شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نحن والحضارة الغربية
الأستاذ أبو الأعلى المودودي
مشكلة الحضارة الأوروبية كما هو واقعها الملموس، هي أولاً وقبل كل شيء، إرخاؤها العنان لنفسها، انفلاتها من كل القيود.. ثورتها العارمة على الدين.. منذ أن تفاقم طغيان الكنيسة في أوروبا، ووصل إلى أقصى مداه.. فكان ما كان من زوال نفوذها، وكان ما كان -بالتالي- من إقصاء الدين عن حياة المجتمعات الأوروبية بصورة عامة، إلى آخر ما هنالك.. مما لا يجهله أحد..
هي -إذن- حضارة بلا دين، وبطبيعة الحال وبحكم التبعية: بلا أخلاق أيضاً.. فما الذي بقي لها بعد كل هذا التحرر، أو بعد كل هذا الانفلات؟!
نعم.. لقد بقيت "حضارة علم".. ولكنه علم مجرد من كل قيمة.. علم أساسه مادي. وهدفه مادي.. لا يؤمن بغير الحس.. أما ما وراء الحس مما لا تراه عين، أو تلمسه يد، أما سائر الأكوان المغيبة عنا.. أما صانعها ومبدعها.. مالك الملك "الله جل جلاله" فكل ذلك من وجهة نظر حضارة الغرب، ليس له أي اعتبار، ولا يظفر بأي قبول!
وكان لا بد أن يكون لهذا "التحرر" أو "هذا الانفلات" رد فعل.. قاس، عنيف.
صراعات وأزمات في كل مكان.. خلافات من كل نوع.. ضياع وتمزق ويأس وفوضى أخلاقية وجنسية لم يسبق لها مثيل.
كل هذا هو واقع الحضارة الغربية اليوم!
ولسوء الحظ كانت "الغلبة" في هذا العصر من نصيب هذه الحضارة.. وكان غزوها السياسي والثقافي للعالم "أمراً" أشاع الخنوع والخضوع.. وإلى جانب الخنوع والخضوع.. البلبلة والاضطراب..
الغرب -إذن- وهو صاحب هذه الحضارة أصبح هو "الغالب" ونفوذه هو السائد، ولما كان المغلوب مولعاً دائماً بتقليد "الغالب" كما يقول "ابن خلدون" أصبح شعار الجميع أن يلهثوا وراء هذا الغرب.. سائرين على نهجه بكل ما فيه من أشواك.. مقبلين على حضارته بخيرها وشرها.. ودون أي تحفظ، ودون أية حدود!
ولم ينج العالم الإسلامي من هذه اللوثة.. وأنى له أن ينجو منها، وهو جزء من شعوب كثيرة "مغلوبة" كما سيطر الاستعمار بنوعيه.. على أكثر أنحائه المتباعدة.. وانتهى به أمره مع هذا الاستعمار.. إلى "تبعية فكرية" شائنة.. يشكو منها إلى اليوم، أهل العلم من قادة الفكر والرأي في سائر أقطار المسلمين.
* * *
وفي أسلوب تحليلي مستفيض، وفكر نير، وسعة أفق.. يتناول هذا الموضوع الأستاذ أبو الأعلى المودودي زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان، والداعية المفكر المعروف..
في كتابه "نحن والحضارة الغربية" يتحدث حديث عالم، درس هذه الحضارة وعرف داءها.. وأدرك مواطن ضعفها، ووضع النقاط على الحروف -كما يقولون- بالنسبة لموقفنا منها نحن كمسلمين.. ثم أية حضارة يجب أن نحتذي.. وفي أي طريق ينبغي أن نسير؟
نعم.. لا مانع من أن نأخذ من حضارة الغرب كل ما هو مفيد: العلم.. الصناعة.. التقنية.. التنظيم.. أسلوب العمل.. طريقة التفكير.
لا مانع من أن نستفيد من كل ما أحدثته من اختراع، ومن كل وسائل "القوة" لديها.. حتى يمكنا أن نخلص من تبعيتها أولاً.. وثم نقف إلى جانبها موقف الند مع الند.. وليس هذا محالاً متى حافظنا على مقوماتنا، وتمسكنا بعقيدتنا، وآثرنا أن نكون مسلمين بالفعل وأن تكون حضارتنا "إسلامية" الطابع، إسلامية المنزع.. إسلامية الروح.
الأصالة، لا التبعية.. يجب أن تكون "ميسم" حضارتنا اليوم.. وليس كالإسلام دين عالمي خالد، قامت على أساسه أنبل وأكرم حضارة عرفها العالم.
* * *
ولنمض مع الأستاذ المودودي في كتابه.. ولنستمع إليه يتحدث في أول فصول الكتاب عن "عبوديتنا الفكرية وأسبابها" فيقول:
"إن الحكم والسيادة، والغلبة والاستيلاء نوعان: أحدهما الغلبة المعنوية والخلقية.. والآخر المادية والسياسية"، فأما الغلبة من النوع الأول فهي أن تتقدم أمة من حيث قواها الفكرية والعلمية تقدماً يجعل سائر الأمم تؤمن بأفكارها، فتغلب نظرتها على الأذهان، وتستولي منازعها ومعتقداتها على المشاعر، وتنطبع بطابعها التعليمات.. فتكون "الحضارة" حضارتها و "العلوم" علومها و "التحقيق" ما تقوم به.. و "الحق ما هو عندها" حق، و "الباطل" ما تحكم هي عليه أنه باطل.
وأما الغلبة من النوع الآخر فهي أن تصبح أمة من شدة الصولة والبأس باعتبار القوى المادية بحيث تعود الأمم الأخرى لا تستطيع أن تحتفظ باستقلالها السياسي إزاءها.. فتستبد هذه بجميع وسائل الثروة عند تلك الأمم، وتسيطر على تدبير شؤونها كاملة، أو إلى حد ما..
وكذلك الهزيمة والخنوع نوعان: أحدهما الهزيمة الفكرية، والآخر السياسية..
وهذان النوعان من الغلبة والاستيلاء ينفصل بعضهما عن بعض.. فلا يلزم أن توجه الغلبة المعنوية حيثما كانت الغلبة السياسية.. كما لا يلزم أن تكون الغلبة المادية مصحوبة بالغلبة المعنوية في كل حال..
* * *
على أن القانون الطبيعي هو أن كل أمة تستعمل ما آتاها الله من قوى الفكر والعقل، وتمضي قدماً في طريق البحث والتحقيق والاكتشاف تتمتع إلى جانب رقيها الفكري بالرقي المادي أيضاً، وكل أمة تتقاعد عن السباق في حلبة التفكير والتعمق في العلم تصاب مع انحطاطها العقلي.. بالتقهقر والاضمحلال المادي كذلك.. ثم إنه لما كانت الغلبة نتيجة القوة.. والهزيمة نتيجة الضعف.. فإن الأمم المتخلفة من الجهتين المعنوية والمادية كلما هبطت في دركات الضعف والفتور.. تكون أصلح للعبودية.. وأكثر استعداداً للخنوع، وتصبح الأمم القوية بالاعتبارين المادي والمعنوي حاكمة على عقولها وأجسامها معاً.
والمسلمون اليوم يعانون هذه العبودية المضاعفة.. فمن أوطانهم ما توجد فيه العبودية بنوعيها جميعاً.. ومنها ما يقل فيه جانب العبودية السياسية.. ويرجح جانب العبودية المعنوية..
ومن سوء الحظ أنه ليست لهم على ظهر الأرض رقعة إسلامية واحدة مستقلة تمام الاستقلال من الوجهتين السياسية والمعنوية.. وأما البلاد التي قد حصلت لهم فيها الحرية والاستقلال السياسي فهي ليست متحررة من ربقة العبودية الفكرية..
فها هي ذي مدارسهم ومكاتبهم، وبيوتهم وأسواقهم ومجتمعهم، وحتى أجسامهم وأشخاصهم، تشهد كلها بأنه قد استولت عليهم حضارة الغرب.. وامتلكت نفوسهم علومه وآدابه وأفكاره.. فهم لا يفكرون إلاّ بعقول غربية.. ولا يسلكون إلاّ الطرق التي قد مهدها لهم الغرب..
وقد رسخ في نفوسهم -سواء أشعروا به ولم يشعروا- أن الحق هو ما عند أهل الغرب حق.. والباطل ما يعدونه هم باطلاً.. إن المقياس الصحيح للحق والصدق والآداب والأخلاق والإنسانية والتهذيب هو الذي قرره الغرب لكل ذلك.. فيقيسون بهذا المقياس ما بأيديهم من العقيدة والإيمان، ويختبرون ما عندهم من الأفكار والتصورات والمدنية والتهذيب والأخلاق والآداب..
فكل ما يطابق منها ذلك المقياس يطمئنون إلى صدقه، ويفتخرون بمجيء أمر من أمورهم موافقاً للمعيار الأوروبي.
وأما ما لا يطابقه منها فيظنونه خطأ وباطلاً.
وشعروا بذلك أم لم يشعروا، ثم يأتي المتعسف منهم فيتبرأ منه ويرفضه علناً.. ويقف المقتصد منهم باخعاً نفسه عليه، أو يعود يعالجه جذباً ومداً حتى ينطبق على المعيار الغربي بوجه من الوجوه.
الأمم المريضة في العصر الحديث
وفي فصل بهذا العنوان يقول المؤلف:
"سواء هذا الشرق أو الغرب، وهذه الأمة المسلمة أو غيرها من الأمم، فقد حلت بها جميعاً نكبة واحدة".. هي أنه قد استولت عليها حضارة نشأت في أحضان المادية الخالصة.. هذه الحضارة قد أسست حكمتها النظرية والعلمية على قواعد خاطئة.. وقد جرت فلسفتها وعلومها وأخلاقها واقتصادها واجتماعها وسياستها وقانونها، وبالجملة كل ما يتصل بها.. قد جرى كل ذلك من نقطة انطلاق منحرفة.. وظل يخطو ويرتقي في وجهة غير صحيحة.. حتى انتهى إلى مرحلة نرى نهاية هذه الحضارة -وهي الهلاك قريباً..
هذه الحضارة انبعثت في أمة لم تكن تملك في الحقيقة نبعاً صافياً طيباً من الحكمة الإلهية.. ولا شك أنه كان بينها زعماء دينيون ولكن لم تكن بيدهم الحكمة ولا كان عندهم العلم ولا القانون الإلهي..
أقصى ما كانوا يملكون هو "نظرية دينية مخطئة" لم يكن لترشد النوع البشري إلى السبيل السوي من سبل الفكر والعمل مهما شاء أصحابها أن تفعل..
كل ما كان لهذه النظرية أن تفعل هو أن تحول دون رقي العلم والحكمة ففعلت، وكان من نتيجة هذه الحيلولة والمنع أن ثار على الدين من كانوا يريدون الرقي.. فنحوه من طريقهم.. ومضوا في سبيل آخر.. لم يكن دليلهم فيه إلاّ المشاهدة والتجربة والقياس والاستقراء وغدت هذه الدلائل المرشدة التي هي بنفسها تفتقر إلى الهدى والنور عمدتهم وسندهم في كل أمر.. وفي ضوئها اجتهد القوم كثيراً في ميادين الفكر والنظر والبحث والاكتشاف والتعمير والنظم.. ولكنهم انطلقوا من نقطة خاطئة في كل ميدان..
واتجه رقيهم كله إلى هدف غير صحيح..
إنهم انطلقوا من نقطة الإلحاد والمادية فرأوا هذا الكون من حيث إنه لا خالق له.. ولا إله.. ونظروا إلى الأنفس والآفاق زاعمين أن الحقيقة كلها منحصرة فيما يحسه المرء أو يشاهده.. وأنه لا شيء من وراء هذا الظاهر المرئي، ودرسوا قانون الفطرة وفهموه بوسائل التجربة والقياس.. ولكنهم لم يتمكنوا من أن يصلوا من هذا الطريق إلى واضع ذلك القانون..
ووجدوا الموجودات مستعدة لهم فراحوا يستخدمونها، ولكنه لم يقع في أذهانهم أنهم ليسوا مالكين لتلك الأشياء ولا حاكمين عليها.. بل هم خلفاء عليها للمالك الحقيقي..
هذه الغفلة والجهل جردتهم من التصور الأساسي للمسؤولية وترتب على ذلك أن اعوج أساس حضارتهم وتمدنهم ومال عن الاستقامة.. فأمسوا يعبدون ذواتهم بدل الذات الإلهية.
موجز القول إن هناك سلسلة من الفساد لا تنتهي.. قد أصبحت تخرج من شجرة الحضارة والتمدن هذه.. وقد جعلت الحياة الغربية جرحاً دامياً من المصائب والآلام..
يقول المؤلف: وهذا هو الأوان الذي يجب أن يعرض على أمم الغرب كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.. ويبين لهم أن هذا هو المطلوب الذي تتوق إليه أرواحكم وتضطرب للبحث عنه.. وهذا هو العصير الشافي الذي أنتم متعطشون إليه.. فستجدون الحكمة، وستجدون نقطة انطلاق صحيحة للفكر والنظر.. وستجدون العلم الذي يشكل السلوك الإنساني على أحسن طراز، وستجدون الروحانية التي هي مصدر الطمأنينة والهدوء.. إلى أن يقول: وستجدون المبادئ الصحيحة للحضارة والتمدن.
المبادئ التي تمحو الامتيازات الكاذبة بين الطبقات وتبطل الفروق المزيفة بين الأمم.
* * *
هذا بالنسبة لأمم الغرب..
وأما الأمم المسلمة فتختلف حالها عن حال الأمم الغربية.. فالمرض عندها غير المرض.. وأسباب المرض أيضاً مختلفة.. إلاّ أن علاج مرضها هو العلاج الموصوف لأمم الغرب.. وهو الرجوع إلى ذلك المعلم وتلك الهداية.. التي أنزلها الله تعالى بصورة كتابه الأخير على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن الظروف التي احتك فيها الإسلام بالحضارة الغربية تختلف تماماً عن الظروف التي احتك فيها بالحضارات الأخرى قبل ذلك..
فالحضارات الرومية والفارسية والهندية والصينية.. صادمت الإسلام في وقت كان هذا الدين مسيطراً بكل معنى الكلمة.. على القوى الفكرية والعملية في متبعيه..
وكانت روح الجهاد والاجتهاد قوية فيهم.. وكانوا أمة غالبة في العالم من الجهتين الروحية والمادية.. يحلون بين أمم العالم محل الصدارة والزعامة.. لذلك لم يكن لحضارة من تلك الحضارات أن تدافعهم وتثبت أمامهم. فحيثما ذهبوا أحدثوا انقلاباً في أفكار الأمم ونظرياتها وعلومها وأخلاقها وعاداتها وأسلوب تمدنها.. وكانوا أحرى بالتأثير في غيرهم من أن يتأثروا بهم..
ولا شك أنهم اتخذوا أشياء كثيرة عن غيرهم.. ولكن كان مزاج حضارتهم قوياً محكماً إلى درجة أنه كل ما دخل فيها من الخارج ذاب في قالبها.. ولم يحدث فيها سوء مزاج مختلط، وبالعكس من ذلك، جاءت الآثار التي تركها هؤلاء في غيرهم سبباً للانقلاب وتغير الأحوال.. فمن الحضارات غير المسلمة ما انحلت في الإسلام حتى افتقدت فرديتها تماماً.. وأما الأخرى التي كانت أقوى على الحياة فتأثرت بالإسلام إلى درجة أنه طرأ على مبادئها كثير من التغيير..
على أنه حدث هذا كله في زمان كانت الأمة فيه في أوج الشباب..
فالروح قوية.. والعضل قوية.. والهمم تناطح السحاب..
وحدث بعد ذلك أن المسلمين لطول ممارستهم الحكم -بالقلم والسيف- غلبهم التعب والكلام..
فخمدت فيهم روح الجهاد.. وضعفت قوة الاجتهاد..
فجعلوا كتاب الله الذي منحهم نور العلم وقوة العمل تذكاراً مقدساً، غلفوه.. ووضعوه في المحاريب.. وتركوا اتباع السنة النبوية التي شكلت حضارتهم في صورة نظام مكتمل للفكر والعمل، فكانت النتيجة أن توقف سير رقيهم، وتحول ذلك النهر الذي بقي جارياً منهمراً على طول القرون إلى مستنقع ساكن في وادي الجمود..
فانعزل المسلمون عن منصب الإمامة في العالم.. وضعف ما كان لأفكارهم وعلومهم وتمدنهم.. وغلبتهم السياسية من سلطان على أمم العالم..
ونشأت إزاء الإسلام حضارة أخرى، وتقدمت في موكبها أمم الغرب لتأخذ راية الجهاد والاجتهاد التي طرحها المسلمون..
فأما المسلمون بعد ذلك فغلبهم النعاس فباتوا لا يتحركون..
وأما الأمم الغربية فظلت تسير وتتقدم في مضمار العلم والعمل حاملة بيدها تلكم الراية.. حتى تبوأت منصب الإمامة الذي نزل عنه هؤلاء.. ففتحت بسيفها الجانب الأكبر من هذه الدنيا..
وفي أيامنا هذه أصبح الإسلام يحتك بالحضارة الغربية التي لا تستطيع أن تزاحم الإسلام بمنكبيها وتقوم أمامه كالسند.. ولو أن الاحتكاك يكون بالإسلام الصحيح فلا شك أنه ما من قوة في هذه الأرض تستطيع أن تقف في وجهه.
ولكن قولوا لي: أين الإسلام اليوم؟
إن المسلمين ليست فيهم السيرة الإسلامية.. ولا الخلق الإسلامي.. ولا الفكر الإسلامي.. ولا شيء من الحماسة الإسلامية.
إن الروح الإسلامية الخالصة لا توجد في مذاهبهم.. ولا في مدارسهم.. ولا في زواياهم.. ولم يبق من علاقة يبن الإسلام والحياة العملية..
وليس القانون الإسلامي بنافذ في حياتهم الفردية ولا في حياتهم الجماعية، وليس هناك شعبة من شعب الحضارة والتمدن يكون تدبير أمرها قائماً على الطراز الإسلامي الصحيح.
يقول الأستاذ المودودي: ففي هذه الظروف ليس الاحتكاك في الحقيقة بين الإسلام والحضارة الغربية..
بل هو بين حضارة المسلمين الخامدة الجامدة المتخلفة.. وحضارة نابضة بالحركة والحياة..
يشرق في جنباتها ضياء العلم.. وتدفئها حرارة العمل.. وكل ما يمكن أن يكون من نتائج هذا الاصطدام بين جانبين غير متساويين من حيث القوة والحيوية فهو ظاهر للعيان..
وهو أن المسلمين لا يزالون يرجعون على أعقابهم في هذا المضمار.. ولا تزال حضارتهم تنهزم..
إن العالم الإسلامي كله يمر اليوم بمرحلة هذا الانقلاب الرهيب.. إنه كان من واجب العلماء في الحقيقة أن ينتبهوا وينبهوا حين ابتدأ هذا الانقلاب..
* * *
ويمضي المؤلف الفاضل في حديثه هنا.. ناعياً على "علماء المسلمين" قعودهم عن دراسة العلوم الحديثة.. والتي نهضت على أساسها حضارة الغرب.. ويقول: لقد كان عليهم أن يستعملوا قوة فكرهم واجتهادهم، فيأخذوا من الغرب تلك الاكتشافات العلمية، والمناهج العلمية التي تقدمت بفضلها الأمم الغربية في سبيل الرقي، ويركبوا تلك الأجزاء الحديثة في مكان النظام التعليمي والحياة المدنية عند المسلمين، ضمن مبادئ الإسلام، بصورة تتلافى بها "الخسارة العظيمة" التي قد تنالهم من الجمود المستمر على القرون وتجعل الركب الإسلامي يتماشى مع الزمن الحديث.. ولكن الأسف إن كان العلماء -اللَّهم إلاّ من عصم- قد خلوا من روح الإسلام الحقيقية.. فلم تكن فيهم قوة الاجتهاد.. ولا التفقه في الدين.. ولا الحكمة النظرية والعملية، ولا القوة للعمل. فلم يكونوا أهلاً لأن يستمدوا من كتاب الله، والإرشاد النبوي في ناحيتي العلم والعمل مبادئ الإسلام المرنة الدائمة.. فيستخدموها في الأوضاع العصرية المستبدلة، وإنما كان قد سرى فيهم داء التقليد الجامد الأعمى.. إلى أن يقول: وإذا كانت هذه حال العلماء على الأغلب، فكيف كان من الممكن لهم أن يقودوا المسلمين قيادة سديدة في حين أن الزمان قد تغير، ووقع في دنيا العلم والعمل من الانقلاب العظيم ما كان للعين الإلهية وحدها أن تبصره عبر القرون، ولم يكن لغير نبي أن يشق بصره حجب الأزمنة والقرون ليبصره.. ما من شك في أن العلماء بذلوا جهدهم لمقاومة الحضارة الجديدة، ولكنهم كانوا لا يملكون الوسائل اللازمة لهذه المقاومة. وذلك أن الحركة لا تقاوم بالجمود.. ولا سير الزمن يمنع بقوة المنطق وحدها.. ولا يدفع السلاح الجديد الفتّاك بسلاح صدئ قديم.. فإن الأمة التي أحاط بها طوفان الحضارة الغربية من جميع الأطراف، كيف كان لها أن تغمض عينيها.. وتعطل حواسها.. وتنكر وجود الطوفان وتسلم من آثاره.. وكيف كان لأمة ألقى عليها نظام الحضارة والتمدن الحديث نفوذه السياسي، أن تجنب حياتها العملية من تأثيره ونفوذه.. على كونها في حال العبودية والهزيمة.. لذلك كان من عواقب ذلك ما ينبغي أن يكون: وهو أن انهزام المسلمون في حلبة العلم والحضارة والتمدن أيضاً.. بعد أن غلبوا في ميدان السياسة.. وها نحن نرى الآن أن تيار الحضارة الغربية لا يزال يجرف في كل منطقة من مناطق العالم الإسلامي.. وقد انساقت فيه الأجيال الناشئة من مناطق العالم الإسلامي.. وقد انساقت فيه الأجيال الناشئة من المسلمين حتى ابتعدت عن مركزها الإسلامي أبعاداً ساحقة جداً.
* * *
وعلى هذا النحو من التحليل الدقيق والتعمق في النظر يمضي الأستاذ المودودي في تصويره لواقع المسلمين.. ثم من موقفهم من الحضارة الغربية..
ومن أهم فصول كتابه هذا: ما يحمل هذه العناوين: "انتحار الحضارة الغربية" و "النزاع بين الشرق والغرب في تركيا" و "خداع المذهب العقلي" و "تهافت مذهب التجدد" و "النقص الأساسي لخطتنا التعليمية" و "المنهج السديد لتعمير كيان الأمة" و "طلائع الثورة على الدين" و "الفساد الاجتماعي" و "المفهوم الحقيقي للمسلم" و "المصدر الحقيقي لقوة المسلم" و "الداء ودواؤه" وهو آخر الفصول.. وفيه يقول:
إن الدين الإسلامي ليس بعقيدة فحسب.. ولا هو مجموعة لعدد من الأعمال والطقوس الدينية ليس إلاّ.. بل هو "برنامج تفصيلي لحياة الإنسان الكاملة" ليست العقائد والعبادات ومبادئ الحياة العلمية وضوابطها فيه أشياء مختلفة منفصلة بعضها عن بعض.. بل تتلاحم هذه كلها فيه، وتؤلف مجموعة لا تقبل التجزئة ويكون بين أجزائها كمثل الارتباط الذي يكون بين أجزاء الجسم الحي.
* * *
ثم يقول الأستاذ في موضع آخر من هذا الفصل..
ومن التدبير النكد العقيم في هذه الظروف أن يزاول تبليغ الإسلام على طريقة المبشرين النصرانيين.. وذلك أنه لا يمكن أن تعود الأوضاع إلى استقامتها.. وإن نشرت آلاف من الرسائل والكتب لأجل إصلاح العقائد.. وأي غناء الآن -يا ترى- في سرد محاسن الإسلام بالقلم واللسان، وإنما الضرورة الحقيقية هي أن تعرض هذه المحاسن في دنيا الواقع.. هذه الدنيا دار نزاع وصراع ولا يمكن أن تغير مجراها بمجرد الكلام، وإنما يحتاج لتغييره إلى كفاح ثائر.. ولئن أمكن للشيوعيين أن ينهضوا بمبادئهم الخاطئة ويضربوا سلطتهم ونفوذهم على جانب كبير من هذا العالم وأمكن الفاشية أن تتقدم بمناهجها البعيدة عن القصد.. وتلقى هيبتها وجبروتها على ربوع العالم.. وأمكن الفلسفة الغاندية في عدم الإيذاء أن تروج وتنتشر على رغم كونها شيئاً لا يلائم الفطرة بمجرد السعي والجهد.. فلا سبب هناك لعدم تمكن المسلمين أن ينالوا الغلبة والسلطة في هذا العالم من جديد.. ولكن هذه الغلبة لا تتحقق بمجرد الوعظ والخطابة.. بل هي تتطلب الجهد والعمل وأن يتولى العمل على تلك المناهج إلى الغلبة في العالم بحسب السنة الإلهية.
* * *
وأخيراً.. إن محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وأصحابه رضوان الله عليهم هم أسوتنا الحقيقية والتي يجب علينا أن نتبعها الآن.. وهم قد استخدموا القوانين الطبيعية تبعاً للقوانين الشرعية.. فقاموا بخلافة الله في الأرض أحسن ما يكون القيام.. والتمدن الذي كان يسود عصرهم بث هؤلاء في قالبه روح الحضارة الإسلامية، وكل ما كان قد وقع تحت الإنسان من القوة الطبيعية اتخذه هؤلاء خادماً لتلك الحضارة..
وإذن.. فالصورة الصحيحة لأتباعهم اليوم هي أن نأخذ الوسائل التي قد تجددت بفضل ارتقاء التمدن، واكتشاف القوانين الطبيعية.. فنعمل على تسخيرها للحضارة الإسلامية، كما فعلوا في العصور الأولى.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :675  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.