شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-43-
عشتُ أحبُّ المجانين، وأتودد إليهم، وتعجبني مناقشتهم، ويعنيني جداً أن أداورهم إذا اشتطوا، وأن أعيدهم إلى السياق كلّما طفروا. فما سر هذا التجاوب الروحي؟؟
أهي وحدة النوع ومشاركة الوجدان؟ أم أن في نفسي أغزر من ذلك وأعمق؟
إن وحدة النوع ومشاركة الوجدان لا تكفيان في رأي العقلاء لمثل هذا التجاوب.. لأن المشاهد بينهم أن كبار رجال العقل لا يتوادون إلاَّ إلى حد، وكذلك الشأن في أصحاب الأعمال الموحدة، فالصناع لا يميلون إلى نوعهم المشابه، ورجال السياسة لا يتجاوبون إلاَّ في غرض، والأدباء يختلفون باختلاف أمزجتهم، وأصحاب الآراء يتفاوتون بتفاوت مذاهبهم، وليس بين كل هذه الطوائف وأمثالها من العقلاء أي تجاوب إلاَّ ما اصطنعته المجاملة واقتضاه الأدب الكاذب.
على الرغم من هذا التجاوب العاطفي الذي أشعر به نحو المجانين، فإني أمقت مجنوناً واحداً في الحياة، وأحتقر سيرته التي شغلت العالم طوال قرون عديدة، وأجدف على الصيت الذي تمتع به عبر الزمان.
ذلك هو مجنون ليلى! إذا صحّت سيرته، ولم يخترع الرواة المختلفون شخصيته من خيال واهم.. فلقد أساء المجنون بسيرته التي تناقلتها الكتب إلى المجانين، وظل إلى اليوم عاراً يستاء لقصته كل مجنون ويغض طرفه خجلاً منها.
لقد استخذى أمام الحب، ومرّغ شخصيته في الأوحال، وأفنى نفسه في حياة ضالة سلّمته إلى العبث المقيت والهزء الساخر. وعهدنا بأسيادنا المجانين أقوى شكيمة وأرفع نفساً من هذا التبذّل.
أرادت القصة أن تجعله عاشقاً فضمت القصة معاني العشق، وحيكت من أوهامها وقائع أرادت أن تُسلّي بها القارىء وتثير شجونه بالبكاء والأسى، فأساءت إلى شخصية صاحبنا كمجنون، وأهدرت كرامته، وأرسلته عبر الأجيال مثلاً سيئاً للمجانين.
والقصة إن صحّت في شيء فإنما تصح في قصص الخيال ومبالغات القصَّاصين الكذبة الفجرة.
كنت أبحث موضوع المجنون (مجنون ليلى) مع أحد العقلاء فانطلق يدلل بقصته المشهورة على معاني الحب عندما تسمو فوق مستوى الحياة.. فقلت إن ما ترويه القصة لا يسمو بالحب فوق المستوى بقدر ما يهبط به إلى مدارك الهوان السافل، لأن الرضاء بالذل وقبول الانكسار، ونسيان الكرامة، لا يصح نسبتها إلى شيء مشرف في الحياة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :392  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 76 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.