شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الحج بالروح (1)
إن أركان الإسلام يجب أن تؤدى أولاً بالروح قبل أن تؤدى بالحركات العضلية، ومن هذه الأركان ركنها الخامس، وهو الحج.
فإذا عزم إنسان على أداء حجة عمره كان من الحتم عليه أولاً أن يهيئ روحه لذلك، وأن يجهد في تنقيتها من أدران المادة وتطهيرها من أوضار الأطماع الدنيوية، حتى إذا صفت روحه وتلألأت -كالجوهر الكريم- استطاع عندئذ أن يؤدي فرضه وهو آمن السرب، خالص القلب، يكاد يتفجر من الشوق والحب.
وقد تخيلت نفسي مسلماً حنيفاً في أقصى الأرض، تكاد تتقطع مهجتي حنيناً إلى أول بيت وضع للناس هدى ورحمة للعالمين، فأخذت في جمع الوسائل المادية التي لا غنى عنها في سبيل بلوغ هذا الوطر العزيز الغالي ولم يسبق لي -طبعاً- أن رأيت هذا البلد الأمين.
فأخذ يتمثل في خاطري مثل الفرقد الوضاء الذي يتجلى في هالات بعد هالات من الجلالات القدسية؛ هذا المشرق الوحيد للنور الكامل، نور الله الذي هو نور كل شيء.. والذي هو نور كله.
وطفق ذهني يتخيل صوراً قد تكون غامضة أحياناً، ولكنها لن تكون غامضة أبداً في الحقائق التاريخية والوجدانية... فهذا الخليل، وهذا إسماعيل يرفعان القواعد من هذا البيت الخالد، وهذا الخليل يؤذن ويطلق دعوته السرمدية الجليلة التي تبلغ كل أذن وتتغلغل في كل قلب، وتستجيب لها كل نفس؛ إلا من عصى، ولج في عصيانه.
ويعبر عليه دهر داهر، فإذا محمد الكريم الحبيب تنجاب عن غرته الظلمات، وإذا هو يجدد الدعوة ويطبعها بطابع أزلي أبدي لا تمحوه الأزمان بإذن ربه.
وإذا هو يرفع المشعل الفياض بالأنوار الهادية المهدية، وإذا هذا البيت بعد ليله البهيم يلبس الغلائل الدرية من أضوائه الروحانية.
وأنا كمسلم يقطن في أقصى الأرض، وينوي أن يؤدي واجب حجه إلى بيت ربه، كيف تكون مشاعري عندما أستعرض هذه اللوحات الجميلة المجلوة التي تمتزج فيها وتتهالك عليها، وتهفو نحوها ملايين القلوب في ملايين النفوس، انصياعاً لأمر إلهي مقدور لا يؤديه الجسد قبل أن تؤديه الروح في صلواتها الحارة وابتهالاتها المتصاعدة وسكينتها القارة.
أما أداء الحج "آلياً" أو بقصد النزهة والتسلية، فلست أدري ما رأي علمائنا فيه؟ لقد كان المسلمون الأولون يؤدون فرائضهم بالروح والجسد، ثم خلف من بعدهم قوم يؤدونها بالجسد فقط؛ وإن أحدهم ليصلي وقلبه مشغول من تكبيرة الإحرام إلى السلام بأغراض الدنيا، ووساوس الأطماع.
وإني لأخشى أن يأتي زمان، فلا تؤدى فيه لا بالروح ولا بالجسد، فكيف يكون الإسلام عندئذ؟ ومع ذلك فإن الإسلام كدين روحي عال، لا يمكن أن يعتوره الفناء؛ فإن هذا الدين القوي ليزداد تجدداً وإشراقاً، كلما تجددت عليه الأماسي وأشرقت عليه الصباح، وإن المسلمين لحقيقون أن يتجددوا بضمائرهم وقلوبهم ونفوسهم، كما يتجدد دينهم الكريم.
وإذا كان الدين للديان، فإنه لموصول الوشيجة موثق العرى بالإنسان؛ هذا الإنسان الذي لا يستغني مهما تقدم وتعلم وتحضّر عن هذا الوازع الروحي، وهذه الذخيرة العلوية التي تصل أسبابه بأسباب السماء كلما انقطعت به حبال الرجاء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :210  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 84 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.