شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
دور المسلمينَ في بناء المدنية الغربية
ربما يأخذ العجب مأخذه لدى بعض القارئين حينما يرون أن من بين الباحثين -هنا وهناك- من يؤلفون الكتب، ويضعون الرسائل يتحدثون فيها عن حضارة الإسلام في عهد ازدهارها وبالتالي يتحدثون عن الدور الذي قام به المسلمون في بناء المدنية الغربية!
وقد يتساءل هذا البعض: أصحيح أن المسلمين لهم دورهم في بناء هذه المدنية؟
والواقع أن الكثرة من أبناء العروبة والإسلام -كما يبدو- ليسوا على إلمام مع الأسف بحقيقة تاريخهم.. أو بحقيقة حضارتهم الإسلامية، فضلاً عما كان لهذه الحضارة من دور ملحوظ -لا ينكره الغربيون أنفسهم- في بناء مدنيتهم!
فلا بدع أن نحس بالكثير من الغبطة إذ نقرأ هذه الرسالة الوجيزة للباحث المفكر المسلم الأستاذ "حيدر بامات" يحدثنا فيها عن منجزات الحضارة الإسلامية وأثرها في مدنية اليوم.
ونحن -بلا شك- نغتبط أكثر عندما نقرأ قولاً لباحث عربي مسيحي يشهد به للعرب المسلمين بأنه لم يساهم شعب من شعوب الأرض بقدر ما ساهموا في التقدم البشري.
إنها شهادة "دكتور فيليب حتي" يوردها كاتب هذه الرسالة الأستاذ "بامات" ويعقب عليها بقوله: بأنه لكي نحصل على صورة واضحة للحضارة الإسلامية، لا بد لنا من أن نذكر أن هذه الحضارة لم يصنعها العرب وحدهم.. فلقد كانت هذه الحضارة، وستظل أبداً ثمرة جهود شعوب كثيرة، متباينة الأجناس واللغات، ولكن الإسلام قد صاغها في وحدة روحية، وخلق منها مجتمعاً يحلق فوق حدود القوميات!
وليس من شك في أن هذا هو واقع حضارتنا الإسلامية.
وكما أن "الوحدة الروحية" -كما يقول الكاتب- إنما ترد إلى الإسلام.. الذي يقوم على التوحيد المطلق، والذي اشتقت منه قوانين "المدنية المسلمة" والذي ينظم حياة المؤمنين العامة والخاصة. فكذلك هذه الوحدة الروحية مدينة بالكثير إلى سحر اللغة العربية وروعتها.
بل إننا لنرى الكاتب يمضي يتحدث عن اللغة العربية في عبارات تنم عن شديد إعجابه بها، منوّهاً بالدور التكويني الحاسم الذي لعبته اللغة العربية في خلق الفرد المسلم الذي نشأ في بوتقة الإسلام.. هذه اللغة الرائعة ذات الإعجاز العجيب، والجزالة المثيرة.. والتي ظلت مئات السنين، كاللاتينية في العالم المسيحي خلال القرون الوسطى، لغة التخاطب بين جميع الشعوب الإسلامية، فوق أنها لغة العلوم والآداب.
أما كلمة الصلاة -يقول بامات- فقد تركت العربية أثراً عميقاً في جميع لغات الفئات التي يتكوّن منها المجتمع الإسلامي!
ويقول أيضاً: وقد بلغ تفوقها على غيرها من اللغات في الوقت الذي بلغت فيه الحضارة الإسلامية قمتها حداً يجعلنا نوافق "فيليب حتي" على ما ذهب إليه من أن كل فرد في الإمبراطورية الإسلامية اعتنق الإسلام وتكلم بالعربية، كان ينظر إليه على أنه عربي.
والطريف أن هذا الذي يقوله "بامات" عن رأي (فيليب حتي) نجد أكثر الباحثين اليوم يكادون يتفقون في توكيده.. عندما يقولون في تعريفهم للعربي بأنه: كل فرد اختار العروبة وتكلم بالعربية.
ومن رأي "بامات" أن الخلفاء الأمويين كانوا أول من عمل على تطوير الحضارة الإسلامية.
على أن حكم الأمويين -كما يقرر- لم يكن في حقيقته سوى مرحلة نحو النضوج بالنسبة للحضارة الإسلامية.. ولكن هذه الحضارة بلغت أوجها -من غير منازع- في عهد الخلفاء العباسيين في بغداد (750- 1258م)، وفي عهد الأمويين في الأندلس (755-1492م) وإلى هذا يشير "غوستاف لوبون" حين يقول: (في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في أظلم عصور الهمجية كانت بغداد وقرطبة -وهما المدينتان اللتان سيطر عليهما حكم الإسلام- مركزي الحضارة البشرية تشعان على العالم كله بوهج العلوم والفنون).
ويرى "بامات" كذلك أن تأسيس بيت الحكمة في بغداد في عصر الخليفة المأمون (813-833م) كان من أبرز الحوادث في العصور الوسطى.. ويمضي إلى أن يقول: كانت دار الحكمة بمثابة حجر الزاوية في تكوين مدرسة بغداد التي قيض لها أن تفرض تأثيرها حتى نهاية النصف الثاني من القرن الخامس عشر.. وإلى هذه المدرسة يرجع الفضل في تأمين استمرار الحضارة بوصل ما انقطع من سلسلة المعرفة الإنسانية بسبب انحطاط وسقوط روما في القرن السادس.
ويواصل الكاتب حديثه عن دار الحكمة وأثرها في إنقاذ المعارف القديمة والحفاظ عليها.. ثم عن أثرها بما أحدثته من إضافات جديدة مبتكرة في جميع فروع العلم، وكذلك باكتشافات لا حصر لها في مجال العلوم التطبيقية.. إلى أن يقف بنا عند النقطة الرئيسية من الحديث، وهي: البحث عن كيفية انتقال الحضارة الإسلامية إلى الغرب.. وهنا يتساءل: متى وصلت الحضارة الإسلامية إلى أوروبا؟ وما الطرق التي سلكتها؟
هل الصليبيون هم أول من قاموا بإحداث التبادل الثقافي بين الشرق والغرب.. كما هو الوهم الشائع؟ من الجدير بالنظر أن الكاتب يدحض هذا الوهم بأدلة لا تقبل النقض.. ونرى أن من أخطر أدلته التي يذكرها، هو أن الحروب الصليبية أوجدت هوة واسعة بين الشرق والغرب ووضعت حداً لأي تعاون بين العالمين لأجيال طويلة بإثارتها المسيحية ضد الإسلام في حرب لا هوادة فيها.
وعلى النقيض من ذلك فإن الغرب -يقول الكاتب- يدين بالكثير للشرق في حقل الحضارة المادية.
ويقول: لقد وجد عدد كبير من الصليبيين أنفسهم وجهاً لوجه أمام حضارة تفوق حضارتهم، كما وجدوا في الشرق أشياء كثيرة جديدة كل الجدة عليهم، وكذلك أساليب فنية -تقنية- كانت لا تزال مجهولة في الغرب.. فإدخال المنتوجات الشرقية إلى الأسواق الأوروبية على نطاق واسع، وتبني الأساليب التقنية في الزراعة والصناعة والأعمال اليدوية كانت من النتائج الباهرة للحروب الصليبية.
أما في مجال الفكر.. فنرى الكاتب وهو يتحدث عن تسرب الحضارة إلى أوروبا عن طرق إسبانيا وصقلية وجنوب فرنسا اللواتي كانت تحت الحكم الإسلامي المباشر، يذكر لنا كيف أن الحضارة الإسلامية -منذ انتهاء القسم الأول من القرن التاسع الميلادي- قد سادت جميع إسبانيا، واعتبر الإسبانيون اللغة العربية الوسيلة الوحيدة للتعبير في مجالي العلم والأدب.. إلى أن يقول: وقد انتشرت شهرة العرب العلمية حتى طبقت الآفاق، وجذبت اهتمام النخبة المستنيرة في الغرب إلى الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا.. وإنه لمما يدعو إلى التأمل حقاً أن نجد أحد كبار البابوات "سلفستر الثاني" يقضي ثلاث سنوات في طليطلة يدرس على العلماء المسلمين الرياضيات والفلك والكيمياء وموضوعات أخرى.. وأن نجد كثيراً من كبار رجال الدين والعلم من فرنسا وإنكلترا وألمانيا وإيطاليا، درسوا فترات مختلفة في جامعات إسبانيا الإسلامية.
مساهمة الإسلام في الحضارة الإنسانية:
وفي هذا القسم من الرسالة.. يتابع (بامات) حديثه الممتع عن دور الإسلام الحضاري.. ولكنه يضطر إلى الاقتضاب وهو يشيد -في إيجاز- ببعض الاكتشافات المهمة التي ندين بها لعبقرية البحث الإسلامي -كما يعبر- وإن كان لا يفوته أن يذكر لنا أسماء بعض العلماء والفلاسفة والكتّاب.. الذين أغنوا العلوم والآداب وكان لهم أثر ملحوظ في الفكر الغربي.
فأول ما لفت أنظار العلماء المسلمين من العلوم: الفلك والرياضيات، وقد أحب العرب الرياضيات أكثر من العلوم الأخرى، إذ اكتشف العلماء المسلمون الكثير من المبادئ الأساسية للحساب والجبر والهندسة.. ففي الجبر لا تزال تستعمل الأعداد وطريقة العد التي اخترعها العرب.. والجبر نفسه يعزى اختراعه أحياناً إلى العرب، ومن أساطين هذا العلم "محمود بن موسى الخوارزمي" صاحب كتاب (الجبر والمقابلة) والذي كان المأمون عينه أول رئيس لبيت الحكمة، ويصفه (فيليب حتي) بأنه كان يمتلك أفضل عقلية علمية، وأنه بلا شك الرجل الذي مارس أكبر قسط من التأثير على الفكر الرياضي خلال العصور الوسطى بأسرها.
وبالإضافة إلى اهتمام المسلمين بالفلك والرياضيات.. كان اهتمامهم عظيماً بالعلوم الأخرى، ومن هذه العلوم: الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية والطب والفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الاجتماع والهندسة المعمارية والفنون التشكيلية والموسيقى.
غير أن الطب -كما يقرر الكاتب هنا- كان أعظم علم أثار اهتمام المسلمين بعد الرياضيات والكيمياء.. فخلال القرون الأولى التي تلت الهجرة أصبح الطب جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الشاملة، ومن ثم ظهر ذلك العدد الكبير من الأطباء والمؤلفات الطبية.. وقد لعب الأطباء المسلمون دوراً حاسماً في العلوم الطبية لدى الغرب إذ ظلت مؤلفات الرازي وابن سينا وابن النفيس وابن زهر، أساس الدراسات الطبية في الجامعات الأدبية خلال قرون عديدة، واكتسبت مدرستا الطب في "سالرنو" و "مونبلييه" شهرة واسعة في هذا الصدد.. وتعتبر مجموعة المعلومات الطبية التي نشرها الرازي في مؤلفه "الحاوي" وفي كتابه الآخر المسمى (المنصوري) الذي نسبه إلى الأمير منصور الساساني، أوسع وأشهر المؤلفات الطبية.
وكان ابن سينا بلا شك أعظم طبيب ظهر في تاريخ المسلمين، وقد نشر كتابه "القانون في الطب" بالعربية في روما سنة 1593م واستعمل هذا الكتاب كأساس لتدريس علم الطب في الجامعات الفرنسية والإيطالية بأسرها طيلة ستة قرون كاملة.. من القرن الثاني عشر حتى القرن السابع عشر.. وعدا ذلك فقد ألف ابن سينا كتاباً حول علاجات القلب.. ونظم قصائد في الطب، وتضم دراساته للعلاجات الطبية وتحضيرها 760 علاجاً.
وأعظم تقدم قام به الأطباء المسلمون كان في حقل الجراحة.. كما عرفوا التخدير الطبي الذي يعتبر بصورة عامة اكتشافاً حديثاً، وأهم جراح عربي في هذا الصدد هو "أبو القاسم خلف بن عباس القرطبي" المتوفى سنة 1107م وكانت مؤلفاته المصدر العام لجميع الجراحين الذين ظهروا بعد القرن الرابع عشر -كما يقول ذلك العالم الفيزيولوجي هاللر- وقد طبعت كتبه باللاتينية سنة 1497م.
وأنجبت أسبانيا الإسلامية أطباء آخرين ذوي شهرة عظيمة من بينهم "ابن زهر" الإشبيلي و (ابن رشد) الذي كشفت شهرته كشارح لفلسفة أرسطو مزاياه كطبيب.
وكما كان للعرب والمسلمين جهودهم الجبارة في الفلك والرياضيات والطب كانت لهم جهودهم المثمرة في كل من الفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الاجتماع -على نحو ما عرضنا له- وهذا هو الأستاذ "بامات" نراه وهو يذكر لنا بعض الأسماء البارزة في مجالات هذه العلوم يذكر لنا أول ما يذكر "ابن خلدون" أول من وضع فلسفة للتاريخ ويستشهد بما يقوله عنه كاتب غربي اسمه "رايسلر" أنه أعظم مؤرخ أنتجه الإسلام، ومن أعظم المؤرخين في العصور كلها.
وهكذا يتنقل الكاتب المفكر المسلم الأستاذ "بامات" واضع هذه الرسالة الشيّقة عن الدور الحضاري للإسلام.. وعن دور المسلمين في بناء الحضارة الغربية أنه يعرض لنا ألواناً ناصعة عن تلك الحضارة تشهد لبناتها بالعبقرية والتفوق.. وتثبت بحق ما لتلك الحضارة وما لأصحابها العرب والمسلمين من جليل الأثر في كيان هذه الحضارة العظيمة التي نعاصرها الآن.
وبعد:
فهذا عرض سريع لرسالة فيلسوفنا المسلم "حيدر بامات" لعلّها تكفي -إلى جانب عرضها الموجز للموضوع- بالتعريف بناحية نضالية لرجل يحفزه إلى هذا الإنتاج إيمان عميق.. إنه رجل كما يقول عنه الأستاذ سعيد رمضان في تقديمه لهذه الرسالة: قضى أكثر حياته مشرداً عن وطنه في سبيل عقيدته، ولم يزل منذ اتخذ مهجره في باريس يعيش أيامه ولياليه بقلب يحترق أسى وقلقاً على الإسلام والمسلمين في شتى أوطانهم ومهاجرهم وفي حاضرهم، وما يضمره الغيب المليء لمستقبلهم، لا يزيده السن الكبير إلاّ رسوخاً في الإيمان وشباباً في الهمة والأمل ووعياً يلاحق به الأحداث ويكتب ويراسل باذلاً عصارة النفس وخالص النصح من مهجره بباريس.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :607  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج