شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إلى أبولون
يزعمون أنَّ للشِّعرِ والشَّمس إلهاً اسمه (أبولّون)، نحن أوّلُ الكافرين به، وقد تخيَّلناه كائناً كالأحياء الهزيلة، وَسَخاً من هذه الأوساخ الآدمية التي هي زُورٌ على الإنسانية، كما كان أبولّون وِزْراً على الألوهيّة، فَركِبناه بالسُّخر والهجاء، وأعملنا فيه مِعوَل الهدم والتَّنكيل، زُلفَى إلى الله الواحِد، الأحَدِ، الذي لا نعْبُدُ إلا إيّاه، مخلصِين له الدِّين.
هاكَها من سحائبي وَطْفاءَ
صَيِّباً صيَّرَ السَّبيلَ غُثاءَ (1)
وتطامَنْ لها، وتِيرةَ لَيثٍ
زَأْرُهُ صيَّر الرُّعودَ زُقاءَ (2)
يا أبولّونُ! يا إلهَ المجانيـ
ـنِ، على غابرِ اللَّيالي، عزاءَ
لستَ إلا خيالَ فكرٍ مريضٍ
عُلِّقَتهُ أخنَى القلوبِ، غَباءَ
وتشهَّتْ به على النَّفس ما أغـ
ـنَى نفوساً، وانصَبَّ فيها هُذاءَ (3)
هذه نكبةٌ، ذَرَتْكَ رماداً
بعدما كنتَ كائناً يَتراءى
ولئِن عِشتَ في اعتقادِ الشَّعاريـ
ـرِ إلهاً، فقد غدَوتَ هَباءَ (4)
أيّها الخاملُ الذي ملأ الجَوّ
مُواءً طَوْراً، وطَوْراً عُواءَ (5)
قَدْ لَعَمري أفنيتَ في طلبِ المَجـ
ـدِ، سِنيناً بالمخزِيات.. رُواءَ (6)
كلَّما خِلتَ للظهورِ مجالاً
زادَك الحقُّ في العيون خَفاءَ
ما مَجالُ الحياةِ بالهَيِّنِ السَّا
ئِغ، أنْ رامَه الحقيرُ ابتغاء؟
* * *
يا أبولّونُ! خدعةٌ أنتَ، تَستَهـ
ـوِِي خَشَاشَ الأحياءِ، والبلهاءَ (7)
هم صَعالِيكُكَ الألَى عَبَدُوا زو
رَك، فاهنأْ بهم لِعُودٍ لِحاءَ (8)
أنتَ عَوَّاؤُهم، وهم نَابِحُو اللَّيـ
ـلِ، حوالَيْكَ، ردّدوا الأصداءَ (9)
* * *
يا أبولّون! لستَ للفاضلِ الحُرِّ
كِفاءً، ولستَ إلا لَغَاءَ (10)
أنتَ ضَعفٌ، وحِطَّةٌ، واستِفالٌ
استحالت بَذَاءَةً وهُراءَ (11)
أيُّ فنٍّ؟ هذا الذي تدَّعِيه
كلَّما ازددتَ لَوثَةً والتِواءَ؟ (12)
أهو فنُّ الحِقدِ الذي شبَّ في صَد
رِكَ، ناراً، وكان داءً عَياءَ؟
أم هوَ الذُّلُّ والضَّراعةُ في عينيـ
ـكَ، قد أخفيا الجَوى والشَّقاءَ؟
وَاهِمٌ أنتَ، يا أبولّونُ! لا تَبْـ
ـلغُ مَجداً، ولا تَنالُ ثَراءَ
* * *
كم تَحَدَّاك في مَغاوِرِ أحلا
مِكَ ضِدٌّ؟ فما أطقتَ اللِّقاءَ؟
وتَهادَى إليكَ، منتزِعاً منـ
ـكَ أزاهيرَك الرَّواءَ الوِضَاء؟
فتخاذَلْت دونَه، ترسلُ العَبْـ
ـرَة، حَرَّى، وقد فَقَدتَ الرَّجاءَ
مُستفِزّاً من عابديك عليه
يا أبولّونُ، رُزَّحاً أنضاءَ (13)
كان هذا مقامَ سَعيِك، يا مُقـ
ـعَدُ، لو أنَّ في الفؤادِ ذَماءَ (14)
عاجزٌ أنتَ، يا أبولّوُن! لا تَحـ
ـمي ذِماراً، ولا تَرُدُّ اعتداءَ (15)
* * *
يا أبولّون! أنت خُنثَى، ولن تلـ
ـحقَ شَأْوَ الفحولِ، إلا ادِّعاءَ (16)
وحسودٌ، قد أرَّثَ الفشَلُ الدَّا
ئِمُ، في غَوْرِ صَدرِك، البُرَحاءَ (17)
وَيْكَ! هلا جرى بك الحظُّ مجرا
هُ، ومرَّت بك الحياة رُخاءَ؟
هُزْأةً عِشْتَ، يا أبولّونُ، للنا
سِ، وأُفكوهَةً، تُساقُ ازدراءَ
أخُمولٌ، وحاجةٌ، وانفرادٌ؟
تَبَّ عَيْشاً! بل تَبَّ هذا فَناءَ!! (18)
لن ينالَ الحياةَ إلا كَفافاً
مَن قُصاراهُ أن يعيشَ رِياءَ
* * *
مُدَّعٍ أنتَ، يا أبولّونُ لا تَغْـ
ـلِبُ ضِدّاً، ولا تُجيبُ نِداء!
أتَحدَّاك هازئاً، لا أباليـ
ـكَ، وإن كنتَ لا تَبُلُّ طَحاءَ (19)
لستُ مِمَّن إذا تَخَيَّفَهم با
غٍ، تراخَوْا عنه، وشَدُّوا بِطَاءً!
أنا مَن أرغَمَ الخصومَ، وأسقا
همْ كؤوساً من الهَوانِ، مِلاءً!
غيرَ أنِّي أرى خصومَة أمثا
لِكَ، للنُّبلِ، والسُّمُوِّ اجِتواء (20)
أتُراني إذا تحديَّتُ مطعُو
ناً، يُمرّض فيه الحيا والإباءَ؟
اِنطلقْ سالماً، فأنت هزيلٌ
مُسْتَخيسٌ، لا تُمسك الحِرباءَ!
لستَ نِدّي، إذا المفاخرُ عُدَّت،
وإذا مَجَّد الكرامُ الوفاءَ!
أنا أغلى دَماً، وأضحى جبيناً،
إن دَجَت ظُلمةٌ، وأعلى بناءَ!
أنا مَن أسهَرَ العيونَ، ومن ردَّ
قلوبَ الحسَّاد عنه، ظِماءَ
لستُ بالكاذبِ المُسِفِّ، وَمَن أصـ
ـدَقُ منّي، مَوَدَّةً، وعِداءَ؟
أنا مَن يفتدِي المودَّاتِ بالرُّو
حِ، ومن يَسحَقُ العدوَّ مَضاءَ!
أنا هَولٌ!! من الحقيقةِ، يرميـ
ـكِ، بنارٍ، تُزيلُ عنك الطَّلاءَ!
والعَداواتُ، يا أبولّونُ، لا تر
حَمُ، إن مَشَّ جَمرُها الضَّعفاءَ
* * *
جاحدٌ أنتَ، لستَ تَغفُلُ عنّي
لكريمٍ ولا تعدُّ جزاءَ!
كم أظلَّتك، من سحائبِ جَدوا
يَ، هَوَامٍِ، أصبتَ فيها الشَّقاءَ؟ (21)
فتناسيتَها، صنيعَك في كلِّ
جميلٍ، يُسدِي إليكَ البقاءَ
صَنَمٌ أنتَ، حَطَّمَتْه يدُ اللَّـ
ـهِ، وأصْمَتْ عبّادَه السُّخفاءَ!
وإذا أنتَ للعيونِ قَذَاها
جَلَّ مَن شانَ هذه السَّحناءَ!
نبَذَتكَ الحياةُ، والناسُ، والحـ
ـظُّ، وأنعِمْ به، عقاباً سواءَ!
حيث تَنسَلُّ، أسخطَ الناسَ مرآ
كَ، فأصلوك نظرةً شزراءَ!
لا تُرى غيرَ قابعٍ، مُنغِضِ الرَّأْ
سِ، تُعاني من الهوان عَفَاء!
يا أبولّون، إنّ فُقَّاعةَ الشِّعـ
ـرِ خليقٌ أن يحمل الأعباءَ!
عش مريضاً، أو مُت بغيضاً، وهَل أشْـ
ـبَهَ، من عاش مثلَك، الأحياءَ؟
هذه شارةُ النَّوابغِ مِن قبـ
ـلِك، فافخرْ بها وتِهْ خُيَلاءَ
إنَّ مَن يَجهلُ التهكُّمَ والسُّخـ
ـرَ، غَباءً، يدعوهما، إطراءَ!
* * *
يا أبولّونَ! عاصفٌ أنا، لا يَعْـ
ـبأ فلاً، ولا يخافُ سَراءَ
أنا ليلٌ، يغشاك بالهول، والظلـ
ـمَةِ، واللّيلُ يُفزِع الجبناءَ
أنا للجارِمين موتٌ، ولا غَرْ
وَ، فَقِدماً أوطأتُكَ الرَّمضاءَ
أنا من زيَّف الأباطيل تزْييـ
ـفَ قديرٍ، يرمي السِّهام غِلاءَ
أنا واللَّيلُ، منذ كنتُ، شبيها
نِ، جَلالاً، وقوةً، وحياءَ
نَتساقى الإلهام، والشِّعر، والحكـ
ـمَةَ، والفنَّ، والهوى، والسَّناءَ
في سكونٍ أضفى الضّمورُ عليه
ألقاً من نقائهِ وصَفاءَ
لا كَمَن حاولوا الحياة نقيقاً
واستقلّوا سبيلَها ضوضاءَ
فجهادُ المبرّزين فِعَالٌ
تتحدَّى بصمتها البلغاءَ
ينطِقُ الدَّهرُ، دونها، ويذود الـ
ـنقصَ عنها، ويُرخِص الفحشاءَ
وسجايا الكرام غُرٌّ بَواقٍ
تتهدَّى بها النفوسُ ضياءَ
وهجائيك، يا أبولّونُ، أبقا
كَ، ولكن مبعثَراً أشلاءَ (22)
فتعهَّدْه بالتلاوةِ، والدَّر
سِ، ونافسْ برزقك اللّؤماءَ
فهو خُلدٌ حَباكَه حظُّك العا
ثِرُ، شِعراً، يؤجّج البغضاءَ
19 ذي الحجة 1355هـ
2 مارس 1937م
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :464  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 142 من 169
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.