شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
متى يستقيم الظل؟
قالت تحدثني:
نجحت بتفوق فاختار والدي أن ألتحق بكلية الآداب في بلد خارجي قيل أنه محافظ أكثر من غيره.
لم نكن مختلطين فتياناً وفتيات لأن مبدأ الكلية لا يحبذ الاختلاط ولهذا اختار أبي أن تضمني مثل هذه الكلية المحافظة.
ولكن مع هذا كان مدرج المحاضرات يجمع طلابها من الجنسين.. كانت صفوف البنات تحتل المراكز الأمامية لتأتي بعدها صفوف الفتيان فكان يتعذر الاختلاط إلاّ في الحالات التي يتعمدها الفتيان فيغتنمون فيها فرصة الخروج من المدرج ليتسكعوا حول البنات في ردهة الكلية أو بين مماشي الحديقة أو في موقف السيارات خارج الباب العمومي.
وكان يغيظني من بعض الشباب المراهق من ملاّك السيارات الخاصة تعرضهم لبعض الفتيات يدعونهنَّ للركوب تحت شعار توصيلهن. وكنا نفهم معنى هذا فيستنكر بعضنا أو يمقت ما يرى وربما ضحك آخرون في سخرية، وربما امتدت عيون تتابع ما يجري في غبطة أو حسد.
وأقسم غير حانثة أنني وأنا أشاهد ما أرى وأفهم معنى ما يجري من تعليقات زميلاتي كنت أشعر بالألم يعصر فؤادي. كنت أتساءل كيف يستقيم الظل والعود أعوج، وكنت في سري أهيب بأبي أين أنت يا أبي لترى هذه المباذل في كلِّيتك المختارة لمحافظتها وعظيم استقامتها.
وكان أدهى ما يدهيني أن لكلّيتنا مفتشة أوكل إليها مراقبة الفتيات فهي تتابع كل حركاتهن من أول خطوة يخطونها إلى الباب العمومي للكلية إلى آخر لحظة ينصرفن فيها إلى بيوتهن. ومن حقي أن أشهد أنه كان لا غبار على نشاطها وأنها كانت تتمتع بذكاء لا يعجز عن تفسير كل ما يجري بين عينيها ولكنها مع هذا كانت لا تتورع عن استغلال ما تفهم!!
كانت ربما مالت على أذنها زميلة لتلفت نظرها إلى أخرى مستهترة فلا تزيد عن أن تواجهها في ملامح صارمة لتقول: ((إني وراء الفكرة.. سأحققها.. وسأضع لكل حد نهايته)) ولكنها مع الأسف وبكل ما ثبت من حقائقها لا تتابع الفكرة إلاّ على ضوء مصالحها ولا تضع لنهايتها إلاّ الحد الذي يتناول جيبها.
ولقد قيل أنها اتهمت ذات يوم بتغافلها ولكن ثقة العميد ببراءتها وطهرها كانت لا تعادلها ثقة.
رأيتني أعيش على ضوء ما أرى في بيئة أشهد أنها كانت منحلة بصورة مقيتة لا تتفق مع ما شاع في سمعتها المحترمة في بيئات المحافظين، وكنت آوي إلى غرفتي في المنزل الذي اختير لي بين عائلة اشتهرت بتدينها ولا حديث لنفسي إلاّ هذه المفارقات العجيبة التي يحتقرها كل من يعتز من أمثالي بتربيته العلية. وكنت أهمس لنفسي بأن كل من أشاهد من المستهترات لم ينشأن في بيوتهن النشأة الفاضلة التي نشأتها في بيتي طاهرة الذيل بعيدة عن فجور الحياة ومباذلها الحقيرة.
* * *
على هذا المنوال عشت أحتقر كل مشاهداتي المقيتة وألعن في سري كل استهتار لا يليق ببيئة علمية يشرفها أن تحيا فوق كل هذه المستويات.
على هذا المنوال عشت في الكلية إلى أن كان ذات يوم!! ويا لهول ما كان!!
لا بد لي قبل أن أبدأ قصة ما كان أن لا أنسى تقديم نفسي.. فقد كنت جميلة بشكل يثير الفتنة وعندما أقول أن جمالي يثير الفتنة أعني ما أقول دون غرور، وبدليل أني كنت لا أحضر بين زميلاتي وزملائي حتى تتبعني العيون في نهمٍ لا يدانيه نهمٌ.. كنت أتبين هذا النهم الجائع لا في عيون الزملاء وحدهم بل حتى زميلاتي يتمنين لو تشبع عيونهن من هذا الجمال الفاتن ولكني مع هذا كنت أكبر من أن أحفل بما أثير حولي.
كنت ألاحظ أن بعض الزملاء يستجمع قواه في إصرار ليبادرني تحية الصباح ولكن مع هذا تأبى ألفاظه إلاّ أن تلتات وتضطرب فلا أزيد على أن أحرك شفتي بصورة لا تكاد ترى كأني أرد تحيته وأنا أنظر نظرة عجلى إلى عضلات وجهه وهي ترتجف لأتحول بوجهي إلى كرسي في يدي أو إلى زميلة تمد يدها لأصافحها بكبرياء وعجرفة لأني أعرف أنها ستزهو بين زميلاتها بأنها لمست يدي!!
كنت متكبرة وكنت متعجرفة وكنت أزهو في سري بما أرى لنفسي من مميزات التربية العادية حتى جاء اليوم الذي طرق فيه باب غرفتي.
كان طرقاً خفيفاً لا يكاد يستبين له صوت. ظننته أول ما سمعته طرق طفلة كانت لجيراني يلذ لها أن تعاكسني ولكني ما كدت أفتح الباب حتى بادرتني قامة ممشوقة في محيا جذاب تطل منه عينان ساحرتان.
لم يتقدم عن موقفه خطوة بل بادرني وهو يغض بصره في حياء ((هل تسمح الآنسة بإعارتي كتاب البلاغة أراجعه في ليلتي)).
درت على عقبي أبحث عن الكتاب في خزانتي فإذا رعدة تهز جسدي ارتعشت لها يدي وأنا أتناول الكتاب. وما كدت أقدمه وأنا أضغط أعصابي حتى أولاني ظهره وهو يحييني في أدب جمّ.
رعدة تهزني دون أن تكون لها أية مقدمات؟
إنه محيا جذاب لا أشك في هذا.. ولكن من أنا؟
ترى هل هانت عليَّ نفسي إلى الحد الذي باتت فيه البادرة تهزني بهذه الصورة المريبة؟.
ثم من هو هذا؟
أتراه من زملائي في الكلية؟
لا أستبعد هذا وإلاّ فما حاجته إلى كتاب تدرّسه الكلية؟
ولكن أيكون لي زملاء بالكلية دون أن تقع عيني عليه قبل اليوم؟
أتراه لا يعرف الكلية فابتكرها حيلة للقائي؟!
أسئلة ساورتني وشرعت تتلاحق وتتوالد بشكل أثار القلق في نفسي فمنعني مذاكرتي.. مرت الساعات يأخذ بعضها برقاب بعض وأنا لا هم لي إلاّ أن أسأل وأعيد وأزيد ما أعيد حتى تمادى الليل دون أن يفتح لي بحرف في واجبات الغد فأزحت كرسيَّ وأنا أهيب بنفسي: ما لي ولكل هذا وما علاقتي بشخص لا أعرفه إلاّ من حاجته إلى كتاب أعرته إياه. وأخذت سمتي إلى سريري على أمل أن أستغرق فيما ينسيني ما كان.. ولكن الوساوس أبت إلاّ أن تطرد النوم عن أجفاني وتعيدني إلى خضم صاخب!!
ترى من هو هذا؟
أزميل هو في الكلية؟
إذن فلماذا لا أراه؟
ألاعبٌ هو يحتال لمواجهتي؟
لا.. إنه زميل!!
أتراه لا يملك مثل هذا الكتاب؟
أتراه يملكه ولكنها لعبة الشباب؟
أسئلة كانت تأبى إلاّ أن تتوالد وتتوالد.. وأن تطرد النوم عن أجفاني.
وأوشكت أن تحل الساعة التي تعودت أن أتناول فيها إفطاري وأتهيأ للخروج إلى الكلية فساورتني نفسي أن أتباطأ في فراشي لأتأخر في خروجي فالكتاب لا بد أن يعود قبل موعد الكلية.
وما بي حاجة إلى الكتاب بقدر حاجتي إلى شيء أغالط في تفسيره بنفسي..
لا شيء أكثر من أن أعرف هل للشاب علاقة بالكلية أم هو يدرس في منزله؟ أم أن الأمر لا يعدو أسلوب شاب مفتون احتال للقائي.
أعترف أنها أسئلة كان يجب أن تكون غير ذات موضوع لو استعار كتابي أي إنسان عابر. فهل بدا في الأمر ما بدأ؟ بينما أتابع لأغالط نفسي وأبتكر لها ألف تفسير..
ثم ما هذا الوجيب في قلبي؟ تراه يعني أنني وقعت..؟
لا.. لا يجب أن يتمادى الأمر بي ولكن..!!
ولكن سأتباطأ رغم كل هذا لأعرف الجريء الذي استطاع أن يقتحم عليّ هدوئي!!
وفي انتظار الجريء مرت الدقائق تأخذ برقاب بعضها حتى انتهت إلى ساعة زمنية وبدأ عقربها يتخطى الساعة إلى ربعها فنصفها وإذ بي مشدودة إلى الطرقة خلف الباب فلم يخفق صوت ينم عن طارق.
أتفوتني الحصص وأنا سجينة قلق لا أفهمه؟.. ما يمنعني أن أبادر الخروج إلى كليتي وإذا كان لا بد لي من فهم ما لا أتبينه ففي أروقة الكلية متسع لما أريد.
وما كدت أتخطى باب غرفتي حتى واجهتني الخادمة تلوح لي بالكتاب في يدها من أقصى الطريق تقول لي أن شاباً تركه هنا باسمك منذ ساعتين.
صعقت للمفاجأة وشعرت بدفقة ملتهبة تنبعث بين جوانحي فيتلظى بها سائر جسمي فلم أملك إلاّ أن أختطف كتابي من يدها وأتابع سيري..
ووقفت عند باب الكلية في حساب مع نفسي.. ما معنى أن أعاني شيئاً لا أفهمه أو بالأصح لا أريد أن أفهمه وإلاّ أصبحت منذ اليوم رهينة أوشاب كنت أمقتها وأجدف على أصحابها وألاحقهم بمقتي.
ولكن هاتفاً في أعماقي كان يهتف بي أن لا أجمد فمتعة النظر إلى اللوحة الجميلة تقشع صدأ النفس وتفتح مغاليقها على معاني الحياة فتطرد السأم وتبدد أكثر ما تعاني من ملل العيش الرتيب.
ويهرب الصوت بي من جديد كوني حيوية فتقدير الجمال لا يعني التبذل والخطوة الوئيدة العاقلة لا تعني الاستهتار وبراءة القصد لا تجر إلى وخيم العواقب إلاّ دنيء التربية.
وإني لفي وقفتي وإذا بقامته الهيفاء تخطر من بعيد متجهة نحوي فاستمسكت رغم الرعشة التي انتابت مفاصلي وهزت كياني.. استمسكت بكل ما أملك من قوى خشية أن تنم حركاتي إذا واجهني عن مشاعر لا أرضاها لنفسي. ولكنه ما كاد ينتهي إلى مفترق في الصالة يفصله عني بنحو عشرة أمتار حتى لوّح بيده يحييني وسألني هل تسلمت الكتاب؟ وما كدت أوميء برأسي بالإيجاب حتى كان قد اختفى في الممر الجانبي من الصالة.
وقفت حيث أنا أحاسب نفسي.. كان الطلبة يمرون بي جيئة وذهاباً يشير بعضهم لي بالتحية ويتغافل الآخرون كما لو كانوا يتصدقون على كبريائي بملامح جافية ولكني كنت غائبة عن كل ما يجري.. تتقاذفني أفكار لها قوة الموج المتلاطم.
ماذا حدا بي فيما بدا!!؟ أرهينة أنا منذ اليوم بما أمقت؟ وإذا كنت أحسبني أستطيع أن أتعامى قبل اليوم عن بعض ما أنست فليس لي أن أتعامى اليوم عما يخفق في قلبي ويرتعش له كياني كما لو كنت ريشة لا تتمالك نفسها في مهب الريح.
أعاشقة أنا؟؟ يا للهول!!
أراغبة أنا وكنت أكبر على كل راغب؟؟ يا للهوان..
وإلى من تشدني هذه الرغبة؟
أإلى شخص لا يدريني.. بل لا يهمه -فيما بدا منه- أن يدريني.. وإذا -درى فهل يجني كبريائي إلاّ المعرة وسوء السمعة وأن أصبح مضغة في أفواه كنت أمضغ سمعة أصحابها في سري.
اشتد الألم بي في وقفتي وكنت على عزم الدخول لأدرك بعض ما فاتني من حصص الدراسة فانقبض صدري دون ذلك، وتخيلت الكلية بما فيها ومن فيها وحشاً كاسراً فغر فاه ليلتهمني فأوليتها ظهري ورحت أعدو بعيداً عنها.
ولم أمض طويلاً حتى استوقفتني أفكاري: فيمَ هذا التوتر، وفيم هذه الحدة في أعصابي.. ما ذنب الكلية، وما ذنب دراستي.. بل وما ذنب الأخ الذي لا يعرف شيئاً عن لواعجي. إنه لم يخطئ في حقي لأن مبلغ فهمه أن علاقته بي علاقة كتاب استعاره وأعاده ولا شيء غير هذا.
إذن عليّ أن أعود إلى كليتي أواصل دراستي وإذا خدمتني الصدف فما علي إلاّ أن أقف منه ومن نفسي موقف المستبين!!
لم أحدد لنفسي نوع الاستبانة عندما استأنفت عودتي إلى الكلية ولكنني ما كدت أخطو وراء الباب حتى رأيت الطلبة من الجنسين منصرفين من المدرج.. رأيت بعضهم يتواكبون في زوايا الردهة المستطيلة يختلط فتيانهم بفتياتهم ويمضي آخرون إلى حديقة الكلية يفترشون عشبها جماعات وفرادى.
وقادتني قدماي إلى الحديقة على أمل أن يطفئ شذاها الرطب ما اشتعل بين جوانحي وما كان في حسباني أن تخدمني الصدفة التي رجوت خدمتها فيما يجب أن أستبين من أمره وأمري.
كانت قدماي تقودانني في تثاقل بين ممرات الحديقة وإذا يد تمتد إلى كتفي فتهزه هزة حانية. التفت فإذا سعاد زميلتي في الفصل تسألني فيمَ غيابي عن محاضرة اليوم فاعتذرت لها بدوار ألم برأسي منذ البارحة.
أخذت بيدي تربت عليها وهي تعلل ما أصابني بإجهادي في المذاكرة وراحت تصف لي مشروباً يخفف من آلامي.
وامتد بنا السير بين الحقول التي غمرتها شمس الظهيرة فبدا النبات يلمع في وهجها المشع وبدت الأشجار الظليلة تمد أفياءها هنا وهناك يتواكب الطلبة والطالبات في ظلالها.
ورأيتني أمد بصري تلقائياً إلى حيث يتواكبون كمن يبحث بينهم عن أمل منشود.. كنت أنكر على نفسي نشدان هذا الأمل ولكن القوة التي لا أعرف كنهها والتي قادت قدميَّ إلى الحديقة تأبى إلاّ أن تسوقني إلى مهب الريح.
وحانت مني التفاتة إلى البعيد من حواشي الحديقة فإذا (هو) في حاشية منها يتفيأ ظل دوحة عالية.. وإذا فتاتان تجلسان إليه في صورة لا تقرها قوانين الكلية ولا ترضاها لنفسها فتاة تقدر أنوثتها.
ودارت عينا زميلتي فإذا هي تلاحظ ما أرى.. وقبل أن تتلاقى عيناها بعيني كنت قد التفت إلى جهة أخرى غير الجهة لأبدو بعيدة عما تراءى لها!!
قالت وهي تشير إليه وفتاتيه ما أغرب أمر الفتيات وهن يترامين على هذا الشاب.. إنه محظوظ بصورة لا تبلغها نفثات ساحر.. إن الواحدة منهن أو الاثنتين لا تكادان تخليان سبيله حتى يقطع غيرهن عليه كل سبيل.
كانت ملاحظات تمر بأذني عابرة كما لو كنت لا أعرف لنفسي أية علاقة بما أسمع ولكني ما كدت أخلو بنفسي بعد لحظات من وداع زميلتي حتى دار رأسي مرة أخرى ومشت في مفاصلي رعدة محمومة..
أيكون نصيبي منذ اليوم نصيب هذا النوع من المستهترات.. أنا التي عشت أترفع عن كل مظنة وأتحاشى كل ريبة وأتكبر على كل من يلتمس قربي؟
ولكن.. أأكون صريحة مع نفسي إذا ادعيت أنني أملك من القوة ما أستطيع بها أن أتحاشاه وأترفع عن مستواه وأربأ بنفسي بعيداً عن مجاله الآسر!!
لا.. إنها أكذوبتي في الحياة.. وبت من ليلتي أهمسها إلى نفسي آلاف الهواجس وأفترض لمآتي أيامي الفروض وليس لكل ما افترضت مخرج واحد يكفل صيانتي.
وطرأت الفكرة أخيراً على صوت طائرة كانت تحلق فوق العمارة التي أسكنها فتنفست ملء صدري.
وما غابت الشمس حتى كنت أحتل مقعدي في أول طائرة تغادر البلدة إلى مدينتي وأنا أهتف من أعمق أعماقي سلامي على كل علوم الدنيا أو يستقيم الظل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :452  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 54 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج