة أو وزن واحد، وهذه الطريقة ليست جديدة على صاحب الديوان، بل إنه كان من أوَّل من مارَسها من شعراء اليمن، ولكنه لم يسرف فيها إسراف أولئك الذين هبطوا بلغة الشعر ومعانيه وأوزانه إلى دركٍ سحيق، وتنوعَت القوافي، على أنه كثيراً ما يتعمَّد أن تكون "التفعيلات" متسقة، متناغمة في تفعيلاتها وقوافيها.
وسيجد القارئ في آخر الديوان رواية شعرية تَحت عنوان "في مسرح الحياة"، وقد أنشأها الشاعر في سنة 1363هـ أي منذ أكثر من أربعين عاماً، وهي أوَّل محاولة من نوعها لشاعر يمني حديث (2) ، بل إن أحداً من شعراء الشباب لم يُنْتجْ ما يماثلها، أو ينهج نهجها فيطور الشعر القصصي في اليمن، ويخطو به خطوة أخرى.
"عُلالة المغترب"، و"النفس الأول" يضمّان معظم ما قاله الشاعر من قصيد، ومقطوعات شعرية في شتى المناسبات، ومختلف الأغراض ويُعْطِيانِ مَعاً صورة صادقة للشعر اليمني الحديث، ومواكبته للشعر في جميع الأقطار العربية الشقيقة.
أحمد الضَّالعي
لندن: 18 ذي الحجة 1381هـ
22 مايو 1962م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :537  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 639
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج