شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(94) (1)
وركبت صباح هذا اليوم ذبابة سوداء فوق أرنبة أنفي الأسمر المفلطح.. وأخذت بأسلوب الكبار للكبار.. على طريقة الفن للفن.. أخذت في وقوفها هذا الموقف تتفلى.. وذلك بأن ترفع يدها اليمنى إلى رأسها تحك بها موضع التفكير فيه.. لتضعها ثانية.. ثم لترفع رجلها إلى ما بين جناحيها وصدرها لإزالة الوضر عن الجناحين.. ولنبش المكنون في الصدر.. تتركه بقعة داكنة على أنفي للذكرى.. أو التذكار..
وأخذت بدوري موقف الدفاع الصامت.. وأنا الإنسان الرجل العملاق أمام هذه الذبابة القميئة.. ماذا أعمل؟.. أأصفعها.. فأصفع أنفي وهو موضع الحساسية في وجهي.. لأسيل منه الدم نسحبه.. ((رعافاً)) على سبيل العزاء.. باعتباره فائضاً على الكمية اللازمة لأجسادنا؟.. أم أرفع كفي وأقارب مسايرة لديموقراطيتي موضع المحاكمة.. وآخذ وأعطي بينهما رويداً رويداً لأصطادها سليمة.. ثم أضعها أمامي معها.. لأسألها عن الدافع لفعلتها الشنعاء.. وربما أطلقت سراحها ثانية إن أدلت بأقوالها تبرر بها سلوكها باعتبار أن ما فعلته هو الطريقة الوحيدة لكسب رزقها في هذه الحياة، فقد رأت قريباً من أرنبة أنفي بقايا سائل مخاطي ذهلت أنا عن إزالته.. سهواً.. وجهلاً بقاعدة النظافةمن الإيمان؟..
وما هالني ـ والحق يقال ـ ركوب هذه الذبابة هذا المرتقى الصعب.. وإنما هالني ذلك الطنين الزاهي منها كأنها به تشهد الناس جميعاً على قدرتها وعلى انتصارها على هذا المخلوق البشري السليط اللسان.. والطويل اليد.. تعجزه حشرة تافهة مثلها عن أن يفعل شيئاً في هذا الموقف الذبابي العسير؟
ولا أدري لم طافت بذهني رواية الناموسة والفيل.. وربما كان ورودها إلى الذاكرة دحرجة طبيعية للتسليم بمبدأ العزاء فأنا أصغر من الفيل.. وهي أكبر من الناموسة.. والعزاء في حياتنا كلها باعث حذر.. وتحذير.. فأنا وأنت أمام أكبر المصائب وأقلها لا نعدم سبباً للعزاء يحيل المصيبة الفادحة بالصبر والرضا والقبول تدريجياً.. إلى حادث كوني بسيط.. فكأنما هو البلسم الشافي من كل الأدواء ومن جميع المكاره.. بإذن الله..
وكانت لحسن الحظ أو لسوئه أمامنا أنا والذبابة مرآة مكنتني من أن أرى العدو بكل وجوده وبجميع حركاته على صفحتها.. وبفضل نظارة القراءة المكبرة للحروف أقرأها في بنط أكبر من حقيقته.. وللأشياء.. بما في ذلك الحشرات.. تبدو لي أكبر من جرمها الأصلي بعشرات المرات..
وقد حدث أخيراً ما لا يمكن أن يصدق.. فبمتابعتي لكل حركات تلك الذبابة رأيتها بعد أن استشارتني بجميع حركات المشاغبة والاستثارة والاستنفار ورأتني هادئاً بارد الأعصاب.. رأيتها وقد رجعت إلى عقلها بعد أن استزفت منه كل ما لديه من حيل ومكائد لم تقابل إلا بالصبر، رأيتها تطاطئ رأسها لتقبل رأس الأرنبة من أنفي إكباراً وإعجاباً بحلمي.. وتطير ثانية في الهواء لاصطياد زبون أحمق غيري.. مصفقة بجناحيها.. قائلة في لغة ذبابية ركيكة الأسلوب والمضمون.. لقد قتلتني بالصبر!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :546  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 133 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.