شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الأستاذ محمد القشعمي مدير الشؤون الثقافية
بمكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض ))
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سعدتُ بمبادرة المواطن الشيخ عبد المقصود خوجه في تكريمه لرواد المجتمع وتقديره لهم لحفز غيرهم للعمل وإعطاء كل ذي حق حقه، وهذه الليلة وأنا أشهد تكريم هذا الرائد الأستاذ الجهيمان، ضمن هذه السلسلة المتواصلة من الرجال المخلصين لوطنهم والصادقين مع أنفسهم ومجتمعهم، لا يسعني إلا أن أشكر الشيخ عبد المقصود خوجه وجميع الحاضرين.
أيها السادة، الأستاذ الأديب عبد الكريم بن عبد العزيز الجهيمان (أبو سهيل)، سأتكلم عنه كإنسان، أما عن كتبه فلها آخرون سيتكلمون عنها، عرفته متأخراً إذ لم يمض على معرفتي به معرفة مباشرة أكثر من عشرين عاماً، وتوثقت علاقتي به منذ بضع سنوات وكلما تقدم بنا العمر ازدادت العلاقة وثوقاً وقويت أواصرها رسوخاً، فأبي سهيل بسلوكه النظيف وأخلاقه العالية وطباعه المحمودة جعلني أحرص على رفقته في السفر والحضر، في مناسبة وغيرها، فكان يأنس بي وآنس به، والسفر هو الذي يكشف المرء ويظهره على حقيقته، ولذلك يقال إذا أثنى شخص على آخر قيل له: هل عاملته في تجارة؟ قال لا. قيل له هل رافقته في سفر؟ فقال: لا. قيل له: إنك إذن تثني عليه وأنت لا تعرفه، صحيح أنني لم أعامله ببيع أو شراء ولكني سافرت معه مرات عديدة داخل المملكة وخارجها، ولأكثر من عشر مرات، لم أر أو ألمس منه ما يكدر الخاطر، فهو متسامح مع الجميع لا يلتفت أو يغضب من الهفوات التي قد تحصل من شخص أو آخر فهو كثيراً ما يلتمس له العذر ويصفح عنه، في عام 1380هـ كان يكتب في جريدة القصيم الافتتاحية أو كلمة القصيم خالية من أي توقيع ويكتب في الصفحة الأخيرة عامودين مشهورين تحت عنوان (المعتدل والمائل) موقعاً باسمه الصريح، وكان يعرض كل السلبيات السائدة فيعالجها بأسلوب يجتمع بين النقد اللاذع والتهكم والغمز واللمز، يقول بعد ذلك إن الملك سعود استدعاه يوماً وقال له: إنني قرأت كلمتك (المعتدل والمائل) وإنني لم أجد بها معتدلاً فكلها مائلة.
وقبل حوالي عشر سنوات سمعت أنه خرج من المستشفى العسكري بالرياض بعد أن مكث فيه قرابة أربعة أشهر بسبب كسر في رجله، وأنه طوال هذه المدة لم ينشر عنه أي خبر في جميع الصحف ليعرف أصدقاؤه ومحبوه بذلك فيزوروه، فأحسست بتأنيب الضمير، وتألمت من هذا العقوق لمثل هذا الرجل الذي نعده من الرموز الوطنية، وأوائل من أنار الطريق لهذا الجيل، فسألت عن بيته وزرته مع الزميل ناصر الحميدي الذي يسكن بالقرب منه، وقد رحب الرجل بنا ولكني لاحظت أن خفة الظل التي كان يتحلى بها بدأت تخبو إلى جانب أنه كثيراً ما يتبرم من بعض المواقف، وقد حاولت إخراجه من العزلة التي يعيشها سواء من خلال دعوته لزيارتي وجمع ببعض الأصدقاء الذين ينظرون إليه بتقدير كبير، ولكنهم لا يعرفون كيفية الوصول إليه فبدأت أزوره بين وقت وآخر مع بعض الأصدقاء فوجدت أنه بدأ يتحسن وأصبح يبتسم من أية نكتة أو موقفٍ طريف وبداخله الفرح بشكل لا يوصف، فشعرت أنه بدأ ينتقل من جو إلى آخر، وفي إحدى الزيارات سألته لماذا لا تكتب مذكراتك؟ فتمنع ووضع الحواجز واختلق المعاذير، وذكر بعض الأشياء الغير منطقية، وبدأت أحضر معي عند زيارتي بعض الكتب وبالذات ما يتعلق منها بالسيرة الذاتية، واتفقت مع الأخ ناصر الحميدي على أن يطلب منه عند زيارته أن يكتب بعض المواقف المهمة في حياته أو يسجل له ويحدد معه برنامجاً بحيث لا يرهقه، فمثلاً كل أسبوع يطالبه بعدد من الصفحات أو يسجل معه لمدة ساعة، وبدأ الأخ ناصر يجمع ما كتب عنه ويستعرض مؤلفاته حيث أصدرها باسم (رحلة أبي سهيل)، قراءة في حياته وأدب عبد الكريم الجهيمان، وكانت عملية استدراجه لكتابة مذكراته من خلال أن يكتب ملخصاً في حدود ثلاثين صفحة لضمها للكتاب المذكور وعندما صدر كتاب الأخ ناصر كانت المذكرات كاملةً على وشك الانتهاء، وبعد صدور مذكراته بدا سعيداً وبدأ يفكر في إعادة طبع كل كتبه الأخرى، كما ألف كتاب (رسائل لها تاريخ).
لقد عرفت أستاذنا أبا سهيل بسيطاً غير متكلف ومهتماً بالأدب والتراث العربي بشكل كبير، وعندما سافرت معه لأول مرة منذ سنوات إلى سوريا ورغب أن أحقق له طلبين أولهما: زيارة قبر أبي العلاء المعري في معرة النعمان، والآخر: أن يسبح في البحر، وهكذا كان فقد كانت زيارته (لرهين المحبسين) زيارة مؤثرة وقد ناقش أمين المكتبة أو مسؤول المركز الثقافي بمعرة النعمان حيث ضريح ومكتبته لماذا لا يُهتمُّ بها من حيث المقر وتواضع المستوى؟ لولا أهمية وقيمة المكتبة التي تضم أغلب ما كُتِبَ عنه وبالذات المجلدات الضخمة التي أهداها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عندما كان وزيراً للتربية بمصر، ولم يقتنع أبا سُهيل إلا بعد أن ذكر له المشرف على المركز بأن حياة أبي العلاء كانت متواضعة وهو لا يحب الرفاهية وعاش في هذا البيت المتواضع الذي رفض تغيره رغم عرض الكثير منهم عليه الأفضل، ومات ودفن هنا ونحن لا نملك إلا أن نحترم رغبته.
منذ عرفته قبل العقد ونصف العقد وهو يقول: عندما يسأل عن عمره أنه في أواخر الثمانين، ومنذ أكثر من خمس سنوات يقول بأنه بالتسعين رغم أن في ترجمته الرسمية يذكر أن مولده عام 1333هـ، ويعلل ذلك بأن التوثيق ودقة المعلومات لم تكن موجودة آنذاك، ولهذا فهو أكبر مما هو مسجل في بطاقته الشخصية، سافرت معه إلى جدة مرتين، المرة الأولى: قبل ثلاثة أعوام وكانت لزيارة صديقنا الأستاذ عابد خزندار، حيث استمتعنا بضيافته لليلتين جميلتين على البحر، وزرنا معه والده الشيخ محمد علي خزندار، حيث الذكريات والتاريخ الجميل، وكذلك الأستاذ عبد العزيز مشري -شفاه الله وعافاه- وبعدها بخمسة أشهر بمناسبة عودة الصديق عبد العزيز مشري من أمريكا حيث ذهب للعلاج عرضت عليه فكرة زيارته هناك، فشرط عليَّ أن نزور أيضاً زميله في التدريس قبل ستين عاماً، في مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة الناقد الأستاذ عبد الله عبد الجبار، فوعدته بالاستعانة بعابد لمعرفة عنوانه، وكان لقاؤه بزميله القديم لقاءاً لا يوصف إذ تمنيت لو كان معي (كاميرا) لأخذ صورة لهما وهما يتعانقان، عندما قال الجهيمان لعبد الجبار: إنني جئت إليك معتذراً عمّا بَدَرَ مني أثناء زمالتي لكم قبل ستين عاماً، وشكايتي لك على مدير المدرسة آنذاك الأستاذ أحمد العربي -رحمه الله- أجابه الأستاذ عبد الله إنني مسامحك من زمان، وأضاف بأن كتبك هي التي شفعت لك أو على الأصح هي التي اعتذرت عنك.
عرفت أبا سهيل في السفر فهو يتحرك بحذر عندما يكون رفيقه نائماً وعلى العموم فهو ينام في اليوم حوالي خمس مرات، وببرنامج متقن حافظ عليه بدقة منذ حوالي ثماني سنوات، وبرنامجه اليومي أثناء السفر طبعاً يقوم في الفجر يصلي ثم يشرب كأسين من الحليب مع قليل من الموز، ثم يعود للنوم ويصحو بعد ساعتين أو ثلاث ليمشي قليلاً خارج المنزل، ثم يعود ليشرب كأساً من الحليب، ويأكل ما تيسر من الفاكهة، ثم يذهب لأقرب بركة سباحة من الساعة العاشرة صباحاً وحتى حوالي الثانية عشرة وتجده يفرح عندما يكون معه أطفال أو من يماثله في السن، وتجده سريعاً ما يحتك به ويفتح معه الحديث فيعرف مستواه الثقافي وعندها يحدد نوع الكلام ويحرص على التعرف على الجميع، ويعطي كل ذي حق حقه، وكل يحادثه على مستواه، فقد تجد في المجلس كبار السن وصغاراً فلا يميز أحداً على آخر، قبل غروب الشمس بنصف ساعة يأخذ عصاه هذه لا ترافقه إلا في هذا الوقت لينفذ برنامجه المعتاد وهو المشي إذ يسير في الشوارع المحيطة بالحي وفي حدود ثلاثة كيلو مترات، يعود منه بعد الغروب ليشرب كأساً من الحليب، ويذهب للنوم بعد صلاة المغرب، وينهض بعد ساعة يطالب بالمعلوم وينادي هل من مبارز؟ هل من مساجل وهكذا؟
جاء يوم مستبشراً فقال لي إن سائق سيارة فلبيني رآه وهو يمشي كالمعتاد عند الغروب بالرياض فسأل عن عمره فقال: تسعين سنة فسأله مرة أخرى وهل كل يوم تطبق هذا البرنامج؟ فقال له: نعم، فقال: أبشر سوف تعيش على الأقل عشرين سنة قادمة، وطبعاً كان حتى قبل سنتين هو الذي يقود سيارته بنفسه ولكنه عاد في إحدى الليالي من السهر مع أصدقائه وكان هناك كمية من الرمل في الشارع في ظل عمارة لم تكتمل وكان يظنها ظل العمارة ولهذا اصطدم بها بقوة وتأثر صدره إذ ارتطم به مقود السيارة، وعدناه في المنزل مع الدكتور يحيى الساعاتي وأقنعناه بضرورة وجود سائق، خصوصاً وأن مسبح رعاية الشباب الذي يزاول من خلال برنامجه ظهر كل يوم بعيد عن منزله، ولهذا اقتنع.
كان يحضر النقاش أيام معرض الكتاب في القاهرة مع بعض الأصدقاء فإذا رآه جاداً أو رأى فجوة قال: لماذا تكونون هكذا تتحمسون وجادون روِّحُوا عن قلوبكم بعض الشيء، دعوني أقص عليكم إحدى القصص، ويبدأ قصته بهذه (اللازمة) (كان سلمك الله) ويكرر (سلمك الله) كلما نسي جانباً من جوانبها، ويستمر من قصة إلى قصة على نمط ما هو موجود في الأساطير الشعبية، أو القصص القصيرة التي لا تخلو من النكتة أو الطرفة أو المثل الضاحك أو الحكمة حتى وهو في جلسة طعام يحادث المجموعة ويسليهم، وإذا قيل له لماذا لا تأكل؟ قال: أنا حويصلتي صغيرة لا تستوعب إلا ما تستوعبه حويصلة العصفور ثم إنني نباتي، والجهيمان يكره المتملقين والمنافقين والمدعين ويرثي لحالهم وإذا عرف أن أحدهم في مكان معين يعتذر عن الذهاب إليه بدعوى أنه مرتبط بموعد مسبق، إلى جانب حبه للطيبين الصادقين، عندما كان الأستاذ عبد العزيز مشري في المستشفى التخصصي بالرياض قبل ثلاثة سنوات وفي إحدى زياراتي له وعند الوداع قال لي: أتمنى أن أرى الأستاذ عبد الكريم الجهيمان وأن تلتقط لي معه صورة، وعندما نقلت رغبة المشري لأبي سهيل، أبدى ترحيبه الكامل وذهبنا إليه وكانت سعادتهما لا توصف وهما يناقشان القضايا والمشكلات الاجتماعية والمصوِّر يلتقط لهما الصور، وكان أبو سهيل يتحاشى أن يحدث المشري عن أمراضه بل يشد من عضده ويشجع ويشيد بكتاباته ويشكره على استمراره رغم معاناته.
صادف في معرض الكتاب بالقاهرة قبل سنتين أن التقينا بالأستاذ أحمد الفلاحي الملحق الثقافي لسلطنة عمان بالقاهرة سابقاً، ورأى أبا سهيل بمعرض الكتاب يتهادى بعكازته عرفته باسم (هذا تاريخنا يمشي على قدمين)، وعرف نتفاً من مآثره ومؤلفاته وتاريخه الناصع، وسريعاً ما قبلَ دعوته بعد قفل المعرض مساءاً لزيارتنا بالمنزل فطلب فسحة من الوقت للذهاب للفندق لإحضار كاميرته لأخذ صورة معه وهكذا أحضر أبو فلاح الكاميرا وبدأ يلتقط لنا الصديق الآخر بعض الصور وأبو سهيل بالمنامة (البيجامة) فقلت له: ألا يحسن بك أن تلبس ملابس تليق بك لأخذ الصور؟ فأجاب: إنه يريد تصويري وليس تصوير ملابسي. يقول أبو سهيل أنه كان في إحدى زيارته للمغرب يتمشى في مدينة سلا المجاورة للرباط وقد وجد مبنىً مكتوب عليه (مدرسة جرير) فتعجبت كيف وصل ابن (أويثية) إلى هنا، وهذه القرية تقع بجوار قرية أبي سهيل ضمن قرى بنجد، فقلت له عند تقديم نسخة من القصائد الشعبية التي سبق أن ألفها وهي مترجمة إلى اللغة الروسية مؤخراً، وهكذا وصل جار الشاعر جرير إلى أبعد من المغرب. هو لا يحب أن يشرب الماء أو العصير أو غيره بالكأس القصيرة، بل يحب أن يشرب بكأسٍ طويلة ويقول: أما تعرف قول الشاعر؟
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقنى
و لا تسقني بالأصغر المتثلِّــم
 
وأخيراً لقد سعدت بصحبة وصداقة وهذا الرجل وأصبحت علاقتي به تتوثق كلما تقدم بنا العمر، وقد عرفته وخبرته في الحضر وفي السفر... في الأفراح والأتراح، وهو من أكثر من سافرت معه من الأصدقاء وأنِستُ به ورفقته، وليس سراً أن أقول أنني قد رافقته في السفر لأكثر من عشر مرات خلال السنوات الخمس الماضية.
تلك لمحات قصيرة من حياة الرائد الكبير المليئة بالعطاء والمواقف النبيلة والروح اللماحة المرحة، أمد الله في عمره وأبقاه لمحبيه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
عريف الحفل: طبعاً يبقى لدينا ثلاثة متحدثين سنشنف أسماعنا إن شاء الله، ولكن كما تشاهدون الوقت داهمنا فنأمل التكرم باختصار الكلمات حتى نعطي وقتاً كبيراً لسعادة ضيف الاثنينية وأعتقد أنكم جميعاً متشوقون لسماعه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :601  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 202 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .