شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-23-
كان ديوان الانتظار في عيادة الطبيب، غاصّاً بالمرضى.. وقد استبد ببعضهم القلق، وبرح الألم ببعضهم الآخر، وكانت غرفة المعاينة تأبى أن تنفرج إلاَّ بعد لأي طويل لتستدعي شخصاً أدركه الدور.
وكان الحديث بين المنتظرين لا يعدو شؤون المرض، وألوانه وآلامه. وطال الحديث حتى احتدم شيخ مسن كان يحتل ركن الديوان، وسمعته يتساءل في حنق: ((هل زادت أنواع المرض بزيادة الأطباء، أم أن شرور المدنية طغت، فزحفت علينا ويلاتها في أنواع منوعة من الأمراض))؟
ولم يواتني مزاج البحث في الخضم المستعر.. أمّا الساعة وقد أويت إلى فراشي الهادىء، فقد تداعت أمامي أركان البحث.
لم تزحف علينا الأمراض بزحف المدنية إلى بلادنا، ولم تزد أنواعها عمّا كانت قبل.. وإنما الطب الذي ضاق نطاقه، وقلَّ مزاولوه رغم تعدد (الدكاترة) الذين كنا لا نجدهم في بلادنا إلاَّ نادراً.
كانت تجارب المسنِّين من العمّات والخالات إلى الجدات تبيح لهن مزاولة الطب في حدود لا يأخذها حصر، وألوان لا يحصيها عدد.
كنّ يعرفن آلام البطن والصدر والظهر، وكنّ يفهمن من أنواع الحميات ما يعالج بالخل والنشاء وما يطفأ بالماء.
كنّ يحتفظن في بيوتهنّ بالجنزبيل، والنانخة، والفلفل الأسود، وعقاقير غيرها يعرفن مزاياها وخصائصها.. ولا تستعصي وصفاتها عليهم إلا في القليل النادر.
وكان المسنُّون من الآباء والأجداد يفهمون من أصناف الأمراض، وأنواع الوصفات ما يقوم مقام جزء كبير من أعمال (دكاترة) الطب اليوم.
وكما أن رجال الطب يتخصصون اليوم في أقسام دون أخرى من نواحي الطب، فإن في كهول الجيل الماضي مَن كان يتخصص في نواحٍ ألِفها، أو توارثها من آبائه وأجداده.
وليس فيما كانوا يصنعون إقحام على مهن لم يدرسوا أصولها دراسة فنية وافية، كما يفعل أطباء اليوم، لأن تجارب الأجيال الطويلة قبلهم استطاعت أن تسلمهم آثاراً واضحة المعالم، وأن تنقل إليهم من أسماء العقاقير ما ثبتت خواصه وشاعت مميزاته.
وكانت تضاف في كل جيل تجارب جديدة تزيد في ميراث التطبيب، وتفتح على ممارسيه آفاقاً تمكنهم فيما يمارسون.. وليس الطب اليوم في أحدث كلياته إلاَّ علوماً هيأتها تجارب سابقة وأعانتها خواص كانت تتكشف عنها العقاقير كلّما زادت الحياة واتسعت آفاق الفكر فيها.
وإذا كان طب اليوم يمتاز بتنظيم الدراسات وتبويبها، وقيد شواردها بفصول نسق العلم صنوفها، وهيأها بحوثاً وافية فإن من أخطاء هذه الدراسات أن أدرج في قوائم طلابها في بعض الأحيان رجال لا تتسع أذهانهم لمناقشة ما يتعلمون في حصافة تهيئهم للتغلغل والاستنتاج.. فقضوا سني دراستهم طلاباً يتلقنون، وأعدهم التلقين لنوع من الشهادات تعوّد التلقين أن يمنحها في شتى نواحي الحياة.. ولهذا لا نجد طبيباً يجاري طبيباً.
يزاول الأول تطبيق ما تلقن على ما يعرض له من حالات المرضى، ويستذكر صنوف ما تعلم ليهيئ وصفاته في ضوئها، بينما يستخرج الثاني نتائجه من أحداثه الحاضرة، وتبيح له حصافته أن يشارك بعقله فيما يصادفه من جديد مشاركة لا تحدها قاعدة. ولا يقيدها تلقين.. فلا يرفع يده من فراش المريض حتى يترك أثرها مدوناً.
أمّا زميله فيبقى حيث كان لا تدل عليه غير لوحته، ولا تميزه غير الحقيبة التي يكلف أقارب المريض أن يحملوها خلفه كعنوان لمركزه أو شاهد لمهنته.
أمّا أصحابنا من أهل التجارب في الجيل الماضي فليس بينهم من يستطيع درج اسمه في قائمة (المطببين بالتجارب) إلاَّ إذا هيأته ذهنية ممتازة، تتسع آفاقها لشتات القواعد التي ورثتها الأجيال دون أن تقيدها دفاتر، أو تحصيها مذكرات، ولا يجاري أمثال هذا الشتات إلاَّ عقل له حصافته وله قدرته على مشاركة الحياة ومناقشة ما يصادفه فيها.
والطب في رأيي تشخيص وتجارب أكثر منه علم وقواعد.
لست رجعياً يلذ لي استجرار القديم لمحض قدمه، ولا متأخراً أشايع تطبيب الجهلة على كثرة أخطائهم.. بل كنت ولا أزال أقدر المجهودات التي تبذلها المعرفة، وأعرف قيمة البحوث التي عاش العلم يتابع دراستها، ويقيد قواعدها في فصول أوفى تنسيقاً.. وأبلى في سبيل ذلك خير ما يبلي المجاهدون في آفاق الأرض.
ولكني إنسان لا يجرؤ على نسيان الذهنية المحدودة التي تتجلّى أحياناً في تصرفات بعض مَن يحمل الشهادات العالية من الأطباء، وقصورهم أمام كثير من الحالات التي تتطلب الحصافة ونشاط العقل أكثر ممّا تتطلب من القواعد المحفوظة والبحوث المكتوبة، كما أنني لا أجد في نفسي ما يبرر غمط بعض أشباه الأميين الذين توارثوا كثيراً من التجارب، واستطاعوا، ولا يزالون يستطيعون، أن يشاركوا بعقولهم في بعض الحالات المرضية ويفيدوها عملياً من حيث عجز المتخصصون من أطبائنا.
أُصبتُ مرة بما يشبه السلس في بولي، فكنتُ لا أنتهي من التبول حتى أشعر أني في أشد الحاجة إلى استئنافه مرة أخرى، فأكابد في إرهاقه ما يؤلمني، وعندما راجعت الأطباء واحداً بعد آخر، تعدد تشخيصهم، وكثرت أوصافهم وعانى جيبي في سبيلهم ما لا أحتمل، دون أن تنالني فائدة أو ما يشبه الفائدة.
وعندما طال ترددي على بيوت الأطباء وعياداتهم وصيدلياتهم دون أن يبرق في أفقهم أمل، شكوت أمري إلى صديق كهل، تعود أن يزاول تجاربه بين عدد من الطبقات الشعبية فبادرني بضحكة صفراء، وأسرع في لهجة الشامت يؤنبني: ((إنهم جهلوا تشخيص المرض، فأخطأت وصفاتهم، ولو حاول واحد مثلي علاجك لتأففت وتكبرت)).
قلت: ولكن ليس لي أن أتأفف ولو على سبيل التجربة بعد أن أخفق طب الدكاترة.
قال وقد شرع يعبث بأطراف لحيته المدببة: ((إن ما تشكوه برد في المثانة لا يكلفك أكثر من أن تنقدني نصف ريال أبتاع لك به من دكان العطار بعض العقاقير التي تشيع فيك الدفء أول استعمالها)).
نقدته المبلغ، وتعاطيت الذي أمرني، ولم تمض إلاَّ نحو ساعتين حتى أصبحت في نهايتها لا أشعر بشيء ممّا كان يضايقني.
فكيف فطن الأميّ إلى تشخيص مرضي بعد أن عجز عن تشخيصه بضعة أطباء؟.. وأي معنى في هذا الدواء الذي لا يكلف أكثر من نصف ريال دون أن تشوبه (فيزتة) أو يسبقه أتعاب؟
ليس من يشك في أن للتجارب قيمتها التي لا تقل في كثير من الحالات عن القيمة العلمية التي يظفر بها بعض أطبائنا.
وليس من يشك في أن المران العقلي يهيئه للمشاركة في دراسة ما يصادفه من أحوال المرضى، ويعده لاستنتاج ما يتعذر استنتاجه على الأذهان المكدودة، أو الآفاق المحدودة.
أعود فأكرر أني لست رجعياً يشايع الأميِّة ضد العلم، ولكنّي أمام مدهشات، لا حصر لعددها لو أردت استقصاءها أمثال هذه القصة.
وليس لي من الجرأة ما يحملني على إحالة هذه القصة وأمثالها على الصدف، لأن تفسير معاني الصدف لا يتسع ليشمل أعمال المجربين من أمثال هؤلاء، وقد رأيناهم يبوبون أحوال المرض ويفهمون لكل باب أقساماً لها أعراضها وطرائق علاجها.
وهم بعد هذا لا يغالون لفنهم إذا سمّي ما يزاولونه فناً.. فحسب الرجل أن ينجح في رأي مريضه وأن يسدي إليه كلمة طيبة.
إنهم لا يبالغون في طلباتهم للأتعاب، ولا يرهقون مرضاهم بقوائم تعجز عنها الجيوب، ولا يطمعون أن تتعدد الأتعاب بتعدد المراجعات، أو تتجدد النفقات بتجدد الوصفات.. حسبهم لما يبذلون كلمة طيبة أو جعل محدود، أمّا وصفاتهم فلا تتعدّى مرة دكان العطار، ولا تخرج بنودها عن القروش إلاَّ في النادر.
هؤلاء أطباء الجيل السابق كانوا وليس لتعدادهم نهاية.. وكانوا لا يحدهم مكان أو زمان، فمنهم الممتهنون في مداخل بيوتهم، أو مجالس دكاكينهم.. ومنهم مَن تصادفه في الشارع، أو القهوة أو في طريقك للمسجد.. ومنهم مَن يخالطك في بيتك بين عماتك وخالاتك أو جداتك.
كل هؤلاء كانوا يتقاسمون المرضى في غير تكلّف، ويبذلون لهم من تجاربهم ما لا يتعسفون من أجله، أو يرهقون في سبيله الجيوب لهذا كانت العيادات العامة إذا وجدت لا تغص بالزحام الذي تغص به العيادات اليوم.
إذن فالأمراض لم تكثر لأن مدنية اليوم تغزونا، ولم تزحف علينا مساوئها بما نشكو من أوجاع.. وإنما هو التجديد الذي حدد لنا أبواب الأطباء، وتركنا نتزاحم في عياداتهم.
إن مرضانا يمكنهم أن يعالجوا ما يشكون بأوصاف شعبية يملكها العطار، ولا يزال يحفظ وصفاتها كهولنا وعجائزنا، ولكننا فقدنا الثقة التي كان يجدها آباؤنا عند مجربيهم، ونيطت آمالنا قسراً بأطبائنا الجدد.
إنه يكفينا لتخفيف الضغط على عيادات الأطباء أن نجرب ما يصفه عجائزنا، وألاَّ يلجأ اللاجىء إلى عيادة رسمية إلاَّ بعد أن يفقد الأمل ويعجز من الاستفادة.
ليس من رأي المجنون أن يهدم العلم قواعده، أو يلغي المتمدنون كليات الطب في جامعاتهم، ولكنه يتمنى أن تعرقل المساعي الشاذة فلا يظفر طالب الطب بمقعده في الكلية إلاَّ إذا تميّز بذهنية متوقدة، تناقش النظريات قبل أن تقنع بها وأن لا يتكبر العلم على مجرب ثبتت كفاءته، واستطاع أن يدلل على نضجه بوسائل فعالة لا تقبل الجدل.
تلك نزوة مجنون أرجو ألاَّ تثير الضحك في صفوف العقلاء، وأن تجد بعض الآذان التي تصيخ إليها عملاً بقاعدة ((خذ الحكمة أينما وجدت)) وقد وجدت اليوم بين شفتي مجنون!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :331  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.