شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-35-
التقيت في طريقي إلى العراق بمجنون نمسوي ينفق أمواله فيما يرهق حياته، ويحيلها إلى شقاء ناصب، ونصب أليم!!
التقيت به في قرية من نواحي حدود الأردن.. يستقيم بين يديها الطريق المعبد للسيارات إلى العراق.. ورأيت بعض البدو يحيطون به. وقد أناخ بحمله في ظل ربوة في القرية. فلم أستغرب كثيراً هذا النصب الذي يعانيه هذا الصنف من الأوروبيين في مثل هذه البوادي الشاسعة.
ولكن رفيقي أبى أن يستعذب الفكرة، وهاله أن يتكلّف مثل هذا الأوروبي الناعم مشقة السفر على ظهر دابة ترود به هذه الأصقاع الشاسعة، وتعرضه للقيظ القاتل، والدروب الوعرة، بين مسالك مجهولة، لا يتبيّنها إلاَّ خبير عاش في أحضانها، وتمرّن على قسوتها.
قال: أي لون هذا من ألوان الجنون يغري مثل هذا المتمدن ليحمل نفسه على مثل هذا المركب الخشن في مثل هذه الأصقاع القاسية؟ وأي لون من ألوان الجنون يزهده في هذه الغرف المريحة التي تقطع المسافات إلى غاياتها في طريق معبد حتى يتغافل عنها ويعدو إلى دابة وئيدة الخطى يضل بها في مفاوز لا تطرقها قدم، ويقتحم بها مسالك لا يأمن معها الضياع؟
قلت: وفي الأمر أبعد من هذا الجنون!! فإن صاحبك المتمدن ينفق في مسافاته البعيدة على مثل هذا المركب الخشن أضعاف ما تنفقه وأنت هانىء بمركبتك الناعمة في طريقها المعبّد.
قال: إذن فهو الجنون المطبق!! الذي كنت أسمع أساتذتنا يتحدثون عنه دون أن أفهمه.
فهم صديقي إذن معاني الجنون المطبق في تصرفات صاحبنا النمسوي الذي يشق على نفسه ويكبدها النصب في مسالك وعرة ما أغناه عنها لو عقل الحياة، وفهمها بالأسلوب الذي يفهمها به أمثالنا من عباد الله الغافلين!!
وعلمت فيما بعد أن صاحبنا النمسوي ترك بلاده من خمس سنوات، لأن مجاهل الشرق كانت تناديه، ليزور مغاورها، ويدرس طبائع أرضها، ويخالط الممالك القائمة على تخومها، وأنه عرض نفسه في بلاده على بعض الجمعيات التي تُعنى بمثل أمره لتساعده على نفقات هذه الرحلة بما يهيئ له الكفاف الخشن فلم تثق به أول الأمر حتى لجأ إلى صاحب دار للنشر يرجوه أن يقرضه ما يكفي أوده. فقبل منه على أن يتنازل عن حقوقه في نشر ما يدرسه لسنة كاملة.. وبذلك نقده الناشر ما ساعده على أمور المواصلات، وقنع الرحالة بما تسلم من نفقات ضئيلة يضرب بها في آفاق الشرق، وينفق منها ما يسد الرمق.
وقد طال إمعانه في آفاق الشرق.. فزار الأفغانستان والهند وكثيراً من بلاد الصين، ثم عرج إلى الشرق العربي فزار أصقاعه النائية ودخل صحاريه من جميع المنافذ.. محمولاً على محمل خشن، مصحوباً بزاد لا يكاد يسد الرمق.
وقد بر بوعده للناشر، ولكن ما كاد ينتهي من عامه الأول حتى انهالت عليه عروض سخية من أصحاب دور النشر، وكتبت إليه جمعيات كبيرة تكلفه أن يوافيها بما يكتشفه ممّا له علاقة باختصاصها.. فدرّت عليه أخلاف الرزق، وعرف الثراء طريقه إليه، فبات رصيده في البنوك محترماً، وحل محل الفقر غنى له قيمته بين أرباب المال.
إلاَّ أن أسلوب حياته لم يغير بتغيّر أحواله من الفقر إلى الغنى، وظل على أمره صديق القفار المجهولة، ينفق الكثير في سبيل ارتيادها ولا يبخل على مرشديه فيها بما يفتح أمامه المسالك المغلقة.
هذا لون من ألوان الجنون الراقية، استهوله صديقي واستنكر تجشم صاحبه للمتاعب المرهقة التي تغنيه عنها.
استنكر صاحبي هذا العناء وسمّاه جنوناً مطبقاً.. فمن لصديقي من يفنّد له غاية هذا العناء وأسرار نجاحهم فيه؟؟
إن أذهاننا تقصر في كثير من الأحيان عن فهم أسرار الحياة الراقية، فلا غرابة أن نهرف بما لا نعرف، وأن نقذف بالجنون كل فكرة لا تتسع لها إفهامنا.
سرّني كثيراً أن يضاف النمسوي إلى قائمة المجانين من أمثالي، وتمنيت ألاَّ يبعد جنوني عن مثل هذا اللون من أصناف المجانين، وأن يشتد إساري حتى أقوى على مجاراتهم فيما يهيمون!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :331  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 68 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج