شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من أوراقي الخاصة عن ((أبو ريشة)) (1)
بقلم: عبد العزيز أحمد الرفاعي
هذه ليست كلمة تأبين للراحل العظيم الذي فقده الشعر العربي الرصين.. ولو أردت حقاً أن أكتب كلمة رثاء لما استطعت، ولما وجدت من الكلمات والمعاني، ما أبلغ به ما أريد أن أوفي هذا الشاعر العملاق حقه من التأبين.
ولا أريد أن أنمق كلمات جوفاء.. مزخرفة لا تصل إلى أعماق القارئ ولا تهزه، إلا أن تحوز إعجابه من الناحية الشكلية.
ولن أكتب عن (عمر أبو ريشة) معلومات ذات بال، فلم تنعقد بيني وبين الرجل صداقة شخصية.. وإن كنت من جانبي قد اتخذته، من عهد بعيد، صديقاً روحياً، طالما بهرني شعره، وفنه، وقدرته الفريدة على الإلقاء المثير.
ولكني، رغم هذه الأشياء، لن أدع فقدانه الجلل دون أن أقول كلمة عنه.. مهما كانت متواضعة.. ولا أجد ما أقوله في زحمة الباكين عليه، إلا أن استجر ما تسعف به الذاكرة عن لقاءاتي الروحية والشخصية به.. أقدمها على علاتها، وعلى تفاهتها، فإن لم يجد القارئ فيها إضافة ما، فقد وجدت فيها أنا بعض التنفيس، وبعض التعبير عن إحساسي بعظم المصاب فيه.
حينما التحقت، محرراً متعاوناً، بجريدة (البلاد السعودية) التي كانت تصدر بمكة المكرمة، امتداداً لصحيفة (صوت الحجاز).. كان يرأس تحريرها أيامها، أستاذي وأستاذ فريق من الشباب (آنذاك) الأستاذ (عبد الله عريف)، الذي أصبح فيما بعد أميناً للعاصمة.. وكان من بين ما أسنده إلي من العمل، أن أكتب شيئاً عن الكتب التي كانت تهدى للصحيفة.. ولكن طلبت من الأستاذ (العريف) أن أحرز الكتاب الذي أتحدث عنه، فيؤول إلى مكتبتي الخاصة، لأنني لم أجد مكتبة للجريدة.. وقد رافق بسماحته المعهودة على هذا الطلب.
وذات يوم، وصل إلى الصحيفة، ضمن بريدها، ديوان شعر أنيق، بغلاف أصفر بعنوان (من عمر أبو ريشة.. شعر) فدفعه إلي، على عادته، كلما وصل كتاب أدب أو شعر.
وكانت شهرة الشاعر قد سبقت ديوانه.. فتلقيته مرحباً ملهوفاً.. وصحبته إلى داري.. وسهرت بصحبته.. على ضوء (الفانوس) وربما داخل (الناموسية).
كان ذلك في أوائل الستينات الهجرية.. ولم تكن أضواء الكهرباء، قد عمت البلد.
وبهرني ذلك الشعر القوي الأنيق، الذي قرأته ليلتها في ذلك الديوان.. ورأيت في شاعره، شاعراً فذاً لا يكاد يصل إلى مداه غيره من معاصريه.. وما زلت عند هذا الزعم، فقد اجتمع لشعره في ظني، ما لم يجتمع لغيره من الميزات.. ولعلّي كتبت شيئاً من هذا في مقال أو أكثر، نشرته في جريدة (البلاد السعودية)، تطبيقاً للاتفاق.
رأيت في الديوان شعراً بهرني بجودته، وتحليقه، وأناقة ألفاظه، وسلامة لغته، طرق أبواباً من الشعر، فاحتفظ فيها كلها بمستواه الرفيع.. ولعلّه في الوصف أكثر تحليقاً.. فقد وقفت طويلاً عند قصيدتين، إحداهما بعنوان (كأس)، والأخرى عن (كاليجارو).. الأولى، عن تلك الكأس العجيبة، التي جدلها ديك الجن، فيما زعموا، من جذاذ رفات حبيبته التي قتلها غيرة.. يتخذها للصبوح أو الغبوق.
أما الأخرى، فيصف فيها معبداً هندياً، يضم تماثيل عجيبة فريدة.
ظللت سنوات ألهج بذكر عمر أبو ريشة، وأمجد شعره، ولا يكاد ينقطع حديثي عنه.. ولعلّي استطعت أن أنقل عدوى إعجابي لنفر من أصدقائي الأدباء، أو المعنيين بالأدب.
لعلّ ذلك كان عندما كانت الخمسينات الميلادية، تدلف إلى ساحة الزمن.
فلما كانت سنة 1956م، التقيت عمر أبو ريشة، في مؤتمر الأدباء الأول الذي انعقد في بيت مري بلبنان، بسعي من الأستاذين صلاح لبكي، وصلاح الأسير، وكان هذا الأخير يرحمه الله، وهو شاعر رقيق، ممن اتصلت أسبابه بصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل، فكان أن دعم المؤتمر، واختار من أدباء المملكة شخصين أحدهما الأديب الكبير الأستاذ (محمد حسن عواد) يرحمه الله، والآخر شاب ناشئ أحسن الظن به صديقه الأستاذ (عبد الله الغاطي) مدير مكتب سمو الأمير.. فكان أن حضر هو الآخر المؤتمر.. مستمعاً.
عرفت ـ إذن ـ عمر أبو ريشة، عن كثب، وجلست إليه، فيمن جلس.
وإذا كان قد بهرني من قبل بشعره القوي الأنيق، فقد بهرني بشخصيته المتألقة.. فهو رجل طوال، وسيم، بشوش، معتدل القوام، أنيق اللباس، لبق الحديث، رائع الإلقاء.. كان أيامها يعمل في السلك الدبلوماسي، لبلده (سورية) وقد انتدبته دولته ليكون ضمن وفد بلده، أو لعلّه على رأس الوفد.
وكانت أيام المؤتمر ولياليه حافلة بالأدب والشعر.. وقد ضم وفوداً كثيرة، بينها من كبار الأدباء والشعراء.. منهم في وفد مصر: محمد حسين هيكل، وأحمد رامي، ومن لبنان الأخطل الصغير، و (مارون عبود) وغير هؤلاء.
كان رئيس جمهورية لبنان أيامها هو (كميل شمعون) وكان ضمن برنامج المؤتمر، حضور حفل رئيس الجمهورية، المقام على شرف المؤتمر، في قصر (بيت الدين).. وحضرت الوفود الحفل.. وكان (كميل شمعون) يبدو متألقاً: وكان محتفياً بضيوفه، ولكنه كان أشد حفاوة بعمر أبو ريشة.. وعلى مائدة الطعام، طلب منه أن يسمع الحضور شعراً.. بل لقد طلب قصيدة بذاتها، وألح في طلبها.. ولكن الشاعر الجهير وهو الدبلوماسي البارع، كان يتمنع.. ثم رأى أن يفتدي نفسه، بقصيدة جميلة له عن (لبنان) أخذ في إلقائها. بذلك الأسلوب الخطابي الفذ.. وذلك الإلقاء التصويري الرائع.. كانت القصيدة نونية.. وكان كل بيت من أبياتها يرشح قافيته.. فكنت أسمع الوفود.. ومعظمهم أدباء وشعراء، ينطقون القافية مع الشاعر، فلا يكادون يخطئونها.. وكأنهم في حلقة ذكر، حتى فرغ منها. فالتهبت الأكف تصفيقاً، وترددت عبارات الاستحسان من كل مكان، وانفض الحفل.. ولكن شيئاً بنفسي لم ينفض.. ما هي القصيدة التي طلبها رئيس الجمهورية، وأبى عليه الشاعر..؟ وكان حقه أن يستجيب.. هكذا تقضي اللياقة.. أما وأنه لم يفعل فلا بد أن يكون هناك سبب.. ولا بد أن يكون السبب قوياً.. وطفقت أتحرى، حتى علمت الحقيقة.. فإذا هي مذهلة.. لقد كان رئيس الجمهورية، يطلب من الشاعر، أن يسمعه قصيدة هجاء.. هجاء لمن؟ لكميل شمعون ذاته، قالها في سالف العهد والأوان، ولم يكن كميل آنذاك صاحب الفخامة رئيس الجمهورية.
كان هذا هو اللقاء الشخصي الأول بالشاعر.. ولكني عرفته في غمار الناس.. فلم أجلس إليه، ولم أتحدث إلا ما قد يتبادله الناس في مثل هذه الاجتماعات من مجاملات.. وكثيراً ما يستولي النسيان على هذه اللقاءات وإن ظل ذلك اللقاء، بالنسبة إلي، أكثر من النسيان.
وانصرمت بعد ذلك سنون.
وزار الشاعر الرياض، وكان معالي أخي الصديق الأستاذ (إبراهيم العنقري) أيامها وزيراً للإعلام، وأحسب أن الزيارة كانت بدعوة رسمية منه، وهو يعلم إعجابي الكبير بالشاعر ويذكر ما كتبته عنه وما ألهج به من ذكره.. فكان أن دعا الشاعر إلى بيته بالملز، للغداء.. واقتصر على نفر قليل. ليجعلها جلسة أدبية يحلو فيها الحوار، ينتظمها حب الأدب والشعر.. وجاءت جلسة لا تنسى.. تجلى فيها أبو ريشة.. حديثه جميل جذاب، وأدبه باهر، أما شعره.. فحدث عن الذروة ولا حرج.
روى من ذكرياته.. وأنشد من مختاراته.. ومن مبدعاته.. وكان يخص أصفياء الجلسة، بقصص بعض قصائده.. فيضم إلى متعة القصيدة، متعة قصتها.
وكان من عجائب الاتفاق.. أنه أورد بيتين من الشعر، أثنى على جودة الصورة فيهما.. وتمنى أن يعرف قائلهما.
وفيهما يصور الشاعر أخوة يتبارون في المجد والكرم، ويتقاربون كما تتقارب أصابع الراحة.
والبيتان جميلان في الصورة والمعنى.
وصادف، أن كنت مدعواً، في مساء اليوم نفسه، عند الأستاذ الشيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل، حيث دعا الشاعر المعمر الراوية/ الشيخ (أحمد الحضراني) فانتهزت فرصة اجتماعي به، وحاولت أن أعرف منه قائل البيتين، فأنا أعلم سعة اطلاعه وحفظه، ولم يكن في وسعي أن أورد له نصهما، فاكتفيت بالمعنى.. وذكرت له إعجاب أبي ريشة بهما، ورغبته في معرفة قائلهما.. واستمهلني الشيخ حتى يستحضرهما من ذاكرته، ومضى يتحدث فيما أخذ من حديث، ثم ما لبث أن توقف ليقول لي: اسمع يا فلان. إنهما لابن المعتز وهما.. ثم أورد نصهما تماماً كما سمعتهما من أبو ريشة. فعجبت لسعة اطلاعه وحفظه.. ولكن الشيخ أبا عبد الرحمن عندما أحضر ديوان ابن المعتز لم يجدهما فيه.. بيد أن الشيخ الحضراني كان يؤكد أنهما له.
ثم كان أن حضرت عدة أمسيات شعرية، تألق فيها الشاعر العظيم، وألقى مختارات رائعة من شعره المحلق. وكان ـ أحياناً ـ يقدم بين يدي أمسياته تعريفاً موجزاً بأسلوبه الشعري، فيذكر أنه يتخذ من البيت الأخير بيت (القفلة) وفي كل مرة كان إلقاؤه يأخذ الألباب.
أما آخر لقاء لي به، فكان مع بعض الأخوة في دار الصديق العزيز الشيخ (عبد المقصود خوجه)، فقد حضر، مشترطاً أن لا ينشد شعراً.. وكان خلال بقائه ميّالاً إلى الصمت.. وكأنه كان يحس دنو أجله.. ثم رحل إلى تلك الغيبوبة التي قضاها في المستشفى التخصصي.. ثم كان رحيله الأخير. تغشاه الله بفيض رحمته وغفرانه.
كنت أعلم أن أبو ريشة، كان في السنوات الأخيرة، يشتغل بنظم ملحمتين، إحداهما في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخرى عن الملك فيصل يرحمه الله، فقد كان الملك فيصل شديد الإعجاب به، يعرف قدره، ويكرم مكانته، ولا أدري أين بلغ به الشوط في ملحمتيه هاتين..؟
وبعد.. فماذا عسى أن أقول عن عمر أبو ريشة؟ لقد كتبت عنه مرات عديدة.. لا أقول مشيداً به، أو بشعره المحلق.. فذلك ما لم يضف شيئاً، ولم يعزز مكانته.. فإن القمة الشعرية التي استوى عليها لم تكن في حاجة إلى كلماتي.. ولكن كان لا بد من هذه الكلمة المتواضعة، تعبيراً عن الأسى لفقد هذا الشاعر العبقري الفذ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :488  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج