شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(7)
ولم يطل مقام حسن إلى جوار قريبه أكثر من عدة أيام؛ ثم عاد إلى المدينة التي كان يقيم بها.. قريبه سافر إلى جهة بعيدة عن الأقطار العربية ليشفى فيها.
عاد حسن إلى المدينة، وأسرع من توّه إلى بيت صديقه وفي نفسه أن يقابل فتاته، وأن ينعم بقربها في الأيام القليلة، الباقية لعودته إلى مكة.
كانت لا تبرح ذاكرته.. في كل الأيام التي قضاها إلى جوار قريبه المريض.. كان يتخيلها في كل نأمة يسمعها، وحركة يصغي إليها.. وكان كل ما أحس بوقع قدم في الصالة المجاورة تتنبه حواسه، ويتبادر إلى نفسه أنها تخطر في طريقها إليه.
وكان إذا استعاد يقظته الحالمة، وثاب إلى رشده بين الفينة والأخرى، أنحى باللوم على رجولته المائعة، وسهولة القيادة في اتجاه لا يعرف مقدار ما فيه من زيف؛ أو حقيقة.
كان يقول لنفسه: إنها معجبة بيقظة روحي، مفتونة بمهارتي في البحث. ومثل هذا الصنف من الناس لا يتعشق إلاّ المثل متى يهدف إليها.. فإذا صادفتها غداً شخصية أخرى تجيد ما لا أجيد من أفانين الرأي.. استطاعت أن تملك أسارها، وتقودها بعيدة عني. فهي لا تعشق الأشخاص ما تعشق مثلها فيهم.
على أنني لو استطعت اليوم أن أهتبل فرصة إقبالها على تقديري. فطلبت يدها في فترة افتتانها، وإعجاب أبيها بي، واستطعت حيازتها.. فأي سبيل أسلكه بها.
إنني وثيق الصلة ببلادي.. لا أستطيع العيش في غيرها فإذا تركتها في بيتها تنتظر زيارتي سنوياً.. فإني لا آمن على هذه الروح المتحررة أن تنطلق بحثاً وراء مثلها؛ وفي هذا من السمو الفكري بقدر ما فيه من الخطر العاطفي.
أما إذا قبلت، وقبل أبوها أن تصحبني إلى بلادي. فإن مشكلتي ستكون أعقد من أن تحل.
ستجد نفسها أصبحت تعيش في بيئة.. أشد تحفظاً مما تشكو منه في بيئتها.. بين أمها وبنات جيرانها ستجد نفسها محاطة بأسوار منيعة بين الحريم، وسوف لا تجد في كل من يحيط بها امرأة واحدة تستطيع أن تفهمها، أو تهضم لوناً واحداً من الألوان التي تعالجها.
ستجد نفسها محبوسة لكتابها، وسوف لا أجد من أوقاتي ما يصلح للتفرغ لها.. أو بالأصح ستأسرني بيئتي وتقاليدي، وسيصرخ الشمم المدسوس من ألف سنة في وجداني مهيباً بي: أن أحفظ عليك زوجك، ولا تتركها عرضة للأفكار الخطرة التي نناقشها.. سأنسى عندئذ فلسفتي في حرية الآراء، ولا أذكر من حقوق فتأتي الزميلة إلاّ أنها زوجي المصون بكل ما عرفه أجدادي من معاني الصيانة.
وعندئذ ستصحو من غفوتها، وترى أنها ذات حقوق منكورة وراء أسوار الحريم، وزوج متنكر لكل آرائه في فلسفة المجتمع، وكتاب تقرأ فيه بحوثاً تعذب روحها.. لبعد الفرق بين ما يقوله الكتاب وما تمليه حياة الواقع.
هناك حيث تقوم المشاكل، وتتعذر الحلول سيتعين عليّ فراقها.. رأفة بروحها المعذبة أو الإمساك عليها رضاء لأنانيتي. وفي الأولى فقدان راحتي؛ وفي الثانية ظلم من أحب.
كان يحدث نفسه بكل هذه المعاني كلما استيقظ وثاب إليه رشده، ثم لا يلبث أن يغمره هيامه.. فيعطل ملكته في البحث، ويسوقه إلى أجواء فيها من الشعر والخيال ما لا يستقيم معه منطق، ولا يجول فيه عقل.
وفي غمرة من الغمرات التي كان يهيم فيها انتهى إلى دار فتاته بعد أن أعد عدته للقائها، ورتب في ذهنه جميع المعاني التي تناسب اجتماعهما.. إلاّ أنه ما كاد يخطو إلى الشقة التي تسكنها حتى فوجئ بالباب محكم الإغلاق، وسمع البوّاب يخبره بانتقال العائلة إلى أحد مصايف أوروبا.
وكان لا بد له من خدم يحملون الماء، وآخرين لخدمة الحجاج ونقل أمتعتهم، وغيرهم لصنع القهوة والشاي وتقديمه إليهم، وغيرهم لمساعدته في تطويف الحجاج. فاستحضر كل هؤلاء وقام على نفقتهم وإطعامهم مدة أيام الموسم.
ووصلت أفواج الحجاج مكة فكتب حسن مذكراته يصف فيها الأيام القادمة وقد جاء فيها:
الجمعة 25 ذي القعدة
وصلت إلى جدة إحدى بواخر الحجاج من أسبوع وكنت قد تلقيت من حاج عزيز عندي خطاباً يذكر فيه إنه سيستقل هذه الباخرة.. فعنّ لي أن أقدره بمقابلته على رصيف جدة.
ليتني لم أفعل.. فإن ذهابي إلى الرصيف سبب لي ألماً لا يطاق، وتركني أصاب بمرض تقاضاني، ولا يزال مبلغاً كبيراً من المال كثمن للعلاج، واستشارة الأطباء، عدا ما قاسيته من الآلام.
ذلك لأن عزيزي الحاج خرج إلى الرصيف يسأل عن مطوف غيري يتبعه من رفاقه أربعون شخصاً تابعين له.. فدارت الأرض بي، وشعرت بما يشبه السهم الحاد ينفذ إلى صدري.. فلم أتمالك أن استندت إلى إفريز في الرصيف يقيني الوقوع.
وانتقلت بعدها إلى مكة حيث لازمت الفراش معلولاً إلى اليوم، ولا يزال الطبيب يعاودني. وقال لي: إنك شديد الحساسية؛ ولولا عناية الله لأشرف بك ما أصابك على الموت.
والواقع أنه لا وجه للغرابة في ما حدث.. فقد كان الحاج الذي ذكرت من أفضل أصدقائي، وقد سرني اعتزامه على الحج في هذا العام.. لاعتمادي على إخلاصه لي، وعنايته بمساعدتي.. فقرأت وإياه الفاتحة على الطريقة الشائعة عندنا وبت واثقاً من وفائه.
ولما وصلني كتابه الذي عين فيه السفر، وعدد الحجاج الذين سيصحبهم معه.. داخلني من السرور ما داخلني! وكان قد كلفني بإعداد غرف له ولرفاقه كما كلفني بشراء خمسة سرر ليختص بها مع بعض صحبه.. فأعددت كل ذلك، ولم أتوان في شيء مما طلب.. فلما انهارت آمالي في لحظة واحدة، وضاع سدى جميع ما أنفقته. لم يكن غريباً أن أصاب بما أصبت.
وقد علمت فيما بعد أن الحاج العزيز غرر به رفيق آخر؛ وقال له: أن مطوفك فقير الحال، وليس له وجاهة تفيدنا عند اللزوم. فاقتنع، وتبع ناصحه إلى المطوف الآخر، وتبعهما جميع رفاقهما. ومن الغريب أن عزيزي لم يكلف نفسه إلى اليوم أن يعودني في مرضي، وأكبر ظني أنه خجل مما حدث، ولم يستطع مقابلتي.
الاثنين 27 ذي القعدة
بلغ عدد حجاجي إلى الأمس قريباً من المائة، وكانت مشكلتي في سكناهم لا يستهان بها. فإن الدار التي استأجرتها لمدة الموسم تكلفني ما يوازي ستمائة ريال عربي للغرفة الواحدة، وقد عولت على أن أكون صريحاً معهم فكنت كلما وصلت فرقة إلى بيتي، أوضحت لها قيمة استئجار الغرفة فلا يلبثون أن يتركوها وكنت أعوج بهم إلى بيوت غيري من الجيران، فلا يجدون أثماناً تقل عن هذا المستوى، فيتركونها متذمرين. وهم معذورون فيما يتذمرون.. لأن مستوى العيش في بلادهم غير مستواه اليوم في بلادي، ومثل هذه الغرفة لا يزيد ثمن إيجارها لشهر واحد عن 50 ريالاً عندهم، ولكن ما حيلتي في هذا وكيف أرضيهم.
إن مستوى العيش في بلادي جعل صغار الموظفين يتناولون خمسة أضعاف رواتب مثلهم في الشرق العربي، وجعل أجرة الخادم تعادل مثل ذلك. فإذا ارتفع سعر اليد العاملة، وارتفعت بارتفاعه جميع الأثمان والأجور، فما ذنبي أنا؟
كان بعضهم يقسو في الحديث معي لأني خيبت أمله في ما رأى، والبعض الآخر يصرخ في وجهي لأن غيري من المطوفين وعده في مصر بأن لا يتقاضى منه ثمناً للسكنى إلاّ أقل من نصف هذا المبلغ، وهددني بعضهم فقال: إذا كانت الأسعار في بيتك وعند جيرانك لا تقلّ عن هذا المستوى، فإننا نستطيع أن نلتحق برفاق لنا عند مطوف غيرك فنضع متاعنا عندهم، ونكتفي بسكنى المسجد فكنت أخاف هذا التهديد.. لأن التحاقهم برفاق نزلوا عند غيري من المطوفين يهدد مركزي كمطوف، ولا يبعد أن يكون مقرهم بعيداً عن مقري.. فيكلفني التردد عليهم من المشاق ما يكلفني!
لهذا رأيت أنه لا مندوحة لي من التساهل. فكنت أرضيهم، وأفتتح لهم أبواب غرفي، وأعرض عليهم السكنى تاركاً لهم تقدير القيمة بما يشاؤون.
وفي هذا من الإجحاف بمصالحي ما لا يقاس به إجحاف، لأن نازل الأتيلات في بلادهم لا يتنازل عن قرش واحد من السعر المقرر. وللنزيل أن ينقلب إلى حيث شاء. فلماذا لا أكون في مثل منزلته؟ فأقف من زبوني موقف الأبي الذي يعرض أسعاره المقررة، ولا يسترضي أحداً من أجلها ولا يكلف جيبه الخاص ما ينوء به؟
إن كانت المسألة مأساة تسبب فيها غلاء البيوت، وارتفاع المستوى فما ذنبي في هذا؟ وإن كانت أوضاع المهنة غير المنظمة تكلفني ما لا يجوز أن أتكلفه.. إغراء لزبوني، وتملقاً حتى لا يسيئ سمعَتي. فما أحوج هذه المهنة إلى تنظيم جديد يجعلها غنية عن الإغراء والتملّق، ويرفعها إلى مصاف سائر المهن التي كانت أقل من مستواها.
الخميس 2 ذي الحجة
يتردد علي في الرحبة التي نظمتها بالمقاعد والكراسي، وجعلتها شبه منتدى يتلاقى فيها حجاجي.. عجوز من جيراني يسمونه أبا صادق.
وأبو صادق خفيف الظل، رشيق الحركة، لا تفارقه عصاه التي يقبض على أحد طرفيها ويعبث بالطرف الآخر أو ينكت الأرض به كأنه فتى لعوب بالرغم من سنه الذي يتجاوز الستين.
وهو مهذار لا يكفّ عن الحركة، قصّاص لا يمل الأحاديث والحكايات، نقّاده لا يتورع عن التعليق بطريقته في أي مناسبة على أي شيء يراه.
كان يعجبني فيه أنه حركة دائبة لا يجلس إلى رحبتي بين الحجاج حتى يحيل الرحبة إلى منتدى عامر بالطريف المضحك والظريف الشائق.
قال لي مرة: وقد تربع فوق أحد المقاعد وأخذ يخلل لحيته البيضاء بأصابعه الغليظة.
- الله يرحم أيام زمان.. يا حسن.
- ليه؟
- ها! قلت لي ليه.. أنت عارف الزقاق اللي جنب الطاحونة، اللي على يدك الشمال وأنت داخل الحلقة.
- أيوه عارفه.
- تدري أن أبوك الله يرحمه كان يسكن هناك قبل ما يجيبك؟
- أيوه أدري:
كان أبوك يجولوا الحجاج وهو ساكن هناك.. ينزل الحجاج ويأخذهم دغري على الحرم يطوفهم واللي منه، ويجيك راجع بهم. وما يوصل البيت حتى يرسل كل بشكه مع واحد صبي يدور لهم بيت.. ناس يطلعوا على زقاق الجبل. يلتقوا البيوت هاوية ورخيصة، وناس يرسلهم على خالتك عيشه اللي كانت في الفرن الفوقاني.. يلتقوا جنبها قِيع وصنادق، وناس اللي شويه محترمين يرسلهم مع عمك قاسم إن كان تعرف عمك قاسم.. يشوف لهم بيوت غالية جنب الحرم.. ما كنت أشوف هادا الغلبة اللي أسمعها دحين، ولا كمان هادا الهرج الزايد والناقص..، كان أبوك يقعد على الكرسي اللي حيلته في الدهليز، والحجاج رايحين جايين من جنبه.. هادا يصبح عليه، وهادا يضرب له مجرى، وهادا يقول له ادعي لي يا عم (صالح)، وهادا يقول له الله لا يحرمنا من حياتك.. فين هادا الحال الشيء اللي أنا شايفه اليوم.. أنت يا أخي حتي قيمتك شايفها مكسورة، وأشوفك طول النهار بين رجولة الحجاج كأنك صبي قهوة.. الله يرحم أيامك يا عم صالح.. دا كان بطل إذا قعد في صدر المحل عليه هيبة.. كأنه شيخ قبايل.
- أيوه صحيح يا أبو صادق.. الحقيقة كل شيء اتغير؛ لما كان أبويا يرسل كل بشكة مع صبي على جهة.. كان يعرف أنه لازم كل حاجي يمد رجله على قد فراشه.. لكننا دحين ما عاد نعرف كده، المطوف يعبِّي بيوته وكلها جنب الحرم، وأنت عارف اللي جنب الحرم كلها بيوت غالية.. حتى لما يجي الحاجي يبغي بيت على قد فلوسه.. ما يلتقي في الوصلة اللي ساكن فيها المطوف شي رخيص.. أما أول كان أكثر المطوفين منشحين في الشعب، وسوق المعلا، وجرول والمحلات البعيدة الهاوية.. علشان كده الحاجي الفقير يلتقي لو قاعه في جبل أو حوش، والحاجي الغني يقدر يقرب جنب الحرم، وياخد له بيت زي ما يعجبه.. هادي الحاجات كانت مريحتهم..
وهادي الحاجات خلت أبويا كان سيد على نفسه.. لا أحد يُهينه، ولا أحد يزعله، ولا يزعل أحد.. وما كانوا المطوفين كتير زي اليوم.. علشان كده كانوا الحجاج يكفوهم ويزيدوا.. كان الواحد يراضي الحاجي والحاجي ما يتبغدد عليه.. ليش؟ كان اللي فيها يكفيها، والدنيا هادي زي ما يقولوا أهل العرف: ((عرض وطلب)) تعرف يعني إيه (يا أبو صادق) عرض وطلب؟
- لا يا خويا.. أمي ما ودّتني كتّاب.. أنا أعرف أن المطوفين أبَّهاتكم كانوا في العين المليانة وبس!
- واحنا؟
- لا ما هو عاجبني حالكم.. ويا خويا الصبي اللي كان عند أبوك كانوا يحشموه الحجاج أكثر مما يحشموك أنت.. كان أحد يقدر يخاصمه، وإلاّ يزعق في وجهه.. لا وحياة ربك كانوا معاه بغاية الكمال.. وأنت اليوم ما أشوفك إلاّ مجربد كأنك قهوجي مو مطوف.. ماني داري يا خويا الدنيا صار فيها إيه.
- (يا أبو صادق). بدي أقول لك. لكن منت راضي تفهم.. اسمع مني وأنا أفهمك.
- طيب قول يا سيدي.. وإن كان تبغاني أقول بدالك حسن.. أهل المتل يقولوا: اللي يسوي نفسه قمامة.. بتبعتروا الدجاج!
- الله يسامحك إحنا قمامة؟
- لا والله ما كنتوا قمامه.. ولا أنتوا دحين قمامة، لكن ما عمال يبعتروكم؟
- إلاّ يا سيدي.
- طيب خلاص.
- لا مو خلاص، حتى تفهم ليش سرنا كده؟
- طيب قول.. بس لا تجيب هرج المدارس اللي ما نفهمه.. أهرج عربي وأنا أفهم منك. لا تلوع لي في الكلمة زي الهرجة اللي قلتها أول: عرض، مدري مو عرض مدري إيش قلت لي؟
- قلت لك: عرض وطلب!!
- أيوه يا سيدي هرجة ملولوة.. عرض وطلب كلام ماني فاهمه أول من آخر.. هِيَّا جاتنا المدارس ولحقنا خير؟ لا وحياة ربك!!
- هو هادا اللي بطال فيكم.. اسكت قليل علشان تفهم إيش أقول لك:
- طيب يا سيدي أديني سكت قل لي أنت!
- أنا أقول لك: أنت ما تشوف السوق نهار يكتر فيه العيش ويزيط، يفضل العياش يصيح بقناقن رأسه وينادي على الزبائن، وكمان ينقص قيمته.. بس يبغى الزبون ما يروح من عنده؟
- أيوه يا سيدي.
- طيب، ولما انقطع البحر ديك الأيام، وسار العيش في السوق قليل. ما كان العياش منفوخ والناس تترجاه علشان يبيعها ولو بزايد.
- إلاّ. سار على هادا، وياما سلمت على راس الأعور داك.. الواد حسونه علشان يرضى يبيعني قرص واحد.
- طيب ليش هادا؟
- أيوه أنا فهمت دحين.. مقصودك المشي لما يكتر ما يسير له قيمة، وإذا قلت تتعز.
- طيب قوللي كدا بالعربي من أول.
- أنا قلت لك بس أنت ما تحب تفهم.
- لا.. أنت قول لي الشيء إذا كتر يبْسَل، ويسير زي الهم على القلب، وإذا قل صار زي حب العزيز.
- هادا.. معناته هادا!!
- لا يا خويا هاداك هرج مدارس، أما أنا هرجي هرج مطاليق!
- طيب يا عم مطاليق!! أنت ما تشوف الجزاره؟ نهار يزيط اللحم بفضل الجزار يزهم عليك من وسط السوق ويترجى فيك.. يا هو.. يا عمي. أنا خدامك.. أنا ما أعطيك إلاّ شيء طيب.
- أيوه كل هذا تمام.. ونهار يشح السوق ولا يطالع فيك، يقعد في دكانه زي الأفندي والناس تترجاه.. هذا والله صحيح.. صحيح أنه فرق بين العرض اللي تقوله. ومدري إيش الكلمة التانية؟
- عرض وطلب.
- أيوه.. عرفت عرض وطلب.. وأنت ليش تبعّد؟ ناسي أيام الجمالة كانوا يكتروا في بعض السنين.. يجي الواحد فيهم يلصق فيك يترجاك تشوف له كروه؛ ولما تجي سنة ثانية ما فيها جُمال.. الله.. الله تعال وأتفرج الجمال سار ما يتهرج.
- لا (يا أبو صادق) أحسن من كده.. شركة السيارات اليوم قاعدة ست مدللة.. ليش علشنها مطلوبة ما في محل تروحه غير عندها.. ولا تنس ديك السنة لما كانت الشركة هادي مفرقة على شركات كتيره، وكانوا الحجاج قليل.. كانت كل شركة ترسل مديرها ألّين بيت المطوف.. يقول له: نحن في خدمتك، ويفضل رايح جي عليه.. أراد ربنا لمت نفسها، وقعدت معزوزة يجيها المطوف ألّين حدها.. وسرت تقول لأصغر واحد عليها: الله لا يحرمني من طيبك يا أبو فلان.
- هو هادا مزبوط.. الصحيح أنتو كترتوا هادي الأيام، وما عاد يسير عددكم إلاّ قد عدد الحجاج، وأخاف بكره الواحد فيكم ما يلحق الحاج حتى يشيل مداسه.
- وهادا رايح يسير.. وأرجع أفكرك.
- طيب خلصنا من دى.. قل لي كان أبوك يصلي العشا مع الحجاج، ويجي على بيته هو وهما ما يوصلوا البرحة حتى كل واحد على بيته يرقد، لا برزة ولا كلام فارغ ولا عمري شفته يسوي قهوجي ولا يسهرهم معاه طوال الليل.
جيتوا أنتو يا خويا طلعتوا فيها.. ما في إلاّ كراسي وموية تترش، وخدامين واقفين، وقهوجية رايحين جايين. ما أدري المرعة؟ وما أدري كيف يخارجكم هادا الحال؟ هو صحيح الواحد لازم يشوف ضيفه.. لكنكم زودتوها وكمان زودتوها.. أنا أسمع أهل اللوكاندات في الخارج ما يحطوا برزات للناس ولا يقدموا لهم كل شيء زيكم!
- لا (يا أبو صادق) في.. الخارج لوكاندات كبيرة.. تسوي برزات، وتحط كراسي لزباينها.. لكنك ما تطلب طلب لك، وإلاّ لجماعتك حتى تحط حقه قبل ما تقوم.
- طيب وأنتو ليش ما تسووا كدا؟
- يا سيدي قلت لك العرض والطلب.. ما دام نحن كتير، وعارضين نفسنا.. لازم ننافق للحجاج.. ولازم عند العناء الواحد ما يعرف إيش الخسارة.. يعرف أنه لازم يتملى بيته حجاج، واللي ينزل من السماء تستلقاه الأرض.
- طيب وآخر هادا الحال؟
- آخره؟ ما له آخر.. إحنا كل ما لنا نكتر ألين نسير بعدد الحجاج؛ وبعدين زي ما قلت لك الواحد يبهدل نفسه علشان يلحق حاجي واحد.
- وهادا مالوا دوا؟
- لو دوا والله.. لكن جماعتنا المطوفين خلاص ولفوا على هدا الحال.. وإذا -بكيت يبكوا معاك. لكن تقول للواحد فيهم تعال ندور طريقة تانية لصنعتنا يسيبك ويقوم. وإن جبت لهم أي فكرة جديدة شردوا منك؛ وقالوا لك هدا متفلفس أخسروه؛ وهادا مو غريب عليهم.. لأن الشيء الجديد دايماً يخافوا الناس منه.
- أيوه: والله أنا من الناس اللي ما يحب الشيء الجديد اللي ما نعرف له محلي الشيء اللي كان فيه أبوك وجدك.. إيش فكرك؟ أنا المدارس هادي حقتكم مبسوط منها؟.. لا وحياة ربك.. كان الواحد فينا لا يغلب نفسه في قراية ولا كتابة وأدينا عشنا يا سيدي.. وياما جرينا، ولمينا فلوس. وكان الواحد مبسوط 24 قيراط.
- لكن المدارس علمتك اليوم عرض وطلب وخلتك تفهم معناها.
- أيوه يا سيدي علمتني.. هأ.. يا علمتني.. سيبني يا شيخ بلا علمتني بلا غلب.
ثم قام أبو صادق يمشي، تتقدمه العصا عابثة في الأرض كما لو كان يحملها حديث في السن يلوح أطرافها في الفضاء ويلعب بها.
الجمعة 3 ذي الحجة
جاءني اليوم أحد الحجاج غاضباً يشكو من أخلاق الباعة في السوق.. اختلف معه في المساومة فبدرت منه كلمة أغضبت الحاج فاحتد واستشاط غيظ البائع فاشتد الخصام.
قال أحد الحجاج: إن أخلاق المكيين قاسية، وأنه لا ألطف من أخلاق أهل المدينة وأهدأ منهم.
قلت: إن الواقع في بعض باعتنا من الشدة ما يلفت النظر وإن زحام الموسم في أيام ضيقة، وشوارع أضيق، ودكاكين لا تتسع للتنفس في جو قائظ، تؤثر جميعها في تكوين الشخص وتربيته كما تؤثر في أخلاقه ومعاملته، وإذا أضيف إلى ذلك عنت بعض الحجاج وقسوة مساومتهم.
كان لذلك أثره الواضح:
وإخواننا أهل المدينة يبدو في أخلاقهم الهدوء في معاملة الحجاج في بلادهم، رتيب يتتابع فيه الفوج بعد الفوج، فلا تزدحم شوارعهم بالازدحام الذي منيت به مكة في أيام ذي الحجة، ولا يضيق باعتهم بالجو القائظ الذي تقاسيه مكة.
فإذا تأثرت أخلاقهم بما يحيط بهم فذلك شيء طبيعي لازم، على أن الشدة أو اللين في مكة أو المدينة ليست كل التعميم، فالفضلاء لا تخلو منهم مدينة وأضدادهم كذلك إلاّ أن هناك شائعة درجت مع الأجيال تتحدث بهدوء أخلاق المدينة، وقد تركت أثرها في كل زائر وحاج، فإذا هبط الحاج والزائر البلاد وقد توطنت في واعيته الخفيّة أنه ملاق الهدوء في المدينة والشدة في مكة فإنه سوف لا يلقى إلاّ ما توطن في وعيه وسيفسر كل حركة عابرة في المدينة باللين..كما سيفسر أختها في مكة بالشدة.
ولا جديد في هذا فعقيدة المرء تؤثر في مرئياته.
ونحن لا نشك في أن إخواننا في المدينة يستحقون الغبطة على ما ربحته سمعتهم. وليس لنا إلاّ أن نتمنى إلى الله أن يمنحنا مثل هذه السمعة، وأن يعيننا في الأيام الضيقة والزحام الخانق والحر القائظ الذي تنفرد به بلادنا دونهم حتى لا تتأثر به حياتنا.
السبت 4 ذي الحجة
ما أغرب بعض الأفكار الشائعة عن الأهالي في هذا البلد!
جاءني اليوم من يقول إن أهل بلدكم لا يرشدون أحداً إلى ما يسأل. ولست ألوم الحاج على ما أظن، فقد رسخت هذه الشائعة في أذهان بعض الأجناس الوافدة وتوطدت في أفكارهم كما كان الشأن في الشائعة السابقة.
وإذا كنت لا أريد أن أبرئ جميع الأهالي من الأخطاء فإني لا أريد كذلك أن أغفل شأن ما يرسب في واعية الحاج قبل هبوطه هذه البلاد، وأثره في تفسير ما يبدو أمامه على ضوء ما رسب في واعيته.
قلت للحاج: إن المدهش في هذا الأمر أن له جوانب فيها ألوان من الطرافة تستحق البحث.
هناك الحاج الذي يسأل سقاء يصادفه عن طريق كذا، وهو يعتقد أن السقاء من أعرف الناس بالجهة التي يسقي فيها أو يسأل خادماً من أتباع المطوفين، أو بائعاً متجولاً أو صبياً في أحد الحوانيت.. وهو يظن أنهم من أعرف الناس بما حولهم، لأنه لا يدري أن جميع هؤلاء غرباء مثله هبطوا المدينة من جبالهم في أيام المواسم لينتفعوا من خدمتهم فيها وسيغادرونها غرباء كما هبطوها.
وقد يسأل الحاج حلاقاً في صالونه، أو طباخاً في مطعمه أو حلوانياً في دكانه.. وهو لا يستطيع أن يدرك جهل هؤلاء بما يسأل وهم أصحاب مؤسسات يراها.. لأنه لا يدري أن كثيراً من هذا النوع غرباء مثله يفدون إلى البلاد، ويستأجرون الدكاكين من أصحابها لمدة مؤقتة. فإذا اعتذر أحدهم للحاج ظن أنهم من مكة، وأنهم لا يساعدون الغرباء.
على أن بعض السذج من الحجاج قد يصادف حاجاً مثله من الترك أو الهند، أو عربياً من أطراف الجزيرة. فلا يستطيع لسذاجته أن يفرق بينه وبين صاحب البلد. فيمضي إلى سؤاله حتى إذا لم يجد ضالته امتعض وراح يعتقد أن الأهالي في مكة لا يرشدون.
وشيء آخر يستحق لفت النظر. ذلك أن كثيراً من المطوفين ينتقلون في أيام الموسم من بيوتهم المعروفة في جهاتها. إلى بيوت أخرى قريبة من المسجد. في وسط لا يعرفه أحد فيه، لقرب عهده بالجهة. فإذا استطاع الحاج أن يعرف إنساناً من مكة، وسأله عن مطوفه. كان الاسم غريباً على المسؤول. فلم يجد ضالته. وربما عرف المسؤول الاسم. وتذكر سكناه الأصلي في أحد أطراف مكة، فأرشد الحاج إليه إرشاداً خاطئاً، فراح الحاج يعتقد أن أهالي مكة لا يرشدون؛ أو أنهم في إرشادهم يكذبون.
مثل هذه الألوان لا يأخذها الحصر لو استطاع الحاج أن يتدبرها، وأن يخلص في الوقت نفسه مما رسب في واعيته الخفية عن موضوع الإرشاد في هذا البلد لاستطاع أن يصل إلى نتيجة بعيدة كل البعد عما فهم.
قلت هذا للحاج، وأسمعت صوتي إلى كثير من رفاقه. فاقتنع القليل ولم يقتنع الباقون لأن في مناقشة الأفكار الراسية من مخلفات الأجيال جرأة لا يقوى عليها إلاّ شواذ موهوبون.
الأحد 5 ذي الحجة
اتصلت اليوم بكل فرقة من حجاجي على حدتهم وأفهمتهم أنهم إذا أرادوا خياماً لعرفات. فإن كل فرقة عليها أن تدفع إيجار الخيمة وقيمة الأوتاد التي تكفيها، وأفهمتهم أنه لا بد لنا من (حوش) في منى، وصهريج فيه نملؤه بالماء، وأن يوزع إيجار الحوش، وقيمة الماء على مجموع حجاجي وعددهم 190 شخصاً. ثم استحضرت صاحب الحوش أمامهم، واتفقت معه على الإيجار وقيمة الماء..
وقد سئلت مرات عدة عن معنى إيجار الحوش؟ فأفهمتهم أن المناخ المجان في منى بعيد جداً عن مرمى الجمرات. ولذلك سيتعرضون لضربة الشمس في غدوهم ورواحهم. بخلاف الحوش الذي إذا وزع إيجاره مع الماء على المجموع. فسوف لا يكلف الواحد أكثر من عشرة ريالات. فوافق بعضهم، ولم يوافق الآخر.. وكانت مشكلة، لأن الموافقين أبوا أن يكون نزولهم في المناخ خوفاً من بعد الشقة في ضاحية النهار. كما أن غير الموافقين أبوا أن يدفعوا عشرة ريالات، فرأيت أني إذا سايرت كل جماعة على ما ترى، كانت النتيجة أن أشقى بين الأمكنة المتفرقة؛ ويشقون بهذا الارتباك. لهذا اضطررت للمجازفة. واستئجار الحوش وشراء الماء، وتركت النتيجة لتقدير الله، ثم لعطف الحجاج.
والواقع أنه إذا كان مفهوماً معنى استئجار الخيام، وشراء الماء، فمن المتعذر فهم استئجار الأرض التي تقام عليها الخيام في أحواش منى. ولكنه وضع البلاد الذي درجت عليه من مئات السنين، ولا مناص منه بعد أن وضع الناس أيديهم على أكثر أراضي منى، وأحاطوها بسياج، وجعلوا يستغلون إيجارها. واستغلالها قديم يرجع تاريخه إلى أكثر من ألف وثلاثمائة سنة (1) .
وقال لي فريق من الحجاج: إننا لا نحتاج إلى خيمة في عرفات ويمكننا أن نجلس في السرادق (الصيوان) الخاص بك. قلت: ولكن الصيوان يعد لاجتماع الحجاج عموماً. فإذا تركته لكم ملأتموه وحدكم وعددكم 25 شخصاً. فغضبوا لذلك. ولا أدري وجهاً لغضبهم لأن المفروض أن تستأجر كل فرقة خيمتها. وقد حاولت إقناعهم ولكنهم لا يقنعون. لأنهم يعلمون أنني في حاجة إلى استرضائهم. لهذا أصروا وأقسموا ألاّ يجلسوا إلاّ في الشمس؛ فذهبت أرجوهم مسامحتي وأسترضيهم حتى قبلوا بعد لأي أن يتنازلوا في الانضمام إلى (الصيوان)!
تُرى ما الذي جعلني أقبل الدَّنية في أمري؟ وأطلب مسامحة من لا يرضيه الحق. أكثر ظني أنها مأساة هذه المهنة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :465  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 66 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الرابع - النثر - مقالات منوعة في الفكر والمجتمع: 2005]

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج