شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هدية العيد (1)
كان ذلك قبل نحو عقدين من السنين، أو أقل قليلاً، وكان هو شخصية لامعة ضرارة نافعة، وكان أحياناً يجود -ولا حاتم- وأحياناً يلؤم ولا لؤم كل بخلاء الجاحظ.. كان امرأً متناقضاً مع نفسه، متفاوتاً مع طبعه.. كان كما قال الزركلي في ملك الحجاز الأسبق المرحوم الحسين بن علي:
الجامع المتناقضا
ت من الغرائز والفهوم (2)
ونسيت البيت الذي يليه مع أنه هو الشاهد الذي أعنيه.. وكانت قصيدة الزركلي -في حينها- ذات قيمة تاريخية، فضلاً عن جزالة ديباجتها، وقوة أسرها؛ وفي ما أذكر كان مطلعها:
صبر العظيم على العظيم
جبار زمزم والحطيم (3)
ولقد كنت أحفظها، ولكن حافظتي ذهبت مع الريح -مع الاعتذار إلى القصة المشهورة!
وكنت أيامها أوالي نشر مقالاتي وقصائدي في مشرق صدور "البلاد السعودية" أو لعلّها "صوت الحجاز" بصفة مستمرة وبإسراف، كنت كأنما تعاطيت "مسهلاً" يتصعد في مقالات وقصائد لا نفاد لها.. وكنت أيضاً أكتب هنا وهناك في المدينة المنورة وفي "المنهل" العذب كثير الزحام (4) .
كنت في قمة الهذيان الأدبي أهضب بالوابل المدرار، ولست أذكر الآن مما كنت أكتب شيئاً، إلاّ أني أعرف أن هناك لشكسبير رواية ترجمت إلى العربية واسمها جعجعة بلا طحن، وكان نتاجي في ذلك الحين -ربما- حقيق بأن يكون كذلك.
كنت ذا لمعان في المجال الأدبي المحدود، ولا كلمعان هذه الشخصية الكبيرة التي نتحدث عنها. لقد كانت هذه الشخصية أيضاً على إلمام متوسط بالأدب والشعر الفصيح والنبطي.. وكان إلى ذلك ذا لسان ذلق، وصوت صَهْصَلق كما قيل في إحدى المقامات الحريرية أو الهمذانية (5) .
جاءني أحدهم، وما كان يجيئني من قبل، وقال لي عن الشخصية: إنه يود أن أزوره، وإنه سيبعث إلي سيارته الفارهة غداً في الساعة كذا.. ورجاني أن أكون مستعداً. قلت له: هوّن عليك.. مستعد جداً، وما المانع في أن ألقاه فأفيد وأستفيد؟
وهكذا كان.. وقابلته، ولا لزوم لسعادته أو معاليه، أو فخامته.. وكان حقاً ظريفاً لطيفاً وفي مكان أظرف وألطف، وكان الجو غير قابل لأن يزداد على أكثر مما كان.
كان محدثاً بارعاً ولسناً ماهراً، وكنت -وما أزال- تمتاماً فأفاء.. ومع ذلك كله فقد حدث انسجام غريب لا سبب له بينه وبيني.
واتصلت الجلسة حتى استغرقت أكثر من أربع ساعات، في مطارحات، ومساجلات، وفي روايات واستشهادات، وأعترف حقاً بأني كنت معه لا شيء.. وبؤت بالهزيمة.. ولماذا التوقح؟
وتبسم عن مثل الأقحوان، فقد كان جميل الأسنان، وقال: لك عندي هدية في عيد رمضان، سأبعثها إليك مشكوراً.. وفزعت فإن بيننا وبين رمضان أكثر من أربعة أشهر.. فزعت من الهدية التي لا موجب لها أكثر من فزعي من طول المدة وجأرت قائلاً: سيدي.. لا لزوم للهدية. إن اتصالي بكم، وصداقتي معكم.. كل ذلك يغني عن كل هدية كانت.
ولكن الشخصية اللوذعية أصرت على بعث الهدية، وقالت: إن الهدية لا علاقة لها بالصداقة الشخصية.. ولم أكن أعلم بما كان أو سيكون من أمر الهدية، إلاّ أنه رزية وتكليف لا خيار فيهما.
وانفض السامر، وخرجت على شبه يأس من أن الاجتماعات تفضي إلى نتائج.
وسافرت الشخصية اللامعة إلى بلادها وبقيت في وكري، وقبل عيد الفطر بأيام، صار هناك بحث عني ومطاردة من الشرطة والبريد، وخلاصتها أن لك في البريد طرداً مؤمَّناً، فيجب أن تلاحقه حتى تملك ناصيته.. وقد فعلت وحصلت بعد ذلك على الهدية العبقرية المبعوثة من الشخصية الألمعية.. لقد كانت طرداً صغيراً من "الجراوة"، إنها تشبه الشمام الأصفر -الخربز، وفي نجد يسمونها الجراوة.
كانت لا تزن أكثر من أقتين، وكان معها كتاب حافظ أفخر من الهدية نفسها يحض على البحث عنها والتشبث بها.
ولقد تسلمتها قبل العيد بيومين، وعندئذ تذكرت في ما يقال في الأمثال: إن هدية القرد.. فوله (6) !
 
طباعة

تعليق

 القراءات :506  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 111 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.