شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الموت والتجارب (1) (1)
إن الموت لذيذ جداً، فكم قد رأيت قوماً يبتسمون، وهم يحتضرون، ويضحكون في وجوه من يبكون.
ولقد مرت علي موتات كثيرة، وقطع الأمل في ممن يليني.. وما أزال منذ أن عشت غرضاً للنوائب والأمراض المختلفة والأسقام، حتى لقد خلت أن هناك أمراضاً تختص بي، وتستوحد بي، ولا تخالط غيري، ولقد وددت أيضاً لو وصفت "الموت" وكيف يكون بلعه، وجرعه في حلقي وحلوق الآخرين، وإني لأتمنى ذلك في النهاية، وهي ليست ببعيدة على أية حال!
أريد أن أستطعم الموت كما يستطعم الأكل والشراب، فأعرف ماذا فيه من متبلات وفلافل وحوامض، وشهيق وزفير، ولكن هل يتاح هذا؟!
والموت -بعد- ليس شيئاً مخيفاً.. ذلك لأن طعمه في الفم طعم ليس يعرفه إلاّ من يذوقه، وليس هو بأردئ أطعمتنا في الناس، كما أعتقد.. ولكن -واحسرتاه- من يصفه مؤدياً واجب وصفه، في ما بعد ذلك..
وقد ذهبت الروح إلى أطايبها أو أخائبها الأولى!
والموت نفسه يموت.. إنه كلما أمات روحاً أودى بعضو حي من أعضائه، ومهد الصباح لمسائه المغني على لبد، وعلى آباء لبد في الأولين.
والموت -فيما أعرف- ليس هو حركة -وليس هو أيضاً سكوناً.. إنه بين بين، بل بين أكثر من بينين..
إن الموت وحش خفيف الروح ومرح أيضاً، وهذه من عجائبه، فإنه إذا ألاح على قبيلة أشاح عنها مدة من الزمن، ثم استدار إلى غيرها.
والموت الذي يحلل الأعضاء، ثم يذهب بها إلى التراب.. هي الحياة نفسها التي جاءت بالحياة من التراب نفسه.
ونحن لا نعرف الموت بالعلامة ولا بالشخصية، ولكنا نعرف آثاره فينا.
إننا نعرفه في اليد المعطلة، والرجل المكسورة، والعين المفقوءة، وما إلى ذلك.. فلسنا نعرفه في عضو دون عضو، ولا في جارحة قبل جارحة، لأن آثاره تبقى على الدوام في الجوارح والأجسام!
وعلى أن الموت ليس جيداً، ولكنه ليس رديئاً في كل قسم من الأقسام!
.. لكن إذا تعطل الموت المحترم في يد أو في قدم، أو في عين، فكيف يكون هذا بالله كذلك.
عندما يعطّل الموت جارحة ليحرك أخرى، وحينما يلطم اليمين بالشمال، وحينما يرفس الرجل اليمين باليسار..!
فقل في هذا الموت كل ما قلت.. إنه موت عام، وليس موتاً خاصاً.. إنه يقتل القلوب، والأرواح، ثم لا يعوض عنها بشيء!
هذا هو الموت الأسوأ، الأسود.. وهذا هو الموت الذي إذا بطلت عناصره عن النبض توقفت "كليات دمه" وتعطلت شرايينه، وأصبحت لا الكبد ولا القلب يبعثان بالدم في الأوردة، وحينئذ تتعطل مذاهب السلوك في أغذية الدم، حتى يصبح الجسد منها خالياً.. وعليها بالياً.
وعلى أن الموت ليس بعيب في كل من كان، على غابر الأزمان!
وقد يكون الموت تعطيل حركة رئيسية، بموجبها تتوقف كل المساعدات الجسمية.. وقد يكون قضاء وقدراً حين لا تجد له مجالاً للتحليل أو التعليل.. وقد يكون الموت شيئاً، لا نفهمه نحن ولا أنتم، كما قال المفسر التركي في قمة الدولة العثمانية يوم فسر بعض آيات الذكر الحكيم.. ولكن -بعد هذا كله- ما الموت؟!
الذي يأخذ بالمرض كما يأخذ بالسيارة، وبالكبر، كما يطيف بالصغر، كما يخطف الشباب والشيخوخة.. وهذا كله موت على السواء.. إن رحت من أمام، أو جئت من وراء، ولم يكن الموت بعد هذا كله إلاّ مجرد تعطيل لكل مراكز الحياة وإشعاعاتها وذبذباتها.. يأتي ليلاً أو بنهار، في شكل إطار سيارة منحرفة، أو على مثال زهرة شذية تعبق بالسم القاضي.
وصوره تتعدد في أمثلة قد تليق، وقد لا تليق، كالذي يذهب إلى نزهة غراء، وهو يمضي إلى حتفه، من حيث لا يدري.
وليس الموت بمعجزة، ولا حتى بأعجوبة، حيثما يقع في كل اتجاهاته.. فإن من شأنه الختل دائماً، والتوقع، ولو لم يخطر بالبال!
ولكن العقدة التي لا تحل والتي لا تستجيب إلى التعليل هي الحياة نفسها، وهي حياة لم توجد مطلقاً، إلاّ ليستهدفها الموت، في كل مكان وفي كل أوان.. ذلك لأنها لم تعد مثالاً يحتذى به، لا في الأحياء العليا، ولا في الأحياء الدنيا، من طبقة الخنافس فما يليها من الحشرات!
إن للموت وللحياة تعاريف ومصطلحات في كل كتب المعارف، من عربية، وإفرنجية، ومع ذلك فإن هذه الكتب كلها أعجز من أن تعطي الحياة والموت المدلولات اللازمة بكل دقة، وأعجز من أن تصفها حتى وصفاً مقارباً!
ولا ريب في أن الحياة مهما قيل فيها أضعف حيثما كانت من الموت، وإنها تتخذ دائماً إزاء الموت جانب السلب، ولكن ليس معنى ذلك دائماً أن الموت أقوى منها في كل حالاته وألوانه، بل لأن الموت يعتمد بصفته الاستمرارية جانب "الحتمية" التي لا مناص عنها، والتي لا بد منها مهما طالت الأعمار، والأزمان، أو قصرت.. وحتمية الموت تأخذ طابعها في عنق الوليد الغض، كما تأخذه في عثنون الشيخ الهرم.
ومن ذلك أصبح الموت لازماً لازباً، لا لأنه يريح من تكاليف الحياة، وأتعابها، فحسب.. ولكن لأن قافلة الحياة لا بد لها من ماء إذا عطشت، ومن زاد إذا جاعت، ومن راحة إلى جانب شجرة إذا نصبت.
ولكن راحتها الكبرى هو الموت الحتمي الذي يقضي على آخر جمل في قطار تلك القافلة المسكينة!
وليس في الحياة، ولا في الموت ألغاز إلاّ في ما يخاله أولئك الهاربون العاجزون عن ملاحقة ركب الحياة الدائب كأمثال المعري عندنا و "شو بنهور" عند الإِفرنج، وإلاّ فإن كل وقائع الموت والحياة بمرأى ومسمع أمامنا، دون أن نحتاج إلى دليل.
ونحن عمي في أضواء هذه الحياة، ولكننا مبصرون في ظلمائها، وإن القلوب لتقدح بالنظر، قبل أن تومض العيون.
وكما قلت: ليس في الموت ما يرعب، ولكن الذي يرعب حقاً هي الحياة نفسها، فإنه لولاها لما حدث الموت!
ذلك لأن التعطيل لا يقع إلاّ على جرم متحرك، ولولا وجود هذا الجرم السخيف الذائب، لما وجدت أداة التعطيل.
ونحن نؤمن بإذن الله بأن هناك حياة في الملأ الأعلى، وهي حياة يكافأ فيها ويجازى كل ذي عمل بعمله من غير بخس، وهي بداية حياة لا نهاية لها في عالم الخلود الذي مفتاحه وقفله بيد ربه الخالق العظيم.. عز وجل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :610  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 138 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.