شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كدَمات وسحَجات وبَلسم (1)
طول عمري -إن كان لعمري طول- وأنا على وفاق تام مع "درجة" الدار -أي دار- أو "السلم" كما يقال في الخارج. فمنذ أكثر من عشر سنوات تدهديت في درجة الدار، ووقعت على أم رأسي -لو أن لرأسي أماً- ومكثت أياماً ذوات عدد، وأنا أحمل الأوسمة في وجهي من جراء تلك السقطة.
إنها أوسمة تتمثل في عديد من الكدمات والسحجات من أعلى الجبين (الواضح الغرر) إلى أسفل الذقن (المحنكة)!
واحتجبت في البيت مثل صاحب التاج (المحجب) في القصر كما قال أبو نواس في الأمين (2) ، وكل الفرق بينه وبيني أنه كان يحتجب أبهة وملكاً.. أما أنا فيا للأسف.. إني أحجب وجهي لأنه -على الأقل- غير قابل للنظر!
ونقهت ثم تماثلت للشفاء وعاد وجهي كما كان على فرط دمامته.. إلاّ من بعض ندوب خفيفة تتضح لمن يتأمل، ويمعن في تأمله!
وغبرت سنون طويلة.. وصار بيني وبين درجة الدار ما يشبه هذا الذي يسمونه اليوم "التعايش السلمي"، وهو اسم مستحدث!
كنت أنزل في الدرجة رويداً رويداً، وأصعدها وئيداً وئيداً، وأتذكر مع ذلك ما كان يقول الراجز في الزمن الجاهلي:
ما للجمال مشيها وئيداً
أجندلاً يحملن أم حديدا
أم الرجال جثَّما قعودا (3) ؟
وكنت أعلم في قرارة نفسي -لو صح يقيني- أني لا أنا جمل، ولا أحمل جندلاً ولا حديداً، ولكني أفعل هذا.. وأخوك مكره لا بطل!
وقبل أيام كان رأسي أثبت من قدميّ اتزاناً، بل كان كأنه رأس "نابليون" وهو يدير معركة "واترلو" الشهيرة، وصاح بي صائح من أسفل الدار، فهبط جنابي، ولكن بسرعة وأريحية كأني "معن بن زائدة"، ولم أشعر إلاّ وأنا وقد طويت أكثر من عشر درج في أقل من ثانية، ثم أبصرت رأسي في موضع رجلي، ورأيت "امرأ القيس" يهزج فوقي قائلاً:
كجلمود صخر حطه السيل من عل (4) !
أما الدماء والجروح فقد أنسيتها إلى حين ما! إلى حين أن نهضت راكباً رجلي المتعبة! حيث غشيتني الدماء، وأحسست بالجروح، وهي تنبض بالآلام!
وأعجب ما في الأمر أني طفقت أضحك في هوس غريب، وصدق من قال: إن شر البلية ما يضحك.
وجاء من في الدار فقلت لهم: عندكم.. لا تسرع إليكم العدوى، ليس بي بأس! وعلمت عندئذ أن الدرجة خائنة غدارة، وأنها ناكثة للعهد، وأن هذا الشيء المؤلف من حجارة وطين لا يمكن أن يوثق به أو يركن إليه.. وأن قدمي التي كأنها قدم "كُرْكي" لا يجوز أن يطمأنَّ إليها، ولا حتى يُمشى عليها.. ولكن من أين لي بقدم غير قدمي ليت شعري؟
وجاؤوا بدواء يحبس نزيف الدم، ولكن هل هناك دواء يوقف جيشان الألم؟
نهايته! ضمدت الجروح، وبقيت نفسي كأنها منقطعة الصلة بسائر جسمي.. بل إني لم أعد أفكر في هذه الطيحة الظريفة.. وكأن الذي طاح شخص آخر سواي..
وخطر في خلدي طيحة مماثلة حصلت للكاتب الإيرلندي الساخر الطائر الصيت "برناردشو" في أواخر عمره، فقد وقع متدهدياً على سلم داره، فنهض واقفاً وقال في حنق مكظوم ما معناه: إنه لخطب أي خطب أن تضطرب رجل المرء قبل أن يضطرب رأسه!
وقفلت راجعاً، ولعبت في رأسي هذه الأبيات التي لعلّها أن تكون شعراً:
إن تطح لم يطح "شبيب" ولا طا
ح "المثنى".. كلا ولا "الزبرقانُ"
أنت أدنى من كل ذاك فلا
تنفج بعطفيك أيها "السرحانُ"!
يا لها طيحة أصم صداها
كل سمع.. فمادت الحيطانُ
وسمت جبهتي وطرفي وخدي
مثلما تُوسم النياق الهجانُ
أنت لو لم تكن لها مستحقاً
ما أتانا بذلك.. البرهانُ!
فانتهل طيحة تُعَلَّ بأخرى
ثم قل: إنما الديار.. أمانُ (5)
وبعد.. فأما "شبيب" فهو شبيب بن يزيد الشيباني.. كان من أكابر شجعان الخوارج في العصر الأموي، ومن أمرائهم العظام، حتى لقد كان يدعى عندهم "أمير المؤمنين"؛ ولذلك قال فيه أحد شعرائهم:
ومنا حصين والحمام، وقعنب
ومنا أمير المؤمنين شبيب (6) !
ولهذا البيت حكاية أدبية نحوية مستفيضة الرواية في أغلب كتب التاريخ والأدب العربي، ولسنا هنا بصدد ذكرها (7) .
فأما "المثنى" فهو ابن حارثة الشيباني أيضاً، وهو من كبار قواد المسلمين وأوائلهم الذين تصدوا لفتح بلاد الفرس.. قبل أن يعين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعداً ابن أبي وقاص قائداً عاماً لجميع قوات المسلمين أو أغلبها تقريباً في بلاد فارس!
ويبقى "الزبرقان"، وهو ابن بدر من أشهر سادات بني تميم في الجاهلية والإسلام..
وأعود لأكرر مرة أخرى، بأني أسطر هنا هذه المعلومات على مكتب جريدة البلاد بمكة، وأستل كل ذلك من ذاكرة جريحة قريحة دون أن أعتام أي مرجع، وهل من مرجع أو كتاب في مكتب البلاد ولو لمجرد المطالعة؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :505  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 57 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج