شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الإسلام والأمن الدَّولي
الأستاذ محمد عبد الله السَّمان
الأمن والسلام الدوليان ما يزال الحديث عنهما يتردد في كل وقت وفي كل ناحية من أنحاء الأرض شرقاً وغرباً.. وذلك بالرغم من أننا نعيش -كما يقال- في عصر الأمم المتحدة.. وفي عصر التقدم والعلوم!
بل إنه ليس من شك في أن هذا الحديث المكرور المعاد عن الأمن الدولي والسلام العالمي إنما هو حديث يشوبه الكثير من القلق.. أو الكثير من الشك في أن الأمن والسلام سوف يسودان في العالم..
ذلك لأن روح السياسة المكيافيلية ما زالت -مع كل أسف- هي المبدأ المسيطر.. وما زالت الأنانية الطاغية هي الطابع المميز لسياسة الأقوياء!
إن الحرب التي اشتعل أوارها من أسابيع في قسم كبير من العالم.. بين شعبين كبيرين من شعوب الأرض، هما الهند وباكستان لا شك في أنها مظهر بارز من مظاهر هذه السياسة: سياسة الأنانية الحمقاء، والعدوان الرهيب!
إن هذه الحرب الطاحنة المدمرة لم يكن لها من سبب سوى مجرد العنت.. وإلاّ فما الذي يحدو بالهند وهي التي رأيناها خاصة في سنواتها الأخيرة بعد الاستقلال.. في طليعة أمم تدعو إلى السلم، وتنادي بحق كل جماعة من الناس في تقرير مصيرها.. ما الذي يحدو بحكومة هذا منزعها وهذا شعارها أن تصر على حرمان شعب كشمير المسلم من أن يقرر مصيره بنفسه وفقاً لما قررته هيئة الأمم وتمشياً مع حقه الطبيعي المشروع، الأمر الذي أدى في النهاية -بعد الصبر الطويل- إلى أن يحدث هذا الذي حدث.. الحرب ولا شيء غير الحرب.. وماذا بعد هذه الحرب -إن لم يتلافها عقلاء قوم.. وإن لم يرجع المتعنتون إلى صوابهم سوى شيء واحد كنتيجة حتمية لاستمرار الحرب- شيء واحد.. هو اللاأمن واللاسلام!
الأنانية الطاغية، والعنت والصلف.. ما أجمل أن يتخلى عنها كل من أحس بأنه قوي.. وما أجمل أكثر من ذلك أن يخضع للحق، وأن يسود بين الشعوب مبدأ احترام حقوق الآخرين، بعيداً عن شريعة الغاب.. وعن الصلف، والكبرياء!
ولقد كان الإسلام حقاً أول من ضرب المثل عالياً في تثبيت هذا المبدأ النبيل سواء في المجال النظري، أو في مجال التطبيق!
كان مثلاً عالياً في احترام الحق، وفي تطبيق العدل، وفي تجنب العدوان، وفي البعد عن سياسة الأنانية والعنت.. وبذلك استطاع في عصور قوته وازدهاره أن يوطد الأمن وأن يحافظ على السلام!
وما أكثر ما تناول الباحثون سواء في القديم أو الحديث، هذه الناحية الهامة من نواحي الإسلام!
وكتاب "الإسلام والأمن الدولي" للأستاذ السمان، الكاتب الإسلامي المعروف، هو واحد من كتب عديدة قيمة ظهرت في هذا العصر، تتحدث عن الإسلام، وموقفه من الأمن والسلام.
ولقد أعطى المؤلف الفاضل -بأسلوب ينبض حرارة وصدقاً، موضوع بحثه هذا، حقه من الدقة والشمول!
ولم يفته من خلال بحثه أن يقارن بين منهج الإسلام سواء في الحرب أو السلم بالنسبة لمناوئيه.. وبين المناهج الأخرى لغيره من الأمم والشعوب.
بل، لم يفته كذلك أن يشير إلى المدى الذي يستطيع أن يبلغه في توطيد الأمن الدولي إذا ما وجد من شعوبه المسلمة المؤازرة والتأييد بوقوفها بجانب قضايا الحرية والعدل ونصرتها لكل شعب يناضل من أجل الكرامة ومن أجل الاستقلال!
ولنمض مع مؤلف الكتاب الأستاذ السمان في حديثه حيث يبدأه في تقديمه لكتابه بقوله:
إن الذي لا ريب فيه ولا جدال أن العالم اليوم يتأرجح فوق بركان على وشك الانفجار ولم تكد تسلم رقعة من رقاعه من هذا البركان المزعج، والذي لا ريب فيه أيضاً أن الاضطراب قد أصبح ضرورة من ضرورات العالم لا تكاد تستغني عنه بقعة من بقاعه.
وكان وجود هذا الاضطراب مرتبطاً تمام الارتباط بحياة دول يهمها أن يظل قائماً فوق وجه البسيطة، وتذود عن كيانه بما تستطيع من قوة، وتحرص على خلقه من جديد إذا تلاشى أو أوشك أن يتلاشى في ركن من الأركان.
ويستطرد الكاتب إلى أن يقول: "وقد يستطيع الإسلام أن يلعب دوراً خطيراً في استتباب الأمن الدولي.. وهو هدف رسالته الغراء، ولكن حين يجد الشعوب المسلمة الحية التي تؤيده والتي ترغب في تحطيم أغلال العبودية والمسكنة.. فنحن لا ننكر أن الدول العربية وحدها هي مطمع الكتلتين المتنافستين، بل هي الفريسة المنتظرة للذئبين المتربصين.. واليوم الذي تستطيع الفريسة فيه أن تتنمر لا يجد الذئبان مفراً من التقهقر.. وكذلك في اليوم الذي يمكن للدول الإسلامية أن تتحرر بقوة شعوبها، لا تجد الكتلتان المتنافستان مفراً من السكون.
إن هذا العالم المضطرب لفي أمس الحاجة إلى الهدوء حتى تتنسم البشرية بعض الأنسمة العذبة بعد مراحل من الحياة قضتها في جو من العنت والإرهاق، فلا يكاد العالم يتناسى آلام حرب مضت حتى يهدد بحرب ستأتي.. وهكذا قدر له أن يعيش في حالة حرب.. أو مهدداً بشبحها، وهذه حياة من شأنها أن تحطم الأعصاب، وتذهب العقول".
وقد كان للإسلام الفضل في أن يهب للعالم فترة من الزمن للهدوء والاستقرار.. ثم يقول المؤلف: "ونحن لا يكفينا أن نقدم للعالم صفحة مضت للإسلام.. أو نوضح أهمية الأسس التي قام عليها بناء الإسلام لصيانة الأمن الدولي ولكنا نود أن تتيقظ الشعوب الإسلامية لتؤيد الإسلام اليوم في هذه المهمة الخطيرة.. إذ لا قيمة لماضٍ لم يكن حافزاً على النهوض والطموح، ولا لتعاليم لم تنل شيئاً من التأييد والتنفيذ!
إن العالم في كل زمان ومكان في مسيس الحاجة إلى استقرار الأمن، وإرساء قواعده على أسس متينة من الحق والعدل، والرحمة والمساواة.
ولم تكن رسالة الإسلام رحمة للعالمين إلاّ لأنها حرصت على أن تهب للبشرية حياة تتوفر فيها كل أسباب الأمن والطمأنينة.. ولأنها أخذت على عاتقها أن تسمو بالإنسانية إلى أعلى مراتب الاستقرار والهدوء.. وتأخذ بيد مركب الحياة حتى يتحول بها عن مزالق الفتن والشرور.
والذي يستعرض حالة العالم قبيل ظهور الإسلام، وخاصة جزيرة العرب، وما أصابه من محن وقلاقل، وما اكتنفه من اضطرابات لم تقف عند حد، وما شمله من حروب طاحنة مدمرة لم ترحمه من الفوضى عاماً واحداً -يستطيع أن يدرك مدى حاجة ذلك العالم الشقي البئيس إلى دعوة إصلاحية كدعوة الإسلام.. تخلصه مما لحقه من فوضى، ولتنقله من مرحلة صاخبة عاتية إلى مرحلة وديعة هادئة.
كما يستطيع أن يدرك مدى تأثير هذه الدعوة الإصلاحية الكبرى في كل أرض حلت بها، وفي كل بقعة أشرقت عليها شمسها، وانبثق ضياؤها".
حالة الأمن قبل الإسلام
فأوروبا خلال القرنين السابقين لظهور الإسلام قد أصيبت بسلسلة من الحروب المهلكة المدمرة فالوندال مثلاً في القرن الخامس الميلادي أقلقوا الدولة الرومانية، واستطاعوا أن يفسدوا في الأرض، ويمعنوا نهباً وسلباً.. وقتلاً وتخريباً كما استطاع المغول والهون، أن يغزوا شرقي أوروبا ويبسط الهون نفوذهم على الجهات الممتدة من نهر الراين إلى جبال الأورال، ويخضعوا قبائل الجرمان وغيرها.
وفي القرن السادس الميلادي ظهر من القواد العتاة أمثال "كلوفس" مؤسس دولة الفرنجة الذي أذاق دولتي الرومان والقوط وغيرهما ألواناً من التنكيل في حروب لا يوزن ما أريق فيها من دماء.. ولا يحصى ما حصد فيها من أرواح.. كما حدث في هذا القرن أن أحدق الخطر ببريطانيا من ناحية الإسكتلنديين وغيرهم في الشمال، ومن ناحية الجرمان والسكسون وغيرهم في الجنوب وظلت خلال هذا القرن، العناصر الهمجية الضاربة أطنابها وراء جبال الألب تهدد الأمن والسلام، وتثير الفوضى والاضطراب، دون أن يقف في وجهها أحد، وظلت شبه جزيرة البلقان هدفاً لعبث العابثين من البرابرة واستهدفت إنطاكية لنهب الفرس، وتتابعت موجات الجرمان على إيطاليا لتهدد أمنها.
ولم تكن آسيا أحسن حظاً، ولا أقل فوضى من أوروبا وحسبنا أن نعلم أن دولة الفرس كانت تتربع في أعظم بقعة من بقاعها، ولا يغيب عنا أمر تلك الحروب الطويلة التي وقعت بين دولتي الروم والفرس والتي أخصبت أراضي القارتين بالدماء قروناً عدة.
أما إفريقيا فقد كانت قبل الإسلام نهباً لدولة الروم، ومرتعاً خصباً للحروب الدامية لا سيما شماليها الذي ظل مئات السنين لم يهدأ الاضطراب خلالها ساعة واحدة.
أما الاضطراب الذي ساد الجزيرة العربية نتيجة الحروب فهو أوضح من أن يوضح.. تلك الحروب العاتية التي كانت العصبيات القبلية تشعلها، وقد كانت تشعل لأتفه الأسباب ولعل من هذه الأسباب التافهة أن يرمي أحدهم ضرع ناقة، فتظل حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب أربعين عاماً.. وهناك حرب داحس والغبراء من أجل السباق، والتي أحدثت اضطراباً واسعاً، وقتل بسببها الألوف من البشر.
كانت الحرب في الجاهلية مسلاة وملهى.. وكأنها غذاء ضروري لا يقوون على التفريط فيه، ولا استغناء عنه إذا استعرضت أشعارهم تلمس مدى شغفهم بالنضال والنزال والفخر بالخيل والسيوف كأنهم لم يخلقوا إلاّ لإراقة الدماء، وإزهاق الأرواح، وكأنهم لا يصلحون إلاّ للجو الملبد بالقلاقل والاضطرابات.. وكأنهم لا يطمئنون إلاّ إلى الحياة الملوثة بالنوائب والفواجع.
فوضى الطبقات
أما فوضى الطبقات فقد كانت تشمل أرجاء العالم كلها لا سيما دولة الفرس التي كانت فيها الخاصة تحرم على العامة أن يتمتعوا بمجرد الشعور بآدميتهم، وكانت على أشدها في الهند والصين حيث يبدو الاستعباد على حقيقته حتى إن القانون في الهند كان يمنح طبقة البراهمة امتيازات تلحقهم بالآلهة، وقرر أنهم صفوة الله، كما صرح في نفس الوقت بأن المنبوذين لن ينالوا رحمة الآلهة إلاّ بخدمة البراهمة، وتتساوى كفارة قتل الواحد من المنبوذين وكفارة قتل الكلب والقطة والبومة.. وما إليها.
ولم ترحم فوضى الطبقات دولة الروم، ولا إقطاعيات إفريقيا، ولا الجزيرة العربية التي استحلت الخاصة فوق أديمها استعباد العامة، وتسخيرهم والتحكم في رقابهم.
وعلى كل فلم يكن هناك شبر من أرض الله يتمتع بلمحة من الأمن قبيل الدعوة الإسلامية أو فرد يمس جانبه ذرة من الاستقرار مما جعل العالم في مسيس الحاجة إلى موجة إنقاذ تكتسح ما أمامها من الفوضى، وتقيم بناء المجتمع الإنساني على قواعد من العدل والرحمة والحرية والإخاء والمساواة.
إذن فهذه الدعوة الإسلامية الإصلاحية جاءت في الوقت المناسب في وقت كان لا بد لها من الظهور فيه لتؤدي واجباً إنسانياً جليلاً، وأحق البقاع المضطربة بتأدية هذا الواجب الإنساني لها هي البقعة التي خرجت منها الدعوة الإسلامية.
فقد كان مجرد إعلان هذا الدين الجديد الذي يدعو إلى الله وحده، ويندد بعبادة حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وينفر من تقاليد الجاهلية الموروثة عن جهل وغباوة وحمق.. كان مجرد إعلان هذا الدين الجديد مفاجأة لمكة فاعتبرته حدثاً يتحدى صلفها وعبادتها وتقاليدها ويعبث بآثارها ومقدساتها، فأعلنت الحرب عليه.. لتقضي على الدين الجديد قبل أن يقوض أركانها، ليشيد فوق أنقاضها بلداً آمناً يعيش أهله أخوة يربط بينهم التوحيد برباط من المودة والصفاء.
ولم يكد الدين الجديد يحل بيثرب حتى وضع حداً لأقسى حرب بين أكبر قبيلتين بها هما الأوس والخزرج، اشتعلت بينهما قبل مجيئه بسنين عديدة وأهلكت من النفس ما لا يحصى له عدد.
وهكذا كلما حل الدين الجديد بأرض، كانت أول خطوة من خطواته أن يطوح بأسباب الفزع والاضطراب فيها ويمهد لاستقرار الأمن واستتبابه.
هدف الإسلام: الأمن للعالم
ثم يمضي المؤلف في حديثه إلى أن يقول: "إن الأسس التي يقوم عليها بناء الإسلام كفيلة بأن تضمن للعالم الأمن والسلام.. وتقوض أركان الفوضى والاضطراب، ولم تكن مهمة الإسلام أن يبسط دعوته على الجزيرة العربية فحسب، ولكن ليبسطها على الكون بأسره.. ليكون في استطاعته تحقيق هدفه الأسمى.. وهو أن يهب لهذا الكون الآمن، فيسعد في ظله وأمنه، ولتحقيق إرادة الله سبحانه: وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107).
فالإسلام يدعو العالم إلى عقيدة واحدة، ويوجهه إلى قبلة واحدة، ليقيم صرحاً للأخوة التي لا غنى للعالم عنها، فيعيش في جو من الأمن والهدوء، ويمحو من الوجود تفاوت الطبقات الذي يعكر أمنه وهدوءه.. وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (البقرة: 163)".
ويقول المؤلف: "والإسلام يلفت نظر العالم أجمع إلى أن الناس جميعاً مخلوقون من مادة واحدة، ومتساوون في أطوار الخلقة كلها، ومنتسبون جميعاً إلى أب واحد هو آدم أبو البشر عليه السلام، وذلك ليؤكد الأخوة المنشودة بينهم فيؤيد لديهم وينتصر لها".
ويتابع المؤلف حديثه.. ليقول: "وفي سبيل استقرار الأمن الدولي يحب الإسلام الخير للجميع ولا يضمر شراً لجنس من الأجناس لأنه يعتبر أن الخليقة كلها من صنع الله وحده وأنها دليل وجوده، ورمز قدرته، وما أجمل كتاب الله حين يؤكد هذا المعنى فيقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (الإسراء: 70) فدل على شمول التكريم بني آدم كلهم فلا تعصب لجنس دون جنس ولا لون دون لون.
بل إن القرآن الكريم نفسه تولى مكافحة التعصب الجنسي الذي كان يتزعمه أهل الكتاب من اليهود والنصارى حين ادعوا أنهم أبناء الله وشعبه المختار.. وأن الجنة خاصة بهم دون غيرهم.
والمسلمون الذين جعلهم الله خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران: 110) أدركوا هذا المعنى السامي فلم يتعصبوا لجنسهم.. واعتبروا أن الخلق كلهم شعب الله وأن الرسل جميعهم رسل من عند الله لا رق بينهم، وأن الجنة ليست محتكرة لجنس دون جنس، بل هي عامة لكل من يتقي الله ويعمل صالحاً، وليس بغريب على المسلمين إدراك هذا المعنى، وقد تولى تربيتهم القرآن الكريم الذي يقول: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (البقرة: 285)".
ومن الأسس التي قام عليها الإسلام، واهتم بها ليحفظ كيان الأمن أن يكون الناس رعية ورعاة.. أو شعوباً وحكومات والحكومات مسؤولة عن الشعوب: مسؤولة عن فقر وجوع الجائع وحرمان المحروم، ومرض المريض، ودماء القتيل وضعف المستضعف وذلة المستذل، مسؤولة عن تحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد.. وقد اشتمل الدستور الإسلامي الخالد على قاعدة من أهم القواعد التي يستقر فوقها الأمن وهي إقامة الحدود، لتحول دون بغي الباغين، وعدوان المعتدين، واستخفاف المستخفين بالأنفس والأعراض، والمجتمعات وهذه الحدود بمثابة حاجز يحجز الشر والفتنة، ويطفئ لهيب القلق والاضطراب ويهيئ للحياة جواً من الأمن والسلام والهدوء.
فإذا قطعت يد السارق وجلد الزاني أو رجم، وجلد القاذف والشارب، ووقع القصاص العادل على قاتل النفس بغير حق، ونال المفسد في الأرض العقاب الأوفى.. تنسم المجتمع أنسمة الهدوء، وارتدى لباس الأمن، وإذا أهمل هؤلاء الآثمون لم يقدر للمجتمع في أي مكان إلاّ أن يصلى جحيم الفزع والاضطراب ويتجرع كؤوس القلق والشقاء.
وقد اهتم الإسلام بقاعدة من القواعد الراسخة الثابتة التي يستقر عليها الأمن والاستقرار كله، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلها فرضاً محتماً على كل قادر، فالخير إذا وجد من يأمر به ويحث على فعله، وساد وعم وأدى واجبه كاملاً في تعبيد سبل السلام، والشر إذا وجد من يقاومه وينكر على مرتكبه، والتخلص منه.. سكن وهدأ، وأراح المجتمع من كوارثه، وفواجعه.. أما إذا نضب معين الخير لأن أحداً لم يهتم به وقدح أمر الشر لأن أحداً لم يقاومه فلا ينتظر أن تقوم للأمن قائمة، ولا أن يطيب للبشرية حياة.
إن الإسلام يعتبر الأمن نعمة وفضلاً لأنه عامل من أهم عوامل الراحة والسعادة لبني الإنسان في الحياة يتحصنون به من غوائل الفوضى، وجرائر الشرور، وينعمون في ظلاله بلذائذ الهدوء والاستقرار والاطمئنان.
ويتحدث المؤلف بعد ذلك عن "دعائم الأمن" ومن هذه الدعائم التربية السليمة وهي لا تقوم إلاّ على أساس من العقيدة الدينية.. فالتربية السليمة دعامة من الدعائم التي يقوم عليها استقرار الأمن وترسو عليها قواعد السلام.
ومن دعائم الأمن: الاستقرار.. يقول المؤلف: إن الاستقرار الفردي لبنة في بناء الاستقرار الشعبي، والاستقرار الشعبي لبنة في بناء الاستقرار العالمي فإذا تلاشى استقرار الأفراد تلاشى بجانبه استقرار الشعوب ثم تلاشى بجانبه استقرار العالم.
ولن يكتب لشعوب الأرض قاطبة ذرة من الاستقرار إلاّ إذا كانت نفوسها على أكبر قسط من المسالمة.
وليس هناك دين دعا إلى السلام كما دعا إليه الإسلام، ولا مذهب من المذاهب القديمة أو الحديثة أسهم في تدعيم أسس الاستقرار كما أسهم الإسلام.
فالسلام في الأرض هو هدف دعوته، وأنشودة رسالته ولم تكن حروبه في الواقع إلاّ وسيلة لإقرار هذا السلام في الأرض.
المطامع الاستعمارية
يقول المؤلف: إن المطامع الاستعمارية وحدها كفيلة بأن تزلزل كيان الأمن الدولي وتعكر صفو السلام العالمي، ونقب كيفما شئت في تاريخ الحروب القديمة والحديثة فإنك لا تجد لها سبباً غير المطامع الاستعمارية.
ويمكن للأمن الدولي المنكوب أن يستقر، وللسلام العالمي البائس أن يصفو لو أن المطامع الاستعمارية تلاشت وتوارت.. وأقفرت منها نفوس المرضى بداء الاستعمار.
والعجيب أن الدول ذات المطامع الاستعمارية والاقتصادية ليس لها حجة في استعمارها الدول الصغرى إلاّ المحافظة على الأمن والسلام.
ويمضي المؤلف الباحث في حديثه عن مطامع الاستعمار وتحليله الدقيق لمختلف البواعث التي تدفعه إلى غزو الشعوب الآمنة.. إلى أن يقول:
"هناك هدفان أساسيان للاستعمار الغربي في الشرق، تتركز فيهما كل أهدافه وتتجمع.. أما الأول فهو حقدي محض.. لقتل الروح العربية ومحو الصبغة الإسلامية في الشرق، وأما الآخر فهو اقتصادي محض لاستغلال بلاد الشرق وشعوبه استغلالاً يعود على دول الاستعمار بالفائدة.. إن الغرب المسيحي لا ينسى أبداً أن الإسلام سبق له أن دحره في أفريقيا أو آسيا ولذلك يصر على توجيه ضربة قاضية للإسلام يثأر منه لنفسه.. وهو يعلم تماماً أن محو الطابع العربي الإسلامي خير معين له على إخضاع المستعمرات الإسلامية، والإرساليات التبشيرية، والمدارس الأجنبية وما إليها معاول يستخدمها الاستعمار في هدم كيان الإسلام!".
الفتوحات الإسلامية لم تكن من أجل الاستعمار
لم تكن الفتوحات الإسلامية استعمارية، لأن الاستعمار معناه الاستغلال، وما أبعد فتوحات الإسلام من الاستغلال!
لقد فتح المسلمون بلاداً لا يحصى لها عدد وسجل تاريخ حكمهم صفحات بيضاء من العدل والمساواة، وأي عدل أكبر من -أن يشكو أحد الرعية من الفرس.. الوالي إلى الخليفة لأنه اغتصبه أرضاً استغلها للنفع العام بغير رضا منه.. فيكتب إليه وريقة بها بضع كلمات يسلمها إلى الوالي وفيها: "أنصف فلاناً من نفسك وإلاّ فأقبل والسلام".
ولم يكن الخليفة ليقتصر على النصيحة يوجهها إلى ولاته الذين يتولون شؤون البلاد، بل كان يفتش عليهم، ويحاسبهم حساباً دقيقاً.
والحكومة الإسلامية كانت مسؤولة عن كل فرد من الرعية من غير تفريق في الملة والجنس واللون وكان مفروضاً عليها أن تيسر له سبل العيش الكريم، وتكفل له الحياة التي تجعله في أمن من الفاقة والمرض والحرمان.
في عهد عمر بن عبد العزيز حين أخذ الإسلام في الانتشار خشي أحد الولاة اضطراب ميزانية بيت المال بسبب نقصان مورد الجزية فكتب إلى الخليفة يستفتيه في وقف الدخول في الإسلام حتى لا تتلاشى الجزية فرد عليه عمر يقول: (ضع الجزية عمن أسلم، فإنما بعث الله محمد هادياً ولم يبعثه جابياً).
فالإسلام لا يعترف بالاستغلال في أي وجه من الوجوه لأن دعوته إصلاحية.. ولا يجدي الإصلاح إلاّ إذا توافر الاستقرار في المعيشة للرعية على السواء..
ونظم الإسلام سليمة، وأصوله في حكم الشعوب تحقق العدالة المطلقة وليس مسؤولاً عما يحدث في بعض العهود لأنه يقرر أعدل الأوضاع.
الحروب الإسلامية
وحين نستعرض الحروب الإسلامية المعتمدة والمؤيدة بالقرآن الكريم التي حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. سنخرج بنتيجة واحدة هي أن هذه الحروب جميعها وفي شتى مشاربها واتجاهاتها لم تهدف إلاّ إلى إقرار الأمن..
وكان من الطبيعي أيضاً أن يكون لكل حرب من حروبها ما يبرر وقوعها من جانبها وإنها لم تعلنها إلاّ بعد أن دفعت إليها دفعاً وأجمعت كل الظروف على ضرورة إشعالها وفشلت كل المحاولات للحيلولة دون وقوعها..
على أن الذي يستعرض الحروب الإسلامية يعرف أنها لم تكن من النوع الفتّاك المخرب.. وكيف تكون كذلك.. وهي لم تكن إلاّ وسيلة من وسائل الإصلاح في الأرض وإقرار الأمن والسلام فوقها؟
ولا يمكن أن يعثر على حرب واحدة دفعت إلى إشعالها مطامع استعمارية أو اقتصادية أو استغلالية.. ولا تحقيق لرغبة البغي أو استجابة لنزعة العدوان ولا إكراه على قبول الإسلام، أو ميل إلى توسيع رقعته.. ولذلك لم يكن عجيباً أن تحاط بسياج من القيم الإنسانية السامية، ولم يكن عجيباً أن يتجلى فيها أروع أمثلة النبل والرحمة والعدالة والإنصاف!
وما كان الإسلام أحرص على شيء حرصه على الوفاء بالعهد.. لأن العهد مقياس الرجولة، والذمم، والضمائر.. والوفاء به من الأسس التي تقوم عليها عدالة الإسلام مع الاحتياط للأمر إذا غدر الجانب الآخر.
إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (التوبة: 4).
ولقد سار الإسلام وأتباعه سيراً حميداً خلال النضال على هذه الأسس المتينة من النبل.. فلم يغدروا بأمان.. ولم ينقضوا عهداً.. وادع المسلمون بعد الهجرة اليهود بيثرب.. فلم يغدروا بأمان.. ولم ينقضوا عهداً.. ولكن اليهود هم الذين غدروا بالمسلمين، ووادعوا كثيراً من الأفراد والقبائل فلم يؤخذ عليهم أنهم نكثوا عهدهم مرة واحدة.. وأعطوا الأمان لكثير من الأفراد والقبائل، فلم يتمردوا على أمان أبداً..
لقد وقعت -قبل الإسلام وبعده- حروب أخضبت الأرض كلها بالدماء وحدثت فتوحات لا حصر لها، ولكن هذه الحروب لم تسجل غير الخراب والدمار، وهذه الفتوحات لم تسجل غير النهب والسلب، وامتصاص دماء الشعوب!
ووقعت حروب إسلامية، وحدثت فتوحات إسلامية، فلم تسجل الحروب ولا الفتوحات إلاّ صفحات من النبل والسمو، والإصلاح والاستقرار، وصفحات من الفخر بما بثته من علوم وفنون.
دور الإسلام في عالم اليوم
ويتساءل المؤلف في ختام البحث.. هل يمكن للإسلام -اليوم- أن يقوم بدوره في تدعيم أسس الأمن الدولي؟ ثم يجيب بأن من الممكن أن يلعب الإسلام دوراً خطيراً في وقف عجلة الاضطراب الدولي.
وهذا الاضطراب العالمي لا تصلح لوقف عجلته المنظمات الدولية، فقد أنشئت عصبة الأمم بسويسرا عقب الحرب الكبرى، فلم تحل دون اشتعال الحرب الكبرى الثانية.. وأنشئت عقب الحرب الكبرى الثانية، منظمات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية.. فلم تحل دون اشتعال الاضطراب الذي شمل العالم بأسره.
هذه المنظمات الدولية في كل عهد إنما قصد بها تسكين خواطر الشعوب المغلوبة على أمرها.. ومواراة عدوان الدول الكبرى.. إذن فلا بد من كتلة محايدة تلعب دوراً خطيراً في القضاء على الاضطراب الذي شمل كل شبر من الأرض.
ولا بد أن تكون هذه الكتلة من دول شعوب تربطها روابط متينة، وتعصمها وشائج قوية من الدين والأخوة الإسلامية.. وتكون مهمة هذه الكتلة القوية الوقوف بالمرصاد للبغي، تكسر شوكته حتى يتلاشى.. ومتى كسر البغي فلن يكون هناك أدنى اضطراب.
ويجب أن تعتمد هذه الكتلة على القوة.. فالقوة هي الأسلوب الذي يقنع كل معتدٍ.. وباغٍ، إن كتلة قوية كهذه تستطيع أن تضع حداً للفوضى والاضطراب.. وتستطيع أن تقي العالم الشرور التي لم ترحمه ولا تريد أن ترحمه وتهيئ له جواً يستنشق فيه أنسمة الاستقرار والهدوء ويتنسم عبق الأمن والسلام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :779  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة الفيصل بن عبد العزيز

نائبة رئيس مجلس مؤسسي ومجلس أمناء جامعة عفت، متحدثة رئيسية عن الجامعة، كما يشرف الحفل صاحب السمو الملكي الأمير عمرو الفيصل