شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(55) (1)
سمعت اليوم حديثاً تلفزيونياً ممتازاً في عباراته الإنشائية أجاد صاحبه فيه الفصحى.. بالإضافة إلى ميزة التجويد.. غنة وإدغاماً.. وقلقلة.. ولكن ما افتقدته جوهراً للحديث أنه كان يتناول رسم حياتنا.. وكأنه يعيشها.. بالسماع..
وهالني الأمر ـ رغم معرفتي أن صاحب الحديث جلس في مكتب يؤدي فيه واجباته الأدبية تقريباً.. ثم هو مقيد ببيت.. لا يعرف أبداً ما هو مثلاً سوق الخضار.. أو بعض الأسواق الشعبية ترتادها فإذا أنت على علم وملامسة وحس بالنبضات الحية لا يستغنى عنها راعي قلم.. أو صاحب فكر.. أو دارس اجتماع!
وتذكرت أنني في مثل هذا اليوم بالذات.. ومع البشكة إياها.. كنت في ـ الهدا ـ في خيمة بين صفوف الخيام المنبثة هناك وقد نصبت كسواها.. على بقايا ركيب كان يوماً أخضر زاهياً بزرعه وبقلته.. فعاد كما هو الآن أرضاً جرداء للإيجار لنصب الخيام عليها!
ونعمت مع سواه بالبرد.. أو بالبراد كما ينطقونه ـ بفتح الباء ـ هناك.. نسمات لطيفة حلوة تمسح وضر الحرارة.. وآثار العرق الغزيز.. كما نعمنا بمزايا الاستجمام والراحة بما تشملان عليه من اجتماعات إخوانية.. ومن ضحك.. ولهو بريء تدفعك العودي بذلك وبما فيه إلى أن تكون كالناس ومعهم وبينهم ضاحكاً هانئاً.. مرتاح القلب والجسم.. تعيش أو تحيا الحياة على الطبيعة.. بدمها ولحمها.. كما هي كائنة..
وليس هذا المدار هنا فأمره سهل ومعروف.. ولكن المدار الحقيقي أنني وكبير جماعتنا قد رأينا أن نرتاد السوق.. كمسؤولين رئيسيين واستجابة لطبيعتنا القديمة المستمرة.. وذلك لتجهيز الغداء للرفقة ولمن معنا من عوائل.. وقادتنا القوة الكامنة في نفوسنا نلتمس وصل الذكريات إلى أن نغشى السوق الخاص ببيع الراص المندى.. والمنداه.. والأوصال.. والمضبي.. و.. بقية أكلاتنا الشعبية الخاصة بالغداء لنباشر ذلك بأنفسنا.. وفي المجال المخصص لها.. حوانيت متلاصقة في ضيق.. وفي تلاحم.. وفي إصرار عى أن تبقى كما هي.. لإتاحة الفرصة لبلادنا حتى تفاخر سواها من المدن التي تبقي على بعض أسواقها العتيقة كرمز تاريخي عتيد.
وحتى نستطيع أن نقول مثلاً.. لن تنفرد روما القديمة.. أو باريس.. أو القاهرة.. أو لندن أو سواها بأن تقول وحدها ما تقوله في هذا الشأن فإننا يمكن أن نشير إلى الطائف القديم كذلك.. وندلل عليه بهذا السوق وسواه وما حوته من أصناف الأكل الشعبي في وجباته الرئيسية.. فما سبق ذكره من الأنواع للغداء ـ والهريسة الطائفية للفطور إلى آخر ما يرد شواهد ـ في هذا المجال.
ما لنا ولهذه الاستطرادة السخيفة ـ عائدين لما كنا فيه ـ فما إن غشينا السوق إياه ـ حتى حفتنا ولفتنا سحب الدخان المعبقة بروائح الشواء ـ التصقت كمواد دهنية لزجة بملابسنا.. وجرفتنا صفوف الآكلين.. فزاحمنا بينها بالمناكب وبالظهور.. بل وبالكروش كذلك ـ لم يحجزنا الشباب عن حجز دورنا فيما نبغيه.
وقضينا لوازمنا موضوعة في القدور والأوعية.. وخرجنا من الزحام وتوابعه خروج القائد من معركة ذات جو ـ ولون ـ وطعم خاص.. شاعرين بحيثيتنا المتحركة ـ راضين الرضا كله عن نصيبنا أحسنا الاختيار فيه كما يجب أن يحسنه كل مجرب زوّاق..
وعلق رفيقي على دوري ـ وكان رئيسنا ـ بعض الشيء.. لقد كان بعضهم يشير إليك قائلاً.. ما الذي جاء ((بهذا)) إلى هنا؟ ومحله الجريدة.. أو الإذاعة.. أو التلفزيون ـ وكنت آنذاك على صلة هوائية بالناس مع عدم الإغراق في الفصحى وبالتجويد غنة.. وإدغاماً.. وقلقلة!..
وقد أجبته بدوري قائلاً.. إنني أولاً لست حيث يفرضونه قيمة لي.. شاكراً ومقدراً لهم على كل حال مضمون استنكارهم الشبيه لحد بعيد بقاعدة.. الذم في ثوب المدح ـ وثانياً فإن طابعي الأدبي ـ أو ((تيبي)) ـ كما يقول المودرنزم ـ يقتضي أن أكون حيث أنا الآن يا صديقي ـ إن من لم يلتصق بالحياة الحقيقية ـ يعاركها وتعاركه بين الصفوف ـ ووسط الدخان والأقبية الدكاكينية هذه وأمثالها لهو المرء لا يملك في قوله إلا ما تملكه الببغاء في ترديد محفوظاتها.. وإن الإنسان العادي لا يأنف في سيره اليومي بخطه الواحد.. إلا السير في الجادة المرسومة.. أو الطريق السلطاني لهو الكائن الرابورطي.
وها نحن قد عدنا من مشوارنا الحي ـ دون أن ينقص منا شيء.. بل لقد زوّدنا الجماعة.. وتزودنا نحن ذاتياً بأشياء.. وبأشياء إدغاماً بغنه بين ـ ومع ـ الناس!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :559  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 94 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.