شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(57) (1)
رفضت اليوم لولدي طلباً مكتوباً.. لم أر لتحقيقه مسوغاً معقولاً.. أو مبرراً مقبولاً.. على أساس من التعنت التربوي المسبب في نفسي.. ومن الحرد المقصود.. لأنني أردت بإصرار أن أقف منه موقف الواعظ.. والمرشد..
ويقول عقل الدارس إن كل ما بررت به رفضي ظاهرياً أمام نفسي المتقلبة إنما هو انعكاس لشعور لئيم خفي ـ فقد استيقظ في داخلي شبابي الآفل.. وقام طيفه البعيد الناشئ يعاتبني.. ويوبخني هامساً مرة.. ومجلجلاً مرة أخرى.. في رقة.. ثم في هياج.. ثم في استكانة تقطع نياط القلب.. قائلاً:
هل حصلت أنت في يوم من أيام شبابك القاحل على بعض ما يحصل هو عليه اليوم؟ ألم تكن تتلوع في سبيل أن تحصل على ثوب راشوان مرة.. دون أن تجرأ على طلبه من والدك لمعرفتك بالحال.. وبت تبكي سراً وبينك وبين نفسك؟.. أنسيت أنك كنت تتمنى لو اقتنيت حماراً فارهاً تتعهده بما يكفل له الرضا. ولك الإعجاب بزهوه على بقية الحمير؟! ألا تذكر أنك اشتهيت في ليلة عيد من أعياد الفطر أن تكون لك ((بقشة كشميري)) مثل التي رأيت زميلك في الحارة يحملها ليرتديها يوم العيد.. دون أن تنالها؟..
ثم ألم تكن يومياً تذهب إلى المدرسة ـ راجلاً ! ـ وتعود كذلك في أربعة مشاوير؟.. هل غاب عن خيالك منظرك وأنت تحمل لوح العيش لتخبزه ظهر كل يوم في فرن الحنبوسي قبل الغداء وبين وقت حضورك من المدرسة وعودتك إليها؟
وهل؟.. وهل؟.. إلى آخر السلسلة القديمة التي أستعرض بمواكبها طيف شبابي النائي الكئيب.. مقارناً كل حلقة منها.. بصورة زاهية جميلة ورائعة مما يلاقيه.. ويجده ابني سهلاً.. ليناً.. من أمثال:
ألا يكفيه أنه لم يشعر مرة بالحرمان من أي شيء! أليست لديه من البذلات الممتازة ألوان وأشكال؟.. ألا تراه لا يعرف معنى المشي على القدمين في أي مشوار خاص أو عام؟ ألم يبدل سيارته لمرات؟.. جرياً وراء الموديلات الجديدة منها؟ ألا يستعمل من ألوان الترفيه في الملبس والمأكل وما إليهما مما تحت ذلك أو فوقه ما لم تكن تحلم في حياتك المقفرةببعض منه؟ ألم تضمن له نمط الدراسة العالية دون أن يحسب. وختمت الرسالة بأن قلت له ـ إن هذا الرفض مني لطلبك إنما يشبه تماماً.. تماماً.. وبالضبط حالة التطعيم الجدري.. مثلاً!! وقاية لك منه.. بإذن الله.. فتحمل هذه الإبرة الصغيرة.. تحصنك ضد نفسك.. كما أنها سوف تكون تجربة لعلّها تقيك يوماً ما تتكلفه في سبيله.. ولو على حساب العلم بالشيء.. ولا الجهل به؟.. وهكذا أخذ الطيف اللعين يقارن بين صنف حياتي القاحلة عندما كنت في سن ولدي.. وبين لون حياته الزاهية الحافلة.. دون أن يظهر على حقيقته العارية وبوجهه الكاسح صراحة.. بل إنه جاء في صورة متخفية باسم الدراسة الفنية بين الجيل السابق.. والجيل الحاضر.. مستعرضاً حالات كثير من زملائي الآباء.. وزملاء ولدي من أبنائهم..
الخلاصة أن الملعون أقنعني شعورياً بضرورة رفض طلب ابني المكتوب دون أن يكون التسليم مني علنياً.. بالطبع.. ولذلك ـ وعليه ـ فقد أجبت ولدي كتابة على طلبه أقول له.. في تبرير فلسفي.. وفي معذرة منطقية مسببة.. ما يأتي:
إنني.. يا بني.. لا أرفض هذا الطلب منك.. ولك.. لا لأنه غير وارد فحسب.. ولكن ليكون هذا الرفض كذلك تمريناً نفسياً لك.. وتجربة صغيرة عابرة.. وذلك حتى تألف في حياتك الهشة من الآن لحياتك الصلبة في المستقبل.. جواز عدم الحصول على.. بعض.. ما ترغب.. وما تتمناه.. فتنشأ ولديك المناعة الكافية ضد بعض الصدمات الوجدانية.. حين لا يساعدك ظرف من ظروفك المقبلة على تحقيق هذا.. البعض.. الذي ترجوه.
إن الابن الذي يدرج على أن يجد كل شيء ميسراً له.. وكل رغبة.. جاهزة بين يديه.. وكل طلب.. تحت الطلب.. إنما يصبح وكأنه صاحب الخاتم السحري الخرافي ـ خاتم سليمان ـ أو عفريت القمقم صاحب.. شبيك.. لبيك.. عبدك وبين يديك.. أطلب تجد.. يا مولاي..
إنه بهذه الصفة ـ ولهذه الأسباب لن يحتمل في مستقبل حياته.. يوم يجد الجد.. ويصبح من العابرين في دروب الحياة.. وحيداً دون عكاز.. معتمداً على نفسه وحدها في مناطق الرجولة.. لن يحتمل حينذاك أية صدمة تقابله.. حيث.. وحين يكون الاهتزاز طبيعياً.. وخيبة الأمل منطقية.. والفجيعة مقدمة لتخبطه.. فانهياره.. إذا لم يألف في صباه عدم الإمكان.. ولم يعرف المستحيل.. في دنياه السابقة..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :599  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 96 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.