شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(17)
كانت بساطة الحياة وعفويتها تنعكس على كل شيء في البلدة الطاهرة، يتذكر الفتى كيف يصحو من نومه مبكرًا - وبعد أن يقبّل رأس والده ويده كان الأب يضع في يد الابن حفنة من القروش، ليضعها في جيبه ولينطلق في طريقه إلى المدرسة التي تقع في الجنوب الشرقي من المسجد النبوي الشريف كان الطريق طويلاً، بدايته "باب جديد" حيث منازل آل الخريجي المعروفة ببنائها الحجري المتقن وكان الناس يطلقون عليه المنزل أبو القبة -حيث تتوسط- أعلاه -قبة تضيء ليلاً وتنعكس أنوارها على ما حولها من الدور المتلاصقة كتلاصق أصحابها- مودة ورحمة .
 
- يتوقف برهة عند الخالدية مقر شرطة المدينة القديم -والذي تحتوي الجهة الخلفية منه على غرف صغيرة والتي تعتبر نزلاء للسجناء تنتابه مشاعر شتى هي أقرب إلى الخوف منها إلى شيء آخر، ثم إلى الشونة -عزيزنا الأخ الأكبر الأستاذ علي محمّد حسون- توقف عند اللفظة وأخالها مفردة تركية مثل "الوجاق" وغيرها التي ارتبطت بدلالات عسكرية، من الشونة إلى سقيفة "رصاص" حيث الصاغة وبعض سبل الماء، التي تحتوي على "دوارق" الماء التي يحملها شباب "كادح" إلى داخل المسجد الطاهر، في الجهة الجنوبية من المسجد تقع المحكمة الشرعية، ثم مكتبة المدينة العامة، ثم دار الشيخ عبدالعزيز بن صالح ثم دار آل السندي المطلة على القبة الخضراء حيث مثوى سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يمر من أمام مدخل حارة الآغوات -لم يعرف عندئذ أن الحارة سوف تكون يوماً ما- موئلاً له ولأنداد له، بل إن رؤيته للحياة تشكلت من مظاهر هذا الحي وأهله الذين تفوح منهم رائحة الطيبة والتسامح وانتفت عنهم ببركة الجوار مظاهر الغلظة والجفوة. أي شيء تبقى يا صديقي من ذلك كله؟ أي حب تلاشى ثم تصاعدت ذراته إلى عالم الغيب ليبقى خالداً حيث المطلق واللامتناهي من عوالم الملكوت والأزل يقف عند باب "المدرسة "يرى أترابه يلهون ويلعبون ولكنه منصرف عنهم بروحه التي تحلق -بعيداً- باحثة عن كلمة السر في هذا الوجود، يحس برعشة تسري في جسده عند الدخول إلى الصف، يتمنى لو أن تلك الحواجز التي تفصل بين غرف المبنى المتجاورة قد تلاشت ليصبح فضاءً واسعًا بحجم طموحاته المغايرة لطموحات أنداده. يسمع بعد الحصة الثالثة أو الرابعة صفارة مراقب المدرسة المعروف بشدته وحزمه مع الطلاب، فينظر إلى الطلاب وهم يسرعون الخطى إلى مقصف المدرسة الذي يقف خلفه إنسان من المجاورين الطيبين اسمه "حاج موسى"؛ الأصوات تتعالى:حجي موسى. نصف "شريكة"وبلهجة إخواننا المكيين "سحيرة"، وبداخل "الشريكة"قطعة من الجبن الأبيض، يخشى الزحام وجسده لا يقوى على المقاومة، يقف - بعيداً - البعض يبتسم له، وآخرون يتجهمون، وعرف في مقتبل العمر أن التجّهم هو قرين الغضب وفي بعض الأحيان يحمل دلالة الحقد، ذلك الداء الذي إذا خالط النفس البشرية أفسدها ولربما قادها إلى شيء من التهلكة، يعطف عليه الإنسان الطيب والذي يحيط به بعض أبنائه ليعينوه على أداء مهمته في "المقصف المدرسي" يناديه وفي شيء من التردد يضع الفتى يده في "جيبه" ليخرج تلك القروش التي لا يتذكر عددها، يربّت الرجل على كتفه فتتبدد بعض مخاوفه -أي شيء - يا صديقي يحمينا من رعب الحياة؟ أي شيء يقينا من شططها وتقلباتها؟ أي حرز تحترز به من أهواء النفس اللوامة؟ تلك أسئلة الوجود التي انغرست في نفس الفتى منذ يفاعته وإنها لتزداد مع الأيام إلحاحًا وشدة.
يتوسل لمراقب المدرسة قبل آذان الظهر ليسمح له بالخروج وأداء الصلاة في المسجد، يحث الخُطى إلى باب "جبريل" يرفع بصره ليرى تلك الوجوه المضيئة بالنور والمكللة بالمهابة لقد أنبت فيها -ذكر الله- ملامح الوضاءة والجلال والوقار.
يقترب من مجلس المؤذنين في مؤخرة البناء القديم من المسجد، يدخل فجأة من باب النساء رجل يتوكأ على عصاه، يعتمر كوفية "بلدي" ويرتدي ثوبًا مصنوعاً مما كنا نطلق عليه "اللاس" ولكأن الثوب الذي يرتديه الرجل قد انتهت سيدة الدار من كيِّه-في الحال، ولفت نظر الفتى أن الرجل قد وضع "الغترة" على كتفيه بطريقة فريدة رآها فيما بعد عند الرجل الأنيق إبراهيم البسام -رحمه الله- ولم يكن الرجل القادم من باب "النساء" المجاور لباب "جبريل" سوى ذلك المؤذن الذي عرف بجهارة صوته وحلاوته، إنه الشيخ حسين بخاري، ويمسك الرجل البهي الطلعة المضيء القسمات بمفتاح المنارة "الرئيسية "المطلة على القبة الخضراء المكللة بالنور والضياء، إنها -يا صديقي- لمن يعون ويدركون رمز الحب والسلام، يرتفع الأذان، يتجمع الزوار تحت المئذنة خارج المسجد مع كل تكبيرة وتشهّد، تنهمر دموع القوم الذين قادهم الشوق لتلك البقعة الطاهرة تردد جبال المدينة ووديانها -روحاؤها وعروتها وعاليتها- رجع كلمات الإيمان وتتنزل معها سحب الرحمة وتجليات المغفرة.
سماء مكة والمدينة لا تزال فيها بقية من ومضات النور الذي تجلّى -يوما- في غار "حراء" "وسفوح أحد" و"سلع" و"قينقاع" ولا تزال الأرواح التي لم تتكدر فطرتها ولم تفقد نعمة الصفاء التي خصها بها بارئها، لا تزال تستقبل من تلك الومضات ما يدنيها من تلك العوالم المجللة بذلك الضياء اليوم - يا صديقي... أسلك الدرب فلا أعرف منها شيئًا وأتملّى الوجوه ولكنني لا أتبيّن ملامحها، وأحتسي الماء فلا أجده كما عهدته قراحًا وممزوجا بقطرات الورد والكادي، وأبحث في "الدكة" عن "الزين" و"النور"، عن "مستسلم" الآغوات ورفاقه، ثيابهم ناصعة بياضها، وأيديهم -في السر- سخية بعطائها وألسنتهم مرددة لذكر وتسبيح تتقرب به من بارئها، لقد تساقطوا جميعاً - كما تتساقط الثمرة من شجرتها أو غرسها عند استوائها.
أبحث في حيرة عن الصوت الذي كان يرتفع في حصوة المسجد مجودًا للقرآن ومرتلاً له، أبحث عن حمام السلام الذي كان يحطّ في الحصوة ثم ينطلق حرًا في فضاء الملكوت، أبحث عن ذلك كله فلا أجده إلا في ذاكرة الكهولة الموهنة، إننا -يا صديقي- كما أطلقها عزيزنا "الحسون" -يوماً- في هدوء، إننا ذلك الجيل الذي يعيش من دون ذاكرة.
 
طباعة
 القراءات :243  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.