شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عندما تخطئ الجماهير!!
أعرف شاباً كانت تبدو عليه بعض أعراض الهوس في صورة هادئة رتيبة، كان أول ما أخذت تبدو عليه هذه الأعراض لا أميزه عن غيره من العقلاء إلاّ بلمحات خاطفة أستبين آثارها عرضاً في حديثه في بعض الأحيان.
كان يتراءى له في هذه اللمحات أنه يتمتع بشجاعة لفت النظر، وأن من الغبن أن يتجاهلها أقرانه وزملاؤه، ولا أستبعد أنه أسرَّ بخلجاته هذه إلى نفر من أصدقائه في شكل بريء ساذج فلم يصادف منهم مخلصاً يعني بهذه الظاهرة عليه وموقفاً يحاول علاجها في شكل حاسم لأن الجمهور في العادة لا يعنى بشيء ما يعنى بالتسرية عن نفسه وتسليتها بالغرائب المضحكة.. وهو إذا صادف طرفاً منها تمنى لو استطال ومد في أمره ليمعن في التسلية ما يسعه الإمعان ويغرق في الضحك ما وجد سبيلاً إلى الإغراق.
على هذا النحو اغتنم أصدقاء صاحبنا فيه هذا الوهم ووجدوا في موضوعه مادة خصبة صالحة للتسلية والترفيه عنهم فشجعوا فيه الوهم، وطفقوا يحدثونه بالكثير الذي يغريه بنفسه ويخدمها فيه حتى استوت أمامهم على مر الأيام رجلاً جديداً له جميع صفات المجنون وتأمل حركاته.
ومضت أيام كنت لا أرى فيها هذا الشاب، وجاءت أخرى فإذا صاحبي أمامي على باب دار خربة يشرع عصاه في الهواء ويضرب في وجوه من يتخيل ضرب البواسل من شجعان القرون الوسطى ويصيح: هل من منازل فأفنيه، وهل من مقاوم فأبيد أثره وعلى خطوات منه شلة هائلة من صبيان الأزقة وقفوا يمثلون الفر والكر وأصواتهم تدوي بصيحات الضحك.
هذه إساءة أساءها الجمهور ممثلاً في نفر من أصدقاء هذا المسكين.. إساءة بذرت بذرتها يوم أن مدوا له في الوهم عندما تخيل من بأسه ما تخيل ولو أنصفوه وأخلصوا لصداقته لتضافروا على علاجه قبل أن يستفحل الداء. ولكنا أنانيون لا نعنى في مثل هذه الأحوال إلاّ بأنفسنا، ولا نبالي في سبيل تسليتنا والترفيه عنا بما نجنيه على مثل هذه الضحايا. فلا عجب إذا هيأنا مثل هذا المسكين للجنون ودفعناه دفعاً إلى مجال الصبيان بين الأزقة ليعبثوا فيه ما شاء لهم العبث.
هذا مثل مما يجنيه الجمهور: يبين لنا إلى أي حد نمعن في أخطائنا كمجموع ويبدو لنا في نتائجه التي رأيناها مقدار ما ترتب على هذه الأخطاء من إساءات.
وأعرف إنساناً آخر شغف بالوجاهة وأمعن في شغفه بها إلى حد كان له رد فعل خاص أثَّر في نفسه وتركها تعتقد وجاهته ومضى به هذا الاعتقاد أو إذا شئت فسمه الوهم في مثل هذا الدور الذي مضى فيه صاحبنا المجنون وصادفه من جمهورنا الطاغي ما صادف صاحبنا من قبل فهيأه لاختلال العقل لا لشيء إلاّ ليجعل منه مادة صالحة للضحك قابلة للترفيه والتسلية، وها هو اليوم يذرع أرض السابلة ويطوي أطوال الشوارع في أسماله البالية والناس ينادونه من كل جانب يرجونه أن يشفع لهم عند كبار الحكام وعلية أصحاب المناصب وهو يومئ برأسه تارة علامة الإيجاب وأخرى علامة الرفض كما يفعل المقربون من وجهاء الناس.
والناس في عبثهم سادرون تملأ ضحكاتهم أجواء الأفق، فأية جناية هذه التي لا نرعى فيها شروط الإنسانية والأخلاق وأية أخطاء التي نتضافر على ارتكابها في شكل جماعي كامل.
وأعرف مهووساً ثالثاً أغرم بالشعر وراح بيانه يفيض بالقصائد المجدة والأبيات المطولة مما يقاس الشطر منه بالسنتمتر ويقاس شطره الآخر بالكيلو في ألوان ليس فيها معنى منثور أو منظوم أو كلمة ذات مدلول ولكن هذا يأبى إلاّ أن يتخيل أنه في الطليعة وأن أساطين الشعر من مختلف جنسياتهم ليسوا إلاّ مستمدين أشعارهم من معانيه ويسرقها بعضهم من قوافيه.
وأكبر ظني أن شأنه أول من بانت عليه أعراض الوباء كان لا يختلف عن شأن صاحبيه اللذين أسلفت، وأنه لا أكثر من كونه فتى ينفر من أصدقاء قاموا بدورهم في إشباع وهمه وشاعريته وأنهم أغرقوا في ذلك حتى خدعوه عن نفسه وأغروه بها فأعدوه بذلك للجنون وهيأووه لعبث الناس وسخريتهم وتركوه يمضي على وجهه متمسكاً بين مجالس الأدباء في جيوب مزدحمة بالفاين والأوراق، يعرضها بين المكاتب والقهاوي ومترنماً بها نشوان وعاصفة من الضحك تتبعه حيثما حلّ وتشيعه في كل مرتحل وهو أكثر ما يكون مسروراً بهذا الضحك كما لو كان للضحك في رأيه معنى جديد من معاني التقدير أو دليل من أدلة الإعجاب.
قلت له مرة: انظر إلى الموضوع نظرة عقل وتفهم، إن جميع متاعبك في غير طائل، وإن جميع ما تسميه شعراً لا يمت إلى الشعر ولا إلى النثر بشيء وإن جميع الضاحكين حولك ليسوا أكثر من مترفهين يتسلون بالعبث بك فرأيته يطرق برأسه واجماً فتخيلت أني بدأت أؤثر فيه وأنه سوف لا يلبث في إطراقته هذه أن يستعيد صوابه في هدوء ولكني ما عتمت أن فوجئت بصيحة من زاوية في المكان ورجل يؤكد بأشد الكلمات قوة أنني حسود، وأنني أغمط حقوق النوابغ في لهجة أثارت عاصفة من الضحك في المجلس تنبه لها صاحبنا الشاعر فاعتدل في جلسته وراح يشاطرهم الرأي في حسدي ويقرأ عليَّ أبياتاً جديدة ارتجلها لتوه في الحسد والحساد في لغة ليس لها مفهوم.
وظل صاحبنا بعدها إلى اليوم لا يصادفني في الطريق إلاّ نظر إليّ نظرة ملؤها الحقد.
وبهذا كنت الوحيد الذي أحسد الشعراء وأغمط حقوق النوابغ في رأيه.
إلاّ أنها قسوة القلوب وتحجرها وإلاّ فأي معنى في تضافرنا على التغرير بالمخدوعين ودفعهم إلى مناهل الجنون، وأي معنى في صرف هذا المسكين عن العمل لما يقيم أود فقره وإلهائه بهذه الترهات الباطلة وهذا الإيهام القاتل إن لم يكن تحجر القلوب وغلظة الأكباد.
وأعرف كبيراً في مكتبه الخاص أجمع الملتفون به من أتباع وحاشية على إيهامه بالنبوغ الفائق والقدرة النادرة في جميع الفنون ما كان منها رياضياً أو علمياً أو إدارياً تزلفاً إلى حاجاتهم لديه ونفاقاً فما عتم أن اندفع في ما أوهموه اندفاع المغشوشين وراح يفترض لنفسه أكثر مما خيلوا له وشعر أصحاب الحاجات عنده بغرامه بهذا الوهم فأشبعوا رغبته وقالوا له من الإطراء الخادع والخداع الكاذب ما أنساه حقيقته.
وهكذا بات صاحبنا على جرف هار وأخشى لا قدر الله أن يهوي به في مهاوي الجنون.
إنه يقضي يومه يستمع في مكتبه إلى إطراء المادحين ومدح المزيفين، أو يتحدث عن نفسه بالهراء الذي يجد تأميناً من جميع الملتفين به لا يشوبه أي اعتراض.
هذه شواهد معدودة التمسناها من نوع واحد في وقائع الحياة لو شئنا وأباحت الصحيفة من حقولها ما نريد لعززناها بآلاف من أمثالها مما يثبت في مجموعه أخطاء الجمهور في الحياة.
فأخونا المهووس بشجاعته ورصفائه: المهووس بوجاهته، والمهووس بشاعريته والمهووس بنبوغه جنى عليهم الجمهور بغشه وخداعه.. جنى عليهم وقسا وكانت قسوة لا حدَّ لفظاعتها. جنى عليهم ومضى في أنانيته يخوض في دمائهم لأنه لا يعنيه مما جنى إلاّ أن يسري عن نفسه ما وسعته التسرية وأن يضحك ما اتسع شدقاه للضحك.
والطريف في هذا -إذا كان في القسوة ما يسمى طريفاً- أننا نستوي في هذا الإجرام شيباً وشباناً وأطفالاً، وأن عقلاءنا وأصحاب الوجاهة منا والمتعلمين والمتأدبين يشاركون الأطفال في مثل هذا العبث بمثل هذه المخلوقات الضعيفة -لطفك اللَّهم ورحمتك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :363  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 53 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.