شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(59) (1)
ركبت اليوم سيارة أجرة.. كجاري العادة.. وأشهد أن سائقها كان خفيف الروح كما تبين فيما بعد.. وإنه كان كذلك من ذوي التقوى.. والورع المقبول.. واللحى الغائمة..
ولقد أفزعني بادئ الأمر حين قال لي بجفاء.. وبأسلوب خشن ما معناه.. لماذا لم تقرئني السلام.. وتحييني بتحية الإسلام قبل أن تستقر بمقعدك بجانبي.. وقبل أن تذكر لي المكان الذي تريد مني أن أوصلك إليه في مشواري هذا؟.. فتفرست ملياً في سحنته الطيبة والتي يقول مثلنا الشعبي على لسانها.. إن راح الزين تبقى رسومو.. ثم قلت له.. لقد ذكرت لك العنوان فوراً كيلا أنسى المكان الذي أقصده.. فإنني أصبحت كثير النسيان.. وطالما سرح بي سائقو الأجرة إخوانك فسرحت معهم.. في حديث طويل عريض.. فنسيت مقصدي حتى إذا لاح لهم من بعيد زبون جديد أنزلوني حيث يريدون أن يستلموا الأجرة مضاعفة بدعوى أنهم عملوا ما يساوي عدة مشاوير!
هذا من جهة مبادرتي لك بذكر المكان المقصود حال دخولي سيارتك المبجلة.. أما عن التحية وتوابعها ـ فخذ عندك: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وصباح الخير.. يا اللي معانا..
وكيف الصحة؟ وإيش الأحوال؟
وأوحشتنا ـ أوحشتنا كثير..
وخلينا نشوفك دايماً.. يا هوه!
ومع آخر مقطع انحلت عقدته.. ومن عنده لعنده أخذ يسرد علىَّ دون مناسبة واضحة أو مفهومة عندي على الأقل.. بعض الحكايات.. ومنها حكاية سائق كان تاركاً للصلاة وظل على تركه إياها زمناً طويلاً جداً.. ثم رجع عن ضلاله.. فذهب إلى الفقيه.. يسأله ماذا يصنع إزاء الصلوات التي ترك أداءها في ماضيه الكئيب المظلم؟ فقال له: عليك أن تؤدي مع كل فرض جديد فرضاً قديماً. وأن تتصدق بمبلغ وقدره تسعة وتسعون ريالاً.. ولا أدري لماذا حدد هذا الرقم المماثل لعدد النعاج في الآية الكريمة ـ وعليك أن تخلص التوبة لله ـ وقد فعل كل ذلك.. وأنه الآن مواظب على الصلوات في أوقاتها.. بل في أوائل الأوقات.. وإنه دائم الاستغفار والحزن على ما فات..
وأخذتنا غمرة روحية ودينية ساذجة وطبيعية.. وقد قلت له.. مثلاً.. من ناحية إهمالي أقراءك السلام وإفشاؤه لازم.. فقد قال الله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (البقرة: 286) ومعذرتي النسيان، أما من ناحية سائقك التارك للصلاة ماضياً والمواظب عليها حاضراً فإن المولى جل وعلا.. يقول.. قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر: 53).. فأخبره بذلك.. مع إفادة إخوانك السائقين الباقين إن باب التوبة مفتوح دائماً وهو واسع المدخل ورحيب الداخل. هدانا الله وإياهم إلى طاعته.. فالصلاة عماد الدين.
وفي خفة روح.. ونطة بارعة.. غير مجرى الحديث.. وذكر لي أنه ليس مالكاً للسيارة بل يشتغل عليها مقابل عشرة ريالات يومياً.. وإن المبلغ في حدود الكفاية لولا زيادة عدد المحافيظ بإصرار سنوي.. حتى لقد بلغوا عشرة! ثم هو يود لو عاد للعمل معي كما كان.. فأنا رجل طيب عرفني كذلك وتماماً من السابق حينما كان في سالف العصر والأوان يعمل سائقاً في مديرية كنت على رأسها!!
حينذاك التفت بكليتي إليه وعدت أتفرس في وجهه من جديد.. وتذكرته بعد أن حذفت دون استئذان منه هذا الطارئ الجديد بعارفيه غطاهما فحجب عني ملامح وجهه القديم.. وقلت له ـ ألم يكن من الأصلح لكلينا أن تذكر لي ذلك من الأول؟
فأجاب.. لقد كانت لذتي كبيرة وأنا أتحدث لمن أعرفه جيداً وقد أصبح لا يعرفني.. وذلك في مزاجي اختلاس فني لطيف.. فأذكرني بكلمة اختلاس فني ما ورد في فصل غزلي بهذين البيتين:
وقالوا يا جميل.. تسل عنها
وداو عليل صبرك بالسلو
فكيف.. ونظرة منها.. اختلاساً
ألذ من الشماتة بالعدو!
وكان المشوار قد تضاعف.. كالعادة.. فوعدته خيراً.. ودعا لي بالخير.. وصافحته.. وبكفي ورقة خضراء بعدد أولاده ضم عليها كفه في ابتسام رائق.. وتواعدنا على لقاء آخر لمشوار جديد.. وقد لقنني دروساً.. مع درسه الخاص بضرورة إفشاء السلام.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :728  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 98 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.