حينما تلم بالمرء مصائب متعددة لم يكن يتوقعها، في مدة قصيرة، أقل من شهر واحد.. مثلاً، فكيف يطالب أن تصح نظرته إلى المجتمع، وكيف يمكن أن يستقيم في تفكيره؟
وكون الإنسان يحزم أمره على الصبر، ويوطد نفسه على الثبات دون أن يكون هناك إعداد، وتمهيد لكل ذلك، فإن هذا يعتبر ضرباً من الجنون إلاّ إذا ادعى النبوة، وتكاليفها، ولم يعترف بالتياثه!
إن امرأ يفقد في شهر واحد ابنه الوحيد في حادث سيارة.. وخاله الذي كان يتقبل التعازي معه، وفي أويخرات الشهر يصاب في ابني خاله، أحدهم قتيلاً في طريق المدينة، والثاني مكسورة ذراعه اليمنى على جرح في صدره!
هذا المرء كيف ينسى هذه العجائب، ولو رآها في المنام فقط لكانت كافية في إرعابه، وإسهاد لياليه، وتنكيد أيامه!
وأشار إلى ذلك ابن الرومي في رثاء أحد الطالبيين في قصيدته الجيمية المشهورة، الطويلة.. وقد قال في العباسيين ما لا يقال.. ولكن الشاهد الشعري فيها حينما قال:
وعلى أن الدهر يأتي بنسيان من بعد ذكران، ثم يعكس الأصل وقد يتمم بالنسيان أواخر أمره، فإن حرارة اللذعة تلحق بقلب المرء، ثم لا تجعل له تبصراً في أولاه، ولا تذكراً في أخراه!
وقد يبذل العزاء من المعزي، ولكن المعزي خالي البال، من الأتراح، والأحزان التي تطيف بقلب المنكوب!
أما المعزون، فهم أخلياء، أعلياء، وإن كانت النوبة لن تفوتهم، إن طال المدى، وإن قصر!
ويظلم العمر حتى يطول على من لا يريده، ويقصر على ريعان الشباب الذي تفتحت له أبواب الدنيا بمباهجها، فلا يكاد يأخذ منها [ظمء](4) حمار ولا قلامة ظفر(5) .
إن الحزن إذا أخلد إلى القلب، فليس له من مغيب، إنه إلى ركونه في القلب أشبه نوع بأصله.
أما الحزن المكتسب أو الحزن المعار، فإن أصباغه تنكشف حالاً.. ذلك لأن الاكتساب في الحزن لا يعتبر طبيعياً، ولذلك فليست له قيمة؛ وأما الحزن المعار فإنه يعاد إلى من أعاره سلبياً، عندما تحل به نفس النكبة!
ألسنا كلنا نموت؟ ألسنا أكثر من أعداد في ألوف هذه البلايين من سكان هذه الطبقة الأرضية!؟
نعم، نحن كذلك، ولكن من يدخل هذا المعنى الخالد الصحيح في أخلاد الناس؟
والاجترار -في رأي الإبل- وأنا معها، أن تبتلع اللقمة حتى إذا انحطت في معدتها، استعادتها إلى حلقومها، وطفقت تمضغ فيها، وتجترّها وتسمع لها مثل الضريس!