شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الماركسية والإسلام
الدكتور مصطفى محمود
قرأته حين صدوره منذ شهور.. وأعود إليه اليوم، لأنه ذكرني به حوار طريف أجراه معه أحد الأدباء المعروفين في مجلة.
سأله الأستاذ علاء الدين وحيد.. عن الماركسية: ماذا كان تصوره القديم لها، وماذا طرأ اليوم على هذا التصور؟
وكان جوابه الصريح: "الماركسية انتهت بالنسبة إلى الفلاسفة والمفكرين.. ولا وجود لها إلاّ عند المغامرين وأنصاف المتعلمين، والغوغائيين والسياسيين..".
أيضاً.. قرأت له مقالاً مطولاً "حول الماركسية"..
استوعب صفحة بأكملها من "أخبار اليوم"..
والواقع أن ما شرحه الدكتور الطبيب الأديب "مصطفى محمود" عن الماركسية في مقاله المطول.. ومن قبل في كتابه "الماركسية.. والإسلام" يتناول الكثير رغم إيجازه الشديد -عن النظرية الماركسية..
ومع أني لست ممن يرون أن المقارنة بين الماركسية والإسلام "واردة.." غير أن حديث مصطفى محمود عن العدالة الاجتماعية في الإسلام.. وعن الاقتصاد الإسلامي.. وغير ذلك مما سيطالعه القارئ أقول:
أن هذا الحديث الماتع يمضي فيه المؤلف ومعه أنصع الأدلة من القرآن والسنة.. وبأسلوبه المعروف.. هذا الحديث الواضح الصريح أعتقد أنه حري بالعرض، ويستحق التقديم:
والجدير بالذكر أن كتاب "الماركسية والإسلام" هذا تجاوز توزيعه المائة ألف.. ولم يمض عليه سوى شهور وهذا رقم لا أظن أن كتاباً عربياً آخر وصل إليه.. أو وصل إلى ربعه وكان أغلب قرائه -وهذا هو المدهش- من الشباب وطلاب الجامعات..
الحرية أولاً:
الحرية هي نقطة البدء..
وليست الحرية هي أن نجد ما نأكله (كما يعرفه بذلك الماديون أصحاب فلسفة المضمون الاجتماعي للحرية) فالحيوان يجد ما يأكله. وضمان الطعام لا يكفي ليجعل من الإنسان إنساناً.. فالإنسان حيوان حر يفكر لنفسه، ويقرر لنفسه: وقد يختار الجوع فيصوم، وقد يختار الموت دفاعاً عن قضيته فيموت.. وقد يتطوع في حرب انتحارية يعلم أنه لن يعود بعدها لأنه قرر أن يقول: "لا"..
وفي هذه القدرة على أن يقول: "لا" للظلم، "لا" للباطل، يكمن المعنى الوحيد لحريته..
فإذا سلبناه هذه الحرية فإنا نسلبه في الوقت نفسه الوسيلة الوحيدة لخلاصه.. فلا فضيلة لمن يطيع القانون خوفاً..
إلى أن يقول:
الحرية إذن هي الانطلاق..
ولكن الحرية الآن موضوع مختلف عليه، وكل فرقة سياسية تفهمها فهماً خاصاً..
.. الحرية في النظام الرأسمالي هي أن تفعل ما تشاء، وتمتلك ما تريد.. إن شئت امتلكت صحيفة ودار نشر ومحطة إذاعة، ومجمعاً للحديد والصلب.. ومنجماً للنحاس، وآباراً للبترول. ما دمت تدفع الضريبة، وتدفع الثمن..
ولكن هذه الحرية سوف تتفاقم آلياً لتصبح احتكاراً يتحكم في السلعة وفي السعر وفي البورصة، وبالتالي سوف تسلب الآخرين حرياتهم، وتستغلهم وتتحكم في رقابهم..
ثم يقول:
.. والحرية بهذا المعنى تناقض نفسها، فهي تقضي على حرية الآخرين، وفي النهاية تقضي على حرية صاحبها.. ولهذا رفضنا الحرية بالمعنى الرأسمالي..
فإذا جئنا إلى اليسار فإننا نجد الحرية بالمفهوم الماركسي هي حرية تغيير العالم وإعادة بنائه وفق خطة الحزب وهذا لا يتم إلاّ بخطوات تأخذ بعضها برقاب بعض.. أولاً لا بد من تحطيم رأس المال والعلاقات الرأسمالية التي تقوم على الاحتكار والاستغلال وذلك بنزع ملكية الأرض والمصنع ووسائل الإنتاج كافة ووسائل الإعلام كافة من صحافة وإذاعة وكتب وإدارتها من جهة الحكومة لصالح الشعب العامل.. وكمرحلة مؤقتة تتولى الطبقة العاملة بصفتها صاحبة المصلحة إعلان الدكتاتورية.. وحينما تنجز دكتاتورية العمال رسالتها، وتقضي على الطبقة البرجوازية، وتحقق مجتمعاً غير طبقي تنحل الدكتاتورية من تلقاء نفسها، بل تنتهي الحكومة.. لأنه لن يعود لها داعٍ ويصبح الإنتاج من الكثرة والوفرة بحيث يأخذ كل واحد حسب حاجته، ويعمل كل واحد حسب طاقته في مجتمع نموذجي تسود فيه الإنسانية.. وينتهي الطمع.. هكذا كانت أحلام الماركسية.. ولكن الواقع غير الحلم.. إلى آخر ما يقول.
ويمضي المؤلف في شرح طويل لأخطاء النظرية الماركسية. ثم يقول:
ونحن هنا نقول إننا لسنا يميناً رأسمالياً.. ولسنا أيضاً يساراً ماركسياً.. ولا يعني هذا أننا متوسط حسابي بين الشيوعية والرأسمالية.. وإنما نحن في فكرنا السياسي أصحاب عطاء خاص، وأصحاب اجتهاد ذاتي.
.. ونحن لم ننظر إلى الدين كعقبة وإنما -على العكس- نظرنا إليه كقوة دافقة وطاقة بناءة.. وفكر تقدمي أكثر تقدمية من كل النظريات المتداولة.
ولم يكن ضعفاً في القرآن أنه لم يحدد منهجاً سياسياً، ولم يرسم دستوراً محدداً، وإنما كان ذلك أحد أدلة قوته من إعجازه، فقد أراد الله أن يفتح سبيل الاجتهاد والأخذ بالعلوم واستنباط المناهج والأحكام من الظروف المتغيرة.. واكتفى القرآن في موضوع السياسة والحكم بتوصيات عامة لها صفة الأزلية وعدم التغير عبر العصور..
ماذا كانت تلك التوصيات؟
أولاً.. حرية الفرد وكرامته.
والفرد في الإسلام وهو أمة.. بل هو عالم بأسره بل الإنسانية كلها في قيمته..
تقول الآية: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة: 32) إلى هذه الدرجة تبلغ قيمة الفرد وقيمة كرامته وأمته.. إن جميع الإنجازات الصناعية والتكنولوجية لا تعدل قتل فرد واحد ظلماً في السجون، لأنك إذا قتلت هذا الواحد ظلماً فقد قتلت الإنسانية كلها.
فشرط الحكم الأمثل أن يحترم حرية الفرد وأمنه وسلامته، وألا يضحي به من أجل أي إصلاح مادي.. مهما بلغ ذلك الإصلاح..
أما الشرط الثاني فهو العدالة الاجتماعية، والقرآن تناول العدالة الاجتماعية في أكثر من سورة، وهو يأمر صراحة بألا تحتكر الأموال بين أيدي الفئة: كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ (الحشر: 7).
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة: 34)..
.. وإذا بات فرد واحد جائعاً فالأمة كلها مسؤولة.
.. وقد نص الإسلام على الملكية الفردية، وأباحها لحكمة عميقة.. هي أن مصادرة الملكية الفردية تصادر في نفس الوقت الدرع والسند اللذين يستند إليهما الفرد.. ومع ذلك لم يطبق الإسلام حرية للكسب الفردي دون ضوابط وحدود وإنما للفرد أن يأخذ بعض ما يكسب.. لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ (النساء: 32)..
والبعض الآخر من ذلك المكسب هو حق الله.. ينفقه الحاكم ليحقق الضمان الاجتماعي للفقير والمريض العاجز والأرملة. ولينفق منه على التعمير والإصلاح، والقيام بالمشروعات النافعة للمواطن.
وسبق الإسلام بمبدأ الضمان الاجتماعي (دون تفرقة في الدين) جميع تشريعات زمانه، وقد فرض عمر بن الخطاب للمولود مائة درهم فإذا ترعرع زاده إلى مائتين، كما فرض مخصصات ضمان لليهودي الأعمى، وللمجذومين من النصارى، وخصص حبوساً للإنفاق على ضعاف الحيوان وإيوائها وحمايتها.
وللحاكم في أموال الأغنياء حقوق غير الزكاة لسد الذرائع، فله أن يأخذ الضرائب الإضافية والاستقطاعات في حالات الوباء والمجاعة والحروب..
وحرمة الفرد، وحرمة بيته وحرمة أسراره حافظ عليها الإسلام أكثر مما حافظ عليها ميثاق حقوق الإنسان..
فنهى عن التجسس وعن دخول البيت دون إذن واقتحام المساكن عنوة..
أما الشرط الثالث -في الحاكم الأمثل- فهو الشورى والشورى تكون من الحاكم للصفوة من أهل الرأي.. لا ينفرد بالسلطة ولا يتجبر.. والله يقول للنبي محمد عليه الصلاة والسلام:
وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ (ق: 45) فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية: 21-22).
وهو محمد النبي المعصوم صاحب اللياقات الكاملة.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (الحجرات: 10)..
كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.. (حديث شريف)..
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ (الإسراء: 23)..
والحكم في الإسلام للصفوة والنخبة المختارة ولا يصح تحكيم الطغاة والدهماء والسوقة في مقاليد السياسة والفكر.. لأن أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف: 21)..
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (العنكبوت: 63)..
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (غافر: 59)..
إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ (يونس: 66)..
نهى الإسلام عن الغوغائية والديماجوجية وأوصى بتسليم مقاليد الأمور لصفوة منتخبة لأن الكثرة دائماً على ضلال..
كما نهى الإسلام عن العنصرية ونهى عن احترام الناس على مقدار غناهم وطبقاتهم..
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13)..
لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى (حديث شريف)..
وهذه الوصايا تمثل الذروة في الحكم والسياسة والتعامل.. وهي تقدم الخصائص الأزلية للحكم الأمثل.. التي لا تتغير بتغير الظروف والأحوال..
* * *
ولهذا كله نعتبر القرآن سبق كل ما وضع من نظريات في السياسة ولهذا نحرص عليه ونستلهم آياته ونعتبره ركناً أساسياً في دولة العلم والإيمان.. ونرى فيه نبع علم لا ينفد، ومصدر هدى وبصيرة وحكمة.. وشرطاً في بناء الإنسان السوي الكامل.
لا يمين ولا يسار:
.. لا يمين ولا يسار.. وإنما صراط الاعتدال الذي نسميه الصراط المستقيم، من خرج عنه باليمين فقد انحرف، ومن خرج عنه باليسار فقد انحرف..
والصراط المستقيم ليس هو الوسط الحسابي بين اليمين واليسار وإنما هو الوسط الجدلي.. هو التركيب الجامع الذي يوفق بين النقيضين، ثم يتجاوزهما في وحدة غنية خصبة جامعة..
وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (الإسراء: 29)..
وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (الفرقان: 67).
فالصراط المستقيم هو إذن تركيب لبين نقيضين، بين البخل والإسراف يكون صراط الاعتدال هو الكرم.. وبين الجبن والتهور هو الشجاعة.. وبين اليمين (طغيان مصلحة الفرد) وبين اليسار (طغيان مصلحة الجماعة) يكون المنهج الإسلامي هو التوازن الدقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموع.. دون أن تطغى واحدة على الأخرى.. فلا رأسمالية ولا شيوعية.. وإنما نظام إبداعي يأخذ من الفرد دون أن يطحنه ويغني المجتمع دون أن يجعل منه سلطة تذويب للأفراد..
وهذا هو النظام الإبداعي الذي تسميه الصراط الذي يرفض اليمين كما يرفض اليسار معاً.. ويقيم تركيباً سلوكياً فذاً.. هو صراط الله الحق..
طريقنا إلى النجاة:
يقول المؤلف ضمن ما يقوله في هذا الفصل:
العلم ضروري:
ولكن المشكلة هي كيف نأخذ هذا العلم؟
إن المنهج العلمي الموضوعي يقوم على استنباط قوانين الطبيعة من التجربة ومن استقراء الشواهد المحسوسة.. ولهذا فهو يتضمن رفض كل ما هو غيب.. وكل ما هو غير محسوس.
ولهذا تستبعد العقلية العلمية فكرة الله والقدر والجن والملائكة والعالم الآخر ابتداء ودون مناقشة وإذا لم نحل هذه المشكلة لطالب الابتدائي والثانوي الذي نلقي إليه بكتب الكيمياء والطبيعة والكهرباء فإنه سوف يدركها بنفسه وسوف يدخل في صراع مع أفكاره الدينية الموروثة وهو صراع سوف ترجح فيه كفة العلم إذا اختار هذا الطالب طريق الجامعة وإذا غرق أكثر وأكثر في تخصص علمي..
وأكبر خطأ ارتكبناه في حق هذا الطالب أننا قسمنا التعليم إلى نوعين تعليم ديني وتعليم علمي..
.. هذه الازدواجية التي فصلنا فيها بين أزهر وجامعة..
كانت أكبر خطيئة لأنها كانت الباب الذي خرج منه المتعلم الجامعي من دينه كانت الطلاق البائن بينه وبين تراثه الروحي..
والعلم لا يقبل الازدواج
والعلم في نظري لا يقبل الازدواج لأن الحقيقة واحدة.. كل ما في الأمر أن هناك حقائق في محيطنا البشري، يمكن معرفتها بالاستقراء والتجربة.. وحقائق إلهية لا يمكن معرفتها بالتجربة.. ولا يمكن أن تأتينا إلاّ وحياً.. ولا تناقض بين الاثنين ولا يصح أن يستبعد أحد العلمين الآخر..
ولا بد أن تضم الجامعة كلا النوعين من التعليم من سنواتها الأولى إلى سنواتها الأخيرة وأن يكون الدين مادة أساسية، وأن تكون المعارف الإلهية مادة أساسية.
وأن يكون صراع الدين والعلم في ذهن الطالب صراعاً بصوت عالٍ يشترك فيه الطالب والمدرس من بدايته؛ وأن يتعرف الطالب من البداية على أن هناك نوعين من الحقائق.. حقائق موضوعية كالكهرباء والذرة والبحار يمكن أن يجتهد فيها بالتجربة وحقائق إلهية خافية لا يمكن أن تأتي إلاّ وحياً عن طريق الرسالات وهذه الحقائق وسيلة اليقين فيها القلب وليس العقل..
ولا تناقض في العلوم الإلهية والعلوم الموضوعية، وكل الفرق أن العلوم الإلهية أشمل وأكثر إحاطة.. وأنها علوم يقينية، بينما العلوم الموضوعية علوم جزئية احتمالية إحصائية تتغير فيها النظريات وتتبدل.
وسوف يقتضي هذا تغييراً في المناهج العلمية والمقررات وكتباً جديدة توضح.. بهذا يمكن أن نأمل في أن نأخذ من الغرب علمه دون أن نفقد تراثنا الروحي.. ذلك التراث الذي كان أعظم عطاء أعطته هذه الأرض مهبط الأديان وبذلك يمكن أن نأمل في أن يخرج من مدارسنا كل يوم من يستطيع أن يرد على ماركس وفرويد..
وسوف تكون هذه التجربة العملية أكثر من مجرد خطة علمية.
* * *
سوف تكون خطة سياسية إلى فكر جديد نابع من تراثنا وواقعنا أفضل من السير والجري وراء الموضات الفكرية الأجنبية.
ولو نظرنا إلى الإسلام لوجدنا فيه نبعاً من الأفكار والحقائق تسبق النظامين تقدماً ومعاصرة..
لقد جاء الإسلام من البداية مقرراً مبدأ المساواة في الفرص.. وضمان حق الكفاية للفرد وتحقيق التوازن بين حرية الفرد في الربح، وحقوق المجتمع ومبدأ الملكية الخاصة والملكية العامة.. (القطاع العام والخاص) ومبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد وهو ما نسميه اليوم بالاقتصاد الموجه. ومبدأ مصادرة أموال المستغلين لصالح الفقراء والمظلومين..
لا يسمح الإسلام بالطبقية
فالإسلام لا يسمح بالطبقية.. ويحرم تداول المال بين فئة محدودة من الأغنياء كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ (الحشر: 7).
والعزة في الإسلام بالتقوى وليست بالغنى.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13)..
إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.. (حديث نبوي)..
الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى.
* * *
.. ويقوم المنهج الإسلامي في أصوله على أساس فكرة التوفيق بين مصلحة الفرد وبين مصلحة الجماعة.. فهو لا يسحق الفرد لصالح الجماعة (كما في الشيوعية) ولا يسحق الجماعة لصالح الفرد (كما في الرأسمالية)..
ولكن إذا استحال التوفيق كما في حالات الحروب والمجاعات والأوبئة.. فإن التطبيق الإسلامي يختار المصلحة الجماعية.. ويقرر أن يقتسم الناس الطعام بالتساوي ولو عاشوا جميعاً على أنصاف بطونهم..
ويقول عمر في عام المجاعة:
"لو لم يجد الناس كفايتهم من القوت فعلى أهل كل بيت أن يستضيفوا مثل عددهم فيقاسموهم أنصاف بطونهم فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم"..
ولكن هذا الإجراء.. هو إجراء طوارئ.. وحكمه حكم الجراحة العاجلة في حالة الخطر.. وهو خروج من الأصول إلى الفروع (كتغير الظروف والملابسات) وهو ليس الدستور الإسلامي للحياة العادية..
* * *
أما في الحالة العادية فالمنهج الإسلامي يلتزم بالأصول الإلهية، وهي استهداف التوازن الدقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة..
لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (البقرة: 279).
لا ضرر ولا ضرار (حديث نبوي).
وفي حديث نبوي آخر تلخيص جميل لهذا التوازن الدقيق بين المصلحتين:
إن قوماً ركبوا سفينة فصار لكل منهم موضع فنقر رجل منهم موضعه بفأسه فقالوا له: ماذا تصنع قال هذا مكاني أصنع فيه ما أشاء.. فإن منعوه نجا ونجوا وإن تركوه هلك وهلكوا..
ولهذا يخطئ من يتصور الإسلام رأسمالياً..
ويخطئ من يتصور الإسلام شيوعياً..
ويخطئ من يتصور الإسلام وسطاً حسابياً بين النظامين، أو تلفيقاً بينهما، فالحقيقة أن الإسلام منهج اقتصادي متميز.. ينطلق من منطلقات مختلفة.. وإن اتفق في هذه النقطة أو تلك مع هذا النظام أو ذاك..
فهو ينطلق من فكرة التوفيق والمصالحة والتعاون والتكامل.. وليس من فكرة الصراع الطبقي والتناقض.
وهو يهدف إلى التوازن بين الفرد والمجموع.. وليس إلى تذويب الأفراد في المجموع (كما في الاشتراكية العلمية).. أو إلى التضحية بالمجموع لصالح قلة من الأفراد الرأسماليين (كما في الفكر الرأسمالي).. إنما التوفيق والمصالحة هو دائماً المنطلق..
وإذا كنا نجد في الاقتصاد الرأسمالي أن حرية الفرد في الربح هي الأصل وأن تدخل الدولة هو الاستثناء.. وإذا كنا نجد في الاشتراكية العلمية أن تدخل الدولة وانفرادها بالنشاط الاقتصادي هو الأصل.. وأن إباحتها بعض الحرية للفرد هو الاستثناء.
فإننا في الإسلام أمام شيء مختلف.
فالحرية الفردية في الربح أصل المنهج الإسلامي والملكية الفردية أصل، كما أن تدخل الدولة في الاقتصاد أصل والملكية العامة أصل.
والزكاة في الإسلام أول مؤسسة ضمان اجتماعي
وحين يقرر الإسلام الزكاة، فإنه يشرع تدخل الدولة، ويقيم أول مؤسسة ضمان اجتماعي.. وهو يجعل هذا التدخل واجباً.. حتى لا يصبح المال دولة بين الأغنياء وحكراً لطبقة دون باقي المواطنين.
والملكية العامة مقررة كأصل في أراضي الوقف الخيري والمعادن والكنوز في باطن الأرض والأرض مفتوحة بالغزو والمساجد.. كل هذه ملكية عامة للدولة كما أن الملكية الفردية أصل يقطع يد من يتعدى عليها..
وحرية الفرد في الربح أصل.. ولكن الإسلام لا يتركها مطلقة.. وإنما يضع عليها قيوداً.
فلا يجوز إنتاج الخمر. أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو حبس المال عن الإنتاج (الاكتناز) أو صرفه في سفاهة أو جمعه من الرشوة.. أو الإضرار بحقوق الآخرين أو المغالاة في الأسعار..
ويتميز منهج الاقتصاد الإسلامي بشيء آخر لا نجده في الرأسمالية أو الاشتراكية العلمية هو إشباعه للحاجات الروحية، فمعاملة الله وإرضاؤه أصل في الإنفاق وفي الإحسان..
وهذا الإشباع الروحي يحمي المجتمع من الخواء النفسي والخراب العصبي الذي وقعت فيه مجتمعات الرخاء الأوروبية مثل السويد.. أو الاشتراكيات الملحدة في الشرق حيث نجد أعلى نسبة من الجنون والانتحار رغم توفر ضمانات العيش للجميع.
والصبغة الروحية للنشاط الاقتصادي شرط من شروط الإسلام.. فالعمل الصالح المفيد والنافع لا يكفي عندنا كهدف للمؤمن.. ولا يكون هذا العمل مقبولاً إلاّ إذا قصد به العامل وجه الله.. والله غير محتاج..
إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (العنكبوت: 6) ولكن العامل هو المحتاج لهذا التوجه لأنه يستمد به القوة والمدد من ربه.. وإنما عمل الكافر مهما كان صالحاً فهو كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف إنه يتصور أن توفيقه من عند نفسه.. وإن نجاحه مهارة وشطارة فهو من زرع الأنانية حصاد الغرور والانفصام في الإسلام بين ما هو روحي وبين ما هو مادي..
وفي البحث في أعماق الإسلام والقرآن والسنة عن هذا الخط -الاقتصادي الإسلامي- والبحث في حدوده ومواصفاته نجاتنا جميعاً من التخبط بين الرأسمالية وبين الاشتراكية العلمية..
(وهي غير علمية كما رأينا)، وفيه نجاة لنا من ترقيع حضارتنا العظيمة بحضارات هي في الواقع في حالة شيخوخة وانحلال (كالرأسمالية) أو في طور تجربة واختبار (كالاشتراكية العلمية)..
وكلتا الحضارتين مادية تقوم على الفلسفة الظنية وتستهدف المصالح المادية الجافة دون ظلال من روح أو معارف إلهية أو يقين تسانده السماء ويؤيده الله.
ثم يقول المؤلف: والفكر المؤمن والفكر الملحد يطرد كل منهما الآخر ولا يمتزجان كالزيت والماء.
محاولات التوفيق بين الماركسية والإسلام هي محاولة للتسلل إلى الشرق الأوسط
التوفيق بين الماركسية والإسلام التي يقوم بها أمثال مكسيم رودنسون.. أو جارودي هي في الواقع تلفيق.. لا توفيق.. والدوافع الخافية وراء تلك المحاولات هي "فكرة مكيافيلة لترويج بضاعة انتهى موسمها.. (وهي الماركسية) بوضع ماركة الإسلام عليها محاولة التسلل إلى الشرق الأوسط داخل حصان طروادة، وكما تعلم بدأت الماركسية بإعلان الحرب على الدين فلما فشلت أعلنت الهدنة.. وطلب الماركسيون من أتباعهم عدم التعرض للدين فلما فشلت الهدنة بدأت محاولات التحالف -وبدأ دراويش الماركسية يتكلمون بلغة أهل الله ويسبحون للحي القيوم ويعلنون الزواج الشرعي بين الماركسية والإسلام، وهو زواج باطل، وحكاية الماركسي الذي يحمل كتاب ماركس في يد.. والسبحة في اليد الأخرى.. هو إنسان يدجل على نفسه أو علينا.. أو هو إنسان مصاب بانفصام في الشخصية وفي حاجة إلى علاج عاجل من هذا التناقض والتخبط..
ونحن لا نرى داعياً لهذا الخلط والتلفيق.. ونرى أن الإسلام يقدم كافة الحلول العصرية لمشكلة العدالة الاجتماعية".
لماذا نعاند الفطرة..
لماذا نعاند الفطرة.. ولماذا لا نعود إلى الطبيعة السمحة البسيطة، لماذا لا نسمي مكتسباتنا وإنجازاتنا وخطواتنا التي أحرزناها على طريق التقدم باسمها الحقيقي؟
لماذا لا نسميها عدالة إسلامية، واقتصاداً إسلامياً، ما دامت بالفعل موجودة في كتابنا، وخارجة من تراثنا؟.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :823  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج