كانت الندوة حافلة بجماهير لا يكاد يأتي عليها الإحصاء. كانت تفِد من بطون الأغوار، وتتسلل من مهابط الوديان، في أشكال تمثل عشرات من قبائل الجن وسلالة العفاريت والمردة، وبعضهم كانت تنبت به الأرض في صور شتّى من حيوانات برية، وطيور، وحشرات كفيلة بأن تشيع الرعب والهلع فيما لم يألفها ويتعود الاختلاط بها.
ولا أكذبك أنه دار بخاطري ذكرى الحبيبة الأليفة ((هبوب))، فتمنيتُ لو أسعد برؤيتها، فلم يسعفني التوفيق. وجال في ذهني فكرة اختلاطها بهذه الأنواع من الطير والحشرات، ولم أستبعد وجودها متلبسة بإحدى صورهم، إلاَّ أنه لم يلحْ لي ما أجزم به، سلباً أو إيجاباً.
ورأيتني فجأة أستيقظ في أعماقي، وأهيب بنفسي أن تربأ بي من هواجس ليس فيها إلاَّ ما يطيل أمد شقائي ويعذبني.
قلت: ما يحملني على هذا التعذيب؟
وفي سبيل مَن.. كل هذا العناء؟
ما يمنعني أن أكبر على هذه الترَّهات، وأبتدع لنفسي في الغرام بدعة تتنافى مع هيام المفتونين، وصباباتهم، وليقولوا ما شاءت لهم مذاهبهم في الحب، وليقذفوا أحاسيسي ما وسعهم القذف. فأنا بهم أول الكافرين.
وشعرت في أعقاب هذه اليقظة أني أنشط من عقال، وأن لوعتي تتبدد في غير رجعة. فتنفست الصعداء. ولويت باهتمامي إلى منصة الأستاذ أرقب ما يقول:
أخي:
حال دون المضي في رسالتي عزيز من أصدقائي الجن، وافاني في الندوة الساعة، فشغلني استقباله عن إتمام الرسالة، فاعذرني.. وإلى الملتقى.