شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من شهر لشهر
((الجواهري)): الشاعر الشريد والشهيد (1) ..
بقلم: د. عبد الله مناع
غُصّت إجازتي.. في بدء أيامها بـ ((نبأ)) وفاة شاعر العروبة: الشامخ والشجاع.. القلق والمتألق.. والـ ((شاب)) بعطائه وإبداعاته.. والـ ((الشيخ)) بسنواته وأيامه: محمد مهدي الجواهري. ولم تعنِّي شواطئ الإسكندرية.. وسيمفونية موجها.. ومتعة صحبتها.. على تجاوز تلك ((الغصة))، التي سرعان ما استقرت في حنايا القلب لوعة.. وحرقة.. وجمرة.. وهي تلتف بـ ((أكفان)) من الأسئلة التي لاح لي وبصري يرتد مسترجعاً أيام كبوات تاريخنا العربي ولياليه: من ((ابن المقفع)) إلى ((الحلاج)).. ومن ((ابن زيدون)) إلى ((ابن رشد)).. بأنه لا إجابة لها. أو عنها: لِمَ يُنف المبدعون من أرضهم وهم أحب الناس إليها.. وأكثرهم إحساساً بها.. وأقدرهم على التعبير عنها وعن آلامها وآمالها؟ ولِمَ يعيشون.. وأوطان الغربة وديارها تتقاذفهم: تقيلهم ساعة.. وترفضهم أخرى.. وتسخط عليهم ثالثة؟ ولِمَ يموتون في النهاية غرباء، وحدهم.. لا وطن يودعهم ولا قلوب تحوطهم، ولا قبور تضمهم وتحنو عليهم..؟!
* * *
.. لم أغصّ بـ ((نبأ)) وفاته لأنه مات في شرخ الشباب وميعة الصبا وزهرة العمر كـ ((أبي القاسم الشابي)) الشاعر التونسي المتفجر الذي كتب قليلاً وعاش قصيراً وانطفأت شمعة أيامه وهو لما يتم الخامسة والعشرين بعد أن نفث في صدور التوانسة نفثته التي يمكن أن يقال عنها ـ بكل أمانة وتجرد ـ بأنها كانت الدعوة الأهم والأخطر لـ ((التوانسة)) لأن يحرروا أرضهم من مستعمريها، عندما صاح فيهم ((إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلا بُدَّ أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي.. ولا بُدَّ للقيد أن ينكسر))، أو.. لأنه مات في الأربعينيات كـ ((علي محمود طه)) الذي عاش ومات تحت الأشرعة البيضاء وفوق ظهور السفن وصدور الأمواج.. وهو يردد محزوناً: ((ملامح وادي النيل.. ألا أنه أغرته ـ بالتيه السحيق بحارُ، أبداً يطوّف حائراً، ترمي به أفق وتقذف دارُ))، أو.. لأنه مات في الخمسينات كشاعر الوطنية وفيلسوفها الفنان ((كامل الشناوي)) الذي كان محظوظاً رغم ذلك. فلم يبتلعه جوف العدم والصمت قبل أن يحتفل بخروج الإنجليز من مصر ويشيعهم واقفاً منتصراً: ((عرف الشعب طريقه ـ وحد الشعب بلاده. فإذا الحلم حقيقة ـ والأماني إرادة)).
.. ولم أغص.. لأن فسحة الأجل لم تمكنه من إفراغ شحنة عطاءاته وإبداعاته شاعراً وناثراً.. منشداً ومحدثاً، فقد عاش ((الجواهري)) عمراً مديداً.. طوى خلاله عقود القرن العشرين.. عقداً بعد عقد.. حتى قارب المائة عام.. فقد ولد في أول عقوده.. ومات في آخرها.. بالغاً من العمر أربعة وتسعين عاماً ميلادية.. وسبعة وتسعين عاماً هجرية. أبدع خلالها ما وسعه الإبداع.. وكتب بـ ((حرية)) وطلاقة ما شاء له فكرة هو إيمانه وحزنه ورؤاه: عاصفاً مزمجراً.. مقارعاً الظلم والطغيان.. محباً لوطنه الصغير والكبير، عاشقاً.. لـ ((رافديه))، مفتوناً بـ ((عراقه)) ونخيله وفراته.. إلى ذلك الحد الصوفي الأسطوري الذي تذوب فيه الفواصل والمسافات بين الأرض والإنسان.. بين حبة الرمل وحبة القلب، بين انسياب مياه النهر.. وتماوج أغصان النخيل، فلا تدري معه وبعده.. أيهم العراق.. وأيهم النخيل.. وأيهم الفرات.. وأيهم ((الجواهري))، تماماً كما قال: ((العراق، لساني.. قلبه ـ ودمي فراته، وكياني منه أشطارُ)).
* * *
وإذا كانت ((صورة)) شيخوخته الناحلة والصلبة.. الرائعة والضارعة في محراب الكلمة.. الآسية على ما مضى من الزمن الغابر والغادر والمتحدية لما هو آت منه.. المتناسبة لجراح السنين وغير المبالية بثقلها قد بهرتني وأمتعتني وأسعدتني كما بهرت وأمتعت وأسعدت المئات من شيوخ الأدب والشعر وشبابه.. ممن ضمهم مسرح دار الأوبرا في تلك الليلة القاهرية من ليالي أغسطس من عام 1992 وهو ينشد شعره واقفاً وعلى مدى ساعتين، بعد أن قدمه شاعر المقاومة الفلسطينية ((سميح القاسم)) تقديماً حميمياً عاصفاً أليق ما يكون به وبـ ((بركانيته)) وحممه الشعرية، فقد بقيت تلك ((الصورة)) لم تبرح خيالي، وقد استقرت: بين القلب والعقل.. بين الحب والإدراك، ناصعة بهية وكأنها جدارية فرعونية دافئة الألوان.. رشيقة الخطوط لـ ((الجواهري)) أو ((هوميروس)) الشعر العربي بملاحمه العديدة ولغته الفريدة وإنشاده المتدفق الذي لم يشاركه في بعضه إلا قلة قليلة من الشعراء.. يأتي في مقدمتهم ((نزار)) وفي أعقابهم ((مظفر النواب)).. أما ((أدونيس)) فقد كان ولا يزال ((يقرأ)) شعره الجميل والمختلف حوله من أوراقه وأحياناً من دواوينه.. ولا ينشده.. ثم توالت الأيام والشهور لأراه ثانية وبعد عام.. في احتفالية دار الهلال بمناسبة مرور مائة عام على صدور شهريتها الشهيرة والمعمرة ((مجلة الهلال)). لقد كان حضوره من أرض غربته عن العراق.. وهو يجاهد مشقة سنينه الثقال.. متكئاً على عصاه، معتمراً ((كوفيته)) العراقية المائلة.. تقديراً لـ ((مصر)) التي أحبته وأحبها وفتحت له ذراعيها في أول مشاوير اغترابه ونفيه.. واعتزازاً بمجلة العرب الأولى واعترافاً بفضلها ودورها التنويري العظيم، قابله أصحابها.. بأن جعلوا من المناسبة.. مناسبتين: الاحتفال بـ ((مئوية)) المجلة.. والاحتفال بـ ((عيد ميلاد)) ((الجواهري)) الخامس والتسعين..؟!.
ثم انطوى عام.. لأراه للمرة الثالثة والأخيرة في ((جدة)).. بعد أن شق عصا الطاعة على ((صدَّام)) ونظامه و ((بعثه)) أو نحسه. بتلبية دعوة ((الجنادرية)) لعام 1994م وإحيائه أولى أمسياتها الشعرية التي ما زال يذكرها مثقفو المملكة وأدباؤها وشعراؤها بـ ((نشوة))، رحيقها.. و ((جسرة)) فقدها. لقد استقبلت ((الرياض)) يومها.. ((أبا فرات)) الاستقبال الذي يليق به وبمكانته ومجده والذرى التي بلغها.. وعلى الجانب الآخر كان ((صدام)) في قصر الرحاب بـ ((بغداد)) يشتاط غضباً بـ ((عتهه)) ومحدودية إدراكه وعدم فهمه الذي تجدد يومها بأنه لم يكن ((وقفاً)) على ((السياسة)) وحدها عندما أصدر ((فرمانه)) بـ ((إسقاط)) الجنسية العراقية عن ((الجواهري)) وزميليه الشاعر عبد الوهاب البياتي والكاتب السياسي سعد البزار.. وكأن ((الجنسية)) العراقية.. أعطية يمنحها ويمنعها ((صدام)) بـ ((إشارة)) منه إلى ((مسرور)) أو ((مرجان))؟!..
في ذلك المساء ـ من يوم استضافته في (( اثنينية )) الأستاذ عبد المقصود خوجه ـ وبعد أن تم انتزاعه ـ رحمة به ـ من بين ضيوفها.. كنت أقترب منه لأرى اعروراق يديه. وتغضن جبينه، وتهدل جفنيه.. لكن خلف هذه المظاهر كانت ((صورة)) شيخوخته تلك الناحلة والصلبة.. الرائعة والضارعة.. الآسية والمتحدية.. المتعالية واللامبالية.. التي بهرتني منذ عامين.. لا تزال باقية وكما هي.. وكما عهدتها أول مرة.. وكما عبر عنها عندما رد على ((صدام)) بتلك الأبيات الهازئة به والساخرة من قراره..
* * *
نعم.. غُصّت ((إجازتي)) بنبأ وفاة ((الجواهري)).. التي جاءت وكأنها ((نهاية)) قدرية لعذاباته وأزماته مع السلطة في العراق: من ((نوري السعيد)) إلى ((صدام)).. والتي جعلته يعيش أكثر من نصف عمره طريداً مشرداً منفياً عن عراقه.. ونخيله.. ودجلته التي لم تسقط يوماً من قلبه والتي ظل يتغنى بها إلى آخر أيامه وكأنها قصيدته التي يعاود كتابتها بإنشادها في كل محفل:
((يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه
على كراهة بين الحين والحين))
((يا دجلة الخير، ما يغليك من حنق
يغلي فؤادي، وما يُشجيك يشجيني))
.. وأوطان الغربة وديارها تنهب عمره وأيامه، تعلكها وتلفظها.. من بيروت إلى براغ.. ومن براغ إلى بلغراد.. ومن بلغراد إلى دمشق التي مات فيها وحيداً.. ليدفن مع الغرباء في مدافن ((الغرباء))؟!.
فهل هناك ((غصة)).. يغص بها العقل والقلب أكبر من هذه..؟!
* * *
لقد عاد ((الجواهري)) آخر مرة إلى ((بغداد)) مع عودة ((البعث)) إلى الحكم ـ في عام 68م ـ الذي استهل مرحلته تلك بـ ((الوعود)) والأماني: باطلاق سراح المسجونين السياسيين ودعوة المنفيين وتأمين عودتهم إلى وظائفهم مستبشراً.. مطمئناً واثقاً من أنه لن يساق إلى النفي والغربة ثانية، وقد ضاعف من ثقته.. ذلك الاستقبال الحافل والحاشد الذي استقبل به.. وتلك الكلمات والقصائد التي قيلت فيه والتي هزته.. ليرد عليها برائعته الخالدة: ((أرح ركابك من أين ومن عثر كفاك جيلان محمولاً على خطر)) وخلال ذلك العقد ((السعيد)) من حياته.. نسج الإعجاب بين أحمد حسن البكر ـ رئيس مجلس القيادة وقتها ـ وابنه ((محمد)) من جانب.. والشاعر من جانب آخر.. أجل وأعظم علاقة يمكن أن تنشأ بين رجل دولة ورجل فكر، وهو ما فصل الحديث عنها الأستاذ خليل العطية في مقاله الذي نشرته جريدة ((الحياة)) بعد أيام من وفاة الجواهري، ولكن ولأمر لا يعرفه غير حقد صدام ودمويته.. فوجئ العراق ذات صباح من ربيع عام 78م بنبأ وفاة ((محمد)) ابن أحمد حسن البكر.. في حادث سيارة مؤسف (لا يحدث ذلك إلا في العراق.. ودائماً) فرثاه ((الجواهري)) ملتاعاً حزيناً عليه:
تعجل بشر طلعتك الأفولُ
وغال شبابك الموعود غول
وعندما زاره ((البكر)) شاكراً.. ومواسياً له (فقد ظل الجواهري.. وإلى أن مات.. يجهش بالبكاء كلما جاء ذكر ((محمد)) ابن أحمد حسن البكر كما قال الأستاذ العطية) فكتب قصيدة قال فيها:
((أبا الشعر قل ما يعجب الابن والأبا
وهل لك إلا أن تقول فتعجبا))
.. فلم يذكر ((صدام)) إلا في بيت واحد.. ومع ذلك اتصل به.. وتقرب إليه ودعاه لضيافته.. ثم بعد ذلك ومع أول قصيدة كتبها الجواهري ودعا فيها إلى إعادة وحدة الجبهة الوطنية بـ ((الصفح)) و ((التسامح)).. استعر عنف وعسف صدام بغير ((البعثيين))، وكان أول من أودعهم سجونه التي لا أظن أن أحداً في العراق قد نجا منها: ((أبناء الشاعر)).. الذي حاول الشاعر إنقاذهما عبر الهواتف التي قدمها له خلال ضيافته. فلم يجده ولم يجبه أحد. كبر همه.. وكبر حزنه.. وكان مخرجاً مناسباً لكرامته أن يصدر هو بنفسه ـ هذه المرة ـ قرار نفيه للمرة الثالثة أو الرابعة.. ولكنها الأخيرة على كل حال، ليموت بعد عشر سنوات.. وفي صدره آخر سهام صدام التي لاحقته في غربته: سهم إسقاط الجنسية العراقية.. عنه.
* * *
عاش ((الجواهري)) وسيعيش ((حياة)).. وإن مات ودفن ((جسداً)). وستبقى كلماته.. قصائده.. حصى يرجم بها كل عداته ممن حرموه حقه في وطنه.. وهو أحق به منهم، فقد أمضى حياته.. عاشقاً له، ولهاً به.. شاهداً على ما جرى ويجري فيه.. وشهيداً من أجله.
ويبقى السؤال قائماً.. إلى متى تظل العلاقة موسومة بـ ((الشك)) والاضطراب والريبة.. بين المثقف والسلطة.. في هذه الأوطان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1089  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 67 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.