شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هذه التبرعاتُ عِلّة تأخرنا
دعونا نمشِ.. ولا يكون المشي صحيحاً حتى تشمل حركته أهم نواحينا في الحياة.
ولعلّ فكرة تصنيع البلاد من النواحي البارزة التي تعتدُّ بها الأمم في نهوضها، وتُوليها من العناية أكبر قسط.. وعندما أقول ((لعلّ)) أُقحم هذا الحرف في غير موضعه المناسب، لأن التصنيع شيء لا غنى عنه للأمم، ولا يجوز بحال أن نسبقه بلعلّ؛ أو غيرها من حروف الترجّي.
لا ننكر أن في بلادنا اليوم طوائف ممتازة من رجال المال، وآخرين ممّن زحفت أرباحهم إلى مراتب الملايين في أرقام تستأهل الحسد من معاصرينا من الأمم، ثم لا ننكر أن طوائفهم لم تنل ما نالت إلاّ بعد الدأب والكد.. ولكن الذي ننكره أو نستنكره أنه دأب محدود، وكد لم يتجاوز مداه القصير.. إنه كد، وإنه دأب في مجال لا يكاد يتجاوز الاستيراد التجاري، ومثل هذا الكد لا يُفيد الأمم بقدر ما يُسيء إليها.
إن منافع هذا الكد تكاد تقتصر على خزائن المستوردين، أمّا مجموعة الأمة، وأما ثروتها القومية فإن ضررها من اتساع الاستيراد لا يكاد ينتهي عند حد!!
وإن الأمم الحيّة اليوم لا تبيح لموازنتها العامة أن تتوسع في بنود الاستيراد كما تتوسع في بنود التصدير، فهي تحاول جهد استطاعتها أن تضغط عمليات الاستيراد لتوفر لثروتها القومية أكبر قدر مستطاع من طاقتها.
قرأنا ونقرأ كثيراً أن بعض الأمم تحرِّم بعض الكماليات التي يستوردها تجارها لتصون بذلك ثروتها في حدود بلادها، ولتشجيع الأيدي العاملة في البلاد على تقليد تلك الكماليات؛ أو تُعلّم جمهورها الاستغناء عن رفاه صفيق لا يعوّضها ما تفقده من ثروتها العامة.
وسمعنا عن أممٍ أخرى تحارب حتى الضروريات المستوردة من خارج بلادها من مطعمٍ أو ملبس، لئلا يزاحم ذلك منتجاتها. فهل نستطيع أن نفكر في هذا؟
سنستطيعه إذا أراد لنا المتمولون ذلك.. إذا عرف المتموّلون كيف يوجّهون جهودهم نحو التصنيع، وعرف أصحاب الملايين كيف ينفقون ملايينهم في إنشاءات تدر عليهم الأرباح التي تعودوها، وتغني بلادهم عن الحاجة التي تُقيِّدهم للأجنبي المستغل.
إن إنشاء معامل للزجاج، والحديد، والجلود، والقماش، والخزف، والكبريت وكثير من مستلزماتنا الأولية في الحياة لا يُكلّف أصحاب الملايين منا إلاّ لفتة فيها شيء من العزم وشيء من الدأب اللذين جرَّبوهما فيما تناولوه من ميادين أعمالهم الواسعة.
يستطيع الرجل منهم أن يرصد من أمواله جزءاً لا تأبه له خزائنه الواسعة والحمد لله، ليُحيل هذا الرصيد إلى آلات جبارة تغني حاجتنا إلى صنف أو أصناف من مستلزماتنا اليومية.. التي بتنا ونبيت فقراء فيها إلى ما يصنعه الأجنبي ليتصدّق به علينا، ولا يكتفي حتى يستنزف باسمها ما نملك من ثروة في بلادنا.
إن في بلادنا من الحديد، والنحاس، والقصدير، والفضة، والذهب، والزجاج ما يهيئنا للغنى الواسع، وإن في بلادنا متموِّلين لا تعجز أموالهم عن تمويل أضخم مشروع من هذا القبيل ولكن ينقصنا أن نفهم هذا.
نحن لا نريد أن ننكر مستوانا العلمي كيماوياً، أو ميكانيكياً، أو جيولوجياً.. ولكننا نستطيع أن ندَّعي أن لدينا من الأموال ما نشتري به العلماء المتخصِّصين من آفاق الأرض.. كما نشتري الأيادي العاملة، والآلات المنتجة التي تكفي اليوم مؤقتاً لتأسيس نهضتنا آلياً. حتى إذا اندمجنا فيما نُنشئ تفتَّحت أمامنا الآفاق وسهّل علينا إنتاج العلماء والمختصِّين.
إننا نسمع أخبار المتبرعين منا لا بعشرات الألوف أو بمئاتها.. بل بأكثر من هذا وأكثر.. فهل جاء هؤلاء المتبرعين أن ثمة مجالاً أجدر بالتبرع، وأحرى بالكرم؟.. وأن هذا المجال هو مجال التصنيع الذي ينقذ البلاد من عسرها الذي باتت تئن تحت وطأته وآلامه؟
هل جاء هؤلاء المتبرعين أن عطفهم على فقر بلادهم في الصناعة والزراعة أقرب إلى مثوبة الله وإحسانه من كثير من تلك الميادين التي يختصّونها بتبرعاتهم في أرقام تدوي بها الصحف وتضج؟
هل جاءهم أن علَّة بلادنا في قرون هي التبرعات التي كان يغمرنا بها المحسنون في الإسلام؟ وأن هؤلاء المحسنين لو فكروا قبل اليوم في إنشاءات صناعية لأحسنوا إلى البلاد بتشغيل الأيادي العاملة فيها؟
سنقول إن كثيراً من موارد التصنيع الأولية لا تملكها إلاّ بلاد زراعية، وبلادنا غير زراعية، والواقع أنه ليس بيننا وبين الزراعة إلاّ أن ننشط لها، ونسلمها جزءاً من ملاييننا في نظام اقتصادي فيه من الإتقان والخبرة الفنية ما يضمن لنا نجاحاً مطَّرداً.
لقد جرَّب غيرنا إحياء الصحارى والقفار القاحلة، فأنتجت التجربة خصوبة طيبة وإنتاجاً عالياً، فما يمنعنا أن نُجرّب ما جرَّبه غيرنا ما دامت إمكانياتنا من المال لا تضيق عن مثل هذه التجارب أو أضعافها؟
لنحفر في كل بقعة بئراً، ونُقارب بين هذه الآبار في مسافات تضمن لنا الإنتاج الزراعي.. لنبحث عن المياه المغمورة، والعيون المطمورة، ونبني السدود حيث تتجمع المياه.. لنوزّع هذه الأراضي بالمجّان على من يُحييها، أو نعرض تأجيرها على المتموّلين بأسعار رخيصة مغرية، حتى إذا اجتمع لديهم ما يعوّض ما فقدوه، وربحوا من ثمارها ما يتكافأ مع ما بذلوا من جهد استعدناها، وأعلنّا بيعها على مَن نثق في كفاءته الإنتاجية.
إذا توسَّعنا في هذا، وبذل المتموّلون منا أموالهم في سخاء منظَّم، وفي ضوء الخبرة الفنية المستحدثة في آخر ما انتهى إليه علم الزراعة من ابتكار.. فسنظفر بنتائج تُغنينا غداً عن كثير مما نستورده من مواد طعامنا، وسنستطيع في أحد الأيام أن نقف إلى جانب مَن يُعاصرنا من الأمم موقف الندِّ للندِّ، وألاّ نبيح لهم أن يشمخوا أو أن يُعيِّرونا بفقرنا إلى ما يُصدِّرون إلينا من طعام، أو أن يُملوا علينا إرادتهم إملاء الغني الذي يشعر بحاجتنا إليه ويعرف مقدار فقرنا إلى ما يُنتج.
وإذا توسَّعنا فيما نزرع فسوف لا نعجز في المستقبل عن إيجاد المواد التي نفتقدها اليوم لتبقى على أسسها مجداً صناعياً يُهيِّئنا لمواجهة الحياة، ويُعِدنا لمسابقة الأمم التي سبقتنا في أشواط واسعة.
إن خطوتنا الأولى إلى إحياء الأراضي الزراعية رهينة بيقظة الوعي في صفوف المتموّلين في بلادنا وهم كثير، واقتناعهم بأن ما يبذلون من أموالهم في مثل هذا السبيل أفضل بكثير ممّا يبذلونه باسم التبرعات لتكتب الصحف عن أسمائهم وتُدلِل عليهم بالأرقام الخيالية التي يسخون بها.
ترى ما شأن بعضنا بمئات الألوف من الجنيهات التي يسخو بها لقاء فن يحييه على هامش الحياة، وأمامه هذه الحقائق العملية في صميم الحياة لا يُعيرها عنايته ولا يوليها بذله السخي؟
وإذا توسَّعنا فيما نصنع كما نتوسَّع فيما نزرع، استطعنا أن نُثبت وجودنا وأن ندعم كياننا، وأن نعتمد على الإنتاج الزراعي كمواد أولية في وجوه صناعاتنا المتعددة، وأن نسخِّر جبالنا ورمالنا للإنتاج الحي الذي يُثبت خطانا.
فهل يعي المتمولون مقدار حاجتنا إلى بذلهم في أمثال هذه المجالات؟ وهل يُقدِّرون مبلغ ما أُنيط بهم من آمال بلادهم وأمانيها؟؟
نؤمل أن يسمعنا المتموِّلون وأن يُهيئونا.. لنمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :332  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.