شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المثقفون إلى أين؟!
عندما نتحدث عن شروط اجتماعية وتاريخية لتكون نظام العقل، فهذا يعني أن العقلانية، ليست مطلقة ولا حيادية، فهي تعكس تنظيم الجماعة لواقعها في الذهن... أي إعادة تركيبه في مسائل كبرى وإشكاليات قابلة للحل من أفق الشروط التاريخية القائمة.. وهذا يفترض أن المعقولية لا يمكن أن تكون مستقلة عن الوضعية الخاصة بكل جماعة ومكانتها في الحضارة، ولا عن القيم الأساسية التي تدافع عنها.
د/برهان غليون
(1)
حملت سؤالاً ضخماً له أصداء من عدة جوانب!
حاولت الطواف به على العقول المتفتِّحة في هذا المجال بالذات... حتى تمدد السؤال بكل أصدائه يقول: المثقفون... إلى أين؟!
وتمددت بعض العقول، وتواصلت بعض الأفكار.
لكنَّ ذلك كله.. كان يخضع لموضة - كانت حداثة السبعينات/ ربما - اسمها: (الميني سكريت) حتى في الكتابة، وفي الفهم، وفي المفهوم الحواري... ولا أظن أن جيل التسعينات قد تخلص منها تماماً، إن لم يكن قد أدخل موضات "أحدث" وأقصر من "الميني"!
وكلنا ندَّعي: رحابة الحوار، وتقبُّله طالما كان يحتوي على موضوع.
وفي أحيان أخرى.. كنت أبلور نقاشاً، أحرص أن لا أجعله (مُحزَّقاً)، وأجلس بعد ذلك في انتظار الصدى!
وحفظت في صباي وأحلامي، وفي نهدة شبابي: أبياتاً من المعلَّقات.. وردَّدت مجموعة أقوال لنجوم تلك الحقبة، وما قبلها مما يعتبر تراثاً، أو نافذة على الفكر العالمي.. فحفظت من أقوال: "أبو حيان التوحيدي"، و"ابن رشيق القيرواني" ومقامات الحريري، وجواهر الأدب، وعبقريات العقاد، ومنطلقات طه حسين، وجنون جان جاك روسو، وإبداع بودلير، وشرائح إنسانية صورها آرسكين كالدويل!
وكانت النتيجة - بعد ذلك أو إثر ذلك - تفسيراً للمثل الشعبي القائل: "........ كلام الناس ثلاثة أيام"!
أو كأن كل هذا العمر، وهذا التحصيل، وهذا الوعي والنضج، وهذا الإختزال العقلي... قد انحصر في تلك الأيام الثلاثة التي يلوك فيها الناس أتفه القول، و..... ينامون!
فهل أصبحت "الثقافة" في العالم العربي تقوم على قاعدة هذه الأيام الثلاثة؟!
وهل تحوّل المثقفون العرب إلى "لُوّاك" لأتفه القول، لينامون بعد ذلك "عن شواردها، ويسهر القوم جرّاءها ويختصموا"؟!!
المثقفون... إلى أين؟!
أذكر أن أستاذنا "المثقف" بحق/ عزيز ضياء: قد اهتم بهذا السؤال قبل سنوات، حتى شاهد (الأغلبية) قد ناموا عن شواردها، وردّد افتتاحية حواره الدائمة:
ـ أحسب أن.... الناس صاروا في هذا العصر ضد الشوارد، أو لا يفهمون أبعادها وخلفياتها!!
والأستاذ/ الرائد "عزيز ضياء": قارئ ذكي، وعاشق للمعرفة (بأبعادها الشاسعة)!!
فهل ما زال أستاذنا "عزيز ضياء": يحسب أن الثقافة في أزمة.. أم هم المثقفون الذين جلبوا هذه الأزمة، وجلسوا يتباركون على حالهم، وقلة حيلتهم، وسوء مآلهم؟!
• إذن... لم يعد السؤال واحداً، بل تفرع منه سؤال آخر، لنقول:
• المثقفون.. إلى أين؟!
• هل القراءة: أزمة... أم غياب الوعي هو الأزمة، رغم انفتاح الفضاء على زحام عجيب من وجوه النساء الجميلات، الملوّنات ما بين: شقراء، وسمراء، و.... "لونها قمحي"؟!
ونستخلص من هذين السؤالين - وأمرنا لله! - سؤالاً ثالثاً يقول:
• ما هي أبعاد، وخلفيات، وتأثير هذا "التدفق" الكلامي عبر القنوات الفضائية العربية؟!
أليس أكثر ذلك "كله" - أكثر، وكل! - يغلب عليه: التفاهة، وإضاعة وقت المشاهد لتسليته في أقل التوقع والاحتمال؟!
ولو أردنا عمل "إحصائية" للبرامج، والمسلسلات، والأفلام التي تتسابق إلى تقديمها هذه المحطات الفضائية العربية.. لخرجنا بنصيب الفقير المدقع في محصّلة المفيد منها، أو حتى المسلي والممتع!
والمضحك: أن المشاهد العادي عندما يشاهد برنامجاً، أو مسلسلاً عربياً.. كأنه شارك في إعداده وكتابته... فهو يعرف ماذا يحتوي هذا البرنامج قبل إعداده، والأجوبة عن أسئلته التافهة، ولوازم الحوار في المسلسلات!
ورغم هذا "المضمون" الضعيف في طرحه، وفي معالجته، وفي موضوعه... فهناك محطات فضائية تصرُّ على (تشفير) إرسالها، والبعض يفكر في هذا التشفير، وذلك لاستنزاف المشاهد: المزيد من الفلوس، والمزيد من الوقت الضائع في التفاهات والضحك على العقول العادية!
• ويعرف هذا المشاهد حقيقة ماثلة (مدوّرة) تقول:
ـ إن أكثر ما تعرضه هذه المحطات: متشابه، أو مكرر... فأنت ترى الفيلم القديم الليلة في محطة فضائية عربية، وفي الليلة القادمة تعرضه لك محطة أخرى... إن لم يُعرض في المحطتين في نفس الليلة أو السهرة!!
بمعنى: أنه لا جديد قد (تفتَّق) عنه ذهن المُعدِّين لهذه البرامج، والمتاجرين بهذه الفضائيات على حساب (قوت الناس)!
ونقول: "قوت"... لأننا نعرف عوائل أصرت على كل عائل لها على توفير "الدش"، وربما جهاز التشفير، واضطر أن يقترض ليرضي عائلته، أو فلذات كبده الذين يشقى ويكدح من أجلهم!
ولو كانت هذه "الفضائيات العربية قادرة على تقديم: الجديد، والمبهر، والمفيد والمغذي لعقل ولروح الإنسان.. فإننا نطالب بالإقبال عليها، وتحمل النفقات الباهظة أثماناً، لمشاهدة برامجها!
* * *
• وبهذه الرؤية المستمدَّة من الحقيقة المحزنة.. لا بد أن ينطلق سؤال هام، يكاد يضيع في كل هذا اللغط، والفوضى، هو:
ـ الكتاب... إلى أين؟!
هل هذه مهمة، أو رسالة "المثقفين" الذين نعتقد أنهم هم أيضاً: غير متواجدين على الساحة الحقيقية لنشر الرسالة المطلوبة منهم... ولكنهم يتناثرون في أزقة، وحواري الثقافة (المترجمة)، وبالإضافة إلى ذلك فإنهم (يتعاطون) وعياً لا يخدم رسالتهم في نشر الوعي داخل الوطن العربي، وفي عمق أفكار وفهم: شباب أمّتهم الذين من المفروض أنهم يمثلون المستقبل القادم: الغامض، والبعض يتوقعه، مخيفاً!!
• الكتاب: مُهمل، وتضطهده هذه "الفضائيات" العربية لتقضي عليه تماماً!
• والكتاب: مستباح من بعض دور النشر التي تنشر ما يعود على مكاسبها المادية، ويزيد الكاتب: فقراً، وإذلالاً(!!) أو تنشر ما يتّفق و..... "شعارات" دار النشر هذه، مما نراه يتنامى في لندن بالتحديد!!
وكل هذه الكتب لا تخدم "عقل" الإنسان، ولا مَنْح الحوار حريته، ولا تُعلّم القارئ: كيف يستخلص رأياً خاصاً به... بقناعاته، وبفهمه، وبمبادئه التي يُنمِّيها فيه: الكتاب الجيد!
• والكتاب: مجْني عليه من (الرقابة) التي تطارده في مناطق معروفة من العالم... البعض بحجة: التأثر على تفكير الإنسان، أو العبث بعواطفه.. والبعض بحجة تناقضه لمبادئ ولشعارات قام نظام هذا البعض عليها!
• والكتاب: ارتفع ثمن بيعه أو تسويقه... فكيف للشاب أن يحصل على كتاب قيمته (30) ريالاً، وهناك كتب تافهة جداً، باعها مؤلفوها بمبلغ (100) ريال، وهي بمضمونها تُشكل سخرية على ما آل إليه حال الثقافة، ورسالة الكتابة في هذا الوقت!
• • •
• ونعود إلى السؤال / الافتتاح هنا: المثقفون... إلى أين؟!
الكثير من شرائح المثقفين - بكل أسف - مستلق، ينتظر من يُخطط له ويوفر المناخ المطلوب للوعي، حتى (يقدر) المثقف على أداء رسالته نحو مجتمعه، والشباب المؤهل للغد!
والبعض: حوّل رسالة الثقافة إلى مجرد "مقالات" في الصحف، وتنظير، وبحوث أكاديمية، ودراسات تحتاج إلى دارس.. ونحن لسنا ضد هذه التخصصات العلمية، ولكن لها أوْعيتها من مطبوعات متخصصة!
ولكننا نشير بالتخصيص إلى ما تُفسح له الصحف اليومية، والمجلات الأسبوعية صفحاتها لنشره، و... بكل أسف: يتجاوزه القارئ العادي الذي نريد الوصول إليه بأهداف الثقافة والوعي، فلا يقرؤه، ولا يعيره التفاتاً، وبعض من يكتب وتنشر له الصحف، يقرأ - لوحده - مقاله بعد النشر!
ونشير أيضاً إلى: دور النوادي الأدبية التي تقيم ندوات وأمسيات لنجوم الثقافة والإبداع الذين يرتقون المنصة طوال وقت الندوة أو الأمسية، في شكل ديك، أو طاووس.. يتعالى على الحضور، أو يتلو عليهم: رموزاً، ومصطلحات من مدارس نقدية في الغرب، وتهويمات.
فما هو تأثير هذه النوادي، وهؤلاء المتنادون فوق منابرها.. مما ينعكس على: وعي الناس، وما يشغلهم، وما يتوقون إلى معرفته، وتعلُّمه؟!
لا شيء أبداً!!
• • •
• تلك هي أهم الملامح التي تكاد تبهت اليوم في قضية: "الثقافة والمثقفون".
وعندما نطرح موضوعاً يتصل بعقل الإنسان، وبالتوسع في مساحة وعيه.. فإن الكلام يطالبنا باستخدامه لأغراضه الهامة والطليعية.. وحتى لا يتحول العطاء الفكري والإبداعي للمثقفين إلى مجرد: "فهرسة" لمرحلة زمنية، أو إلى: عناوين بلا موضوعات.
وإذن.. فإن "الثقافة": تشكل قضية هامة لدينا، لأن الأمة التي لا تهتم بوعيها، ولا بتطور فكرها.. لن تكون مؤهلة لأداء رسالتها الإنسانية، والإنتاجية، والحضارية في زحام هذه الأمم التي قطعت أشواطاً بعيدة على دروب الوعي، والإنتاج، والحضارة.
وبالتالي.. فإن "المثقفين": يتبلورون على شكل أثافي لهذه القضية، أو القاعدة الأساسية للثقافة في كل بلد.. فإذا تعطل دور المثقفين، وإذا ما انشغلت هذه (الصفوة) في البحث عن ذاتها، والتقاعس عن إثبات أو تعميق هويتها.. فإنها غير مؤهلة أبداً للقيام بأي عمل قيادي: يوجّه، أو يرشدّ، أو يُعلّم، أو يساهم في حركة التنمية الجادة!
• • •
• وزارني "صديق".. ليبلغني برد الفعل فقال لي في مدخل حديثه:
ـ إن الكثير من المثقفين، ومن الجامعيين الأكاديميين: يلاحيك، ويشجب كلامك، ويجد دحضاً لكل ما طرحته، ويتساءل: من أنت.. حتى ترفع أصابع الاتهام في وجه هؤلاء الصفوة أو النخبة؟!
• قلت: أنا مجرد "قارئ" نهم، متولّه بالكتاب.. أطرد وراء الكلمة / القيمة التي تزيدني نضجاً ولا تسقط بي في هاوية أو حيرة.. وأريد من هؤلاء المثقفين: أن يتوقفوا عن التنظير، وعن تجليخ الكلام، وعن المقالات البكماء التي لا تحمل من ورائها سوى هدف تلميع هذا الكاتب / المثقف، أو الأكاديمي إعلامياً.. في الوقت الذي لا يستفيد القارئ العادي، ولا حتى المثقف / ربما، من هذا الذي يكتبونه وينشرونه!
ونحن نعرف أن العالم كله ينتقل من حقبة إلى حقبة، ومن نظام عالمي إلى نظام جديد، وحتى التركيز على القوة الاقتصادية القادمة التي ستتحكم في القوة العسكرية، وتوظف التكنولوجيا لها... وهذه (النقلة) خطيرة جداً، لأنها تنعكس على ذهن الإنسان، وعلى مصدر رزقه ومعاشه، وعلى تطلعاته وطموحاته!
فإذا صار "الكِتَاب" في بدء هذه النقلة: لا قيمة له في واقع الغزو الفضائي، ولا أقول: الغزو الثقافي، لأن الواقع يقول أيضاً: إننا نحن العرب الذين نغزو أنفسنا بأنفسنا!
فإذا كانت المحطات الفضائية العربية / المتشابهة في مادتها التافهة.. قادرة أن تسرق الإنسان من الكتاب، أو من القراءة.. فكيف يصبح هذا الإنسان المسروق إذا ما تدجّن في مثل هذه التفاهات؟!
لقد شعرت بغبطة بعد قراءتي لخبر: اجتماع وزراء الإعلام العرب، ليكون على رأس جدول مناقشاتهم: التنسيق والتخطيط لما تعرضه القنوات الفضائية العربية: (بتاعتهم)!!
ولكنَّ هذه القنوات لن تكون - كلها - رسمية تابعة لأجهزة الإعلام في الوطن العربي، ولكنها: شركات تبحث عن الربح، وإغراء المشاهد وجذبه - حتى لو تحكمنا في القليل القليل من الوقت في منع إرسال هذه القنوات مؤقتاً - وحتى لو عمد بعض هذه الفضائيات إلى "تشفير" إرسالها.. لكنَّ "الغزو" قد وقع، والجاذبية إلى هذا (الشيء) المثير قد انتشرت حتى إلى بيوت الفقراء.. وهذه (الحقيقة) تدعونا كأجهزة رسمية إعلامية إلى المبادرة لمواجهة هذا الغزو بما يماثله ويتفوق عليه، وليس بالمنع، والتقفيل، ومحاولة السيطرة الصعبة جداً على الفضاء!
• • •
• وفي هذا الزحام الفضائي، واللغط المتوقع في اجتماعات وزراء الإعلام العرب.. لا بد لنا أن نتساءل:
ـ أين هو المثقف العربي.. وما هو دوره؟!
بالصدفة.. شاهدت على شاشة التلفاز: طرحاً (ثقافياً) قدمته إحدى الفضائيات العربية - ما غيرها! - من خلال استضافتها (لمثقف) أديب.. فما هي الحصيلة التي خرجت بها من هذا اللقاء، أو الحوار؟!
تحدث هذا المثقف العربي عن نفسه، وكتبه، وما يتأمله.. وتحدث - بالأقل - عن الواقع العربي، ولم يقل شيئاً له القيمة الفكرية، أو الرؤية المنطقية.. إما خوفاً من نظام بلده، وإما (فراغاً) في المضمون!
أكثر من ساعة وهو (يرغي).. والنهاية: وضعوا له أغنية لراغب علامة أيضاً!!
ـ (على فكرة: راغب علامة، وعمرو دياب.. صرنا نراهما على شاشة الفضائيات العربية ونسمعهما أكثر مما نرى أولادنا وأهلنا)!!
• وعدت إلى سؤال الصديق الذي زارني، واستفزني باسم المثقفين بقوله: من أنت حتى تتهم الصفوة والنخبة؟!
واستطردت في الإجابة، فقلت له: أنا.. لستُ إلا هذا السؤال الساخن جداً الذي كان يترسب في "قعر قدْر" بارد مدة طويلة.. فأصابتني حرارة العصر والأرض وفجائعهما، ومتغيراتهما.. فتفاعلت، و (غليت)، وارتفعت أسئلتي إلى فوهة "القِدْر" متسائلاً، منادياً!
أنت الآن نقلت إليَّ ردود فعل غاضبة وليست "مُحاورة"... فهل هذا مناخ ثقافة؟!
وهناك - يا سيدي - من يجسد في مثل هذه المواقف، أو الطرح: لا مبالاته من استعلائه!
إنّ التساؤل ضروري، ومن واجب الوسائل الإعلامية، ومن واجب المؤسسات التعليمية / الجامعات، والأدبية / النوادي: أن يهتموا ببحث هذه القضية.
ونحن في وطننا الأغلى / الكيان الكبير: نحتاج إلى وعي، وعقل، وإبداع، وإنتاج كل شاب وشابة، وكل تخصص، وكل كفاءة، وكل فكر رائد راجح: يعد جيلاً قادماً يكون قادراً على تحمُّل المسؤولية في المستقبل الذي تلوح طلائعه ويشير إلى: أنه غد صعب المراس، مزدحم بالأحداث!!
• • •
* المثقف، والجامعي:
• واتصل بي "شاب".. هو مميّز في صف المثقفين، يحمل الدكتوراه بتقدير عال ومتفوق.. وفي البدء لم يفاتحني في هذه القضية / المثقفون، والثقافة.. ولكن الحوار كان يعبر فوق الحفافي، حتى قال كلمة تتخطى اللحظة تلك:
من واجبنا، قبل النقاش، أن نَفْصل بين: المثقف، وبين: الجامعي.. فبعض الجامعيين لا يمكن أن تطلق عليه: مثقف.. خصوصاً ذلك الذي تكتشف أنه يخطئ في القواعد، بل وفي الإملاء(!!)
• قلت له: هذا الرأي يتمتع بصحة ذهنية، وعندما كتبت لم أكن قد خلطت بين المثقف، وبين الجامعي... ولكنّ "الأكاديمي" يعتبر نفسه هو: صفوة المثقفين، بحكم إثباتاته التي تخرجه غالباً!
لكني تساءلت عن / المثقفين والجامعيين، وقلت: إنّ المثقف يتوارى خلف نظرية نقدية أو فلسفية غربية أكل عليها الدهر وعطش.. أو يتوارى خلف مكتب "دوّار" لا يدوم له... وفي أحسن أحواله: يتوارى في الصمت!
وقلت أيضاً: إنّ الجامعي يجري إلى الوظيفة حتى يجفّ ريقه، أو أن "الوظيفة" تصبح قضيته... وهو معذور في ذلك، لأنه يبحث بعد سنوات التحصيل المضنية عن: فرصة يفرغ فيها ثقافته أو ما تعلمه... أو لأنه تأمين مصدر رزقه ومعاشه هو وأهله... فكيف يلتفت إلى (قضية) الثقافة، ورسالتها... وهو مهيأ بهذا الاحتياج أو الاضطرار إلى: التخلي عن التزامات مطلوب منه الإسهام فيها لخير الوطن؟!!
إن هناك فرقاً بين المثقف، والجامعي.
• الجامعي: إذا لم يكن مثقفاً.. فقد أهدر جامعيته، بل وقيمته المتمثلة في (علمه)!
• المثقف: ليس شرطاً أن يكون جامعياً!
لكنّ دور كل منهما يتلاقى في جوانب كثيرة من حياتنا، ويتشابه فوق ملامح كثيرة لأوْجه نهضتنا وتقدمنا.
إن الأمم لا ترتقي إلا بعقول أبنائها.. فإذا تقاعست تلك العقول عن أداء مهمتها وواجبها، فسوف تتجمد ارتقاءات كثيرة، وسوف تدور أشياء كثيرة حول نفسها!
و... لهذا النزف بقية!!
• • •
* هل المثقفون: أمزجة؟!
• طرحت هذا السؤال في أعقاب "تصريح" قرأته للشاعر، وللكاتب السوري المسرحي / "ممدوح عدوان"، قال فيه:
"نحن نكتب كلنا بلغة عربية واحدة، ولا يستطيع مثقف عربي أن يعرف ماذا يكتب المثقف الآخر في البلد العربي الآخر.. بالصدفة، أو بالتهريب؟!
الحالة الوحدوية الوحيدة الموجودة في أمتنا العربية هي: مزاج المثقفين، والعواطف الشعبية.. ونرجو أن يصمد هذا المزاج وهذه العاطفة أمام: ضراوة الاستفادة من التشرذم الذي يزداد وقاحة تحت ذريعة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد!
أوروبا بأكملها تعيش وحدة ثقافية، ولا يكاد يمر عام على صدور كتاب حتى تتم ترجمته إلى اللغات كافة"... انتهى!!
هذا "الكاتب" - في كل مكان - قد جعل من فنه، وإبداعه، وفكره: إحساساً، وضميراً، وإيماناً، ورؤية... وهو الذي يحرص على شيء مهم جداً: أن تكون نفسه في نفوس الناس حتى يصل بفكرته، وبإبداعه إليهم.. وأن تكون نفوس الناس في نفسه، حتى يُعبر عن معاناتهم وهمومهم وأحلامهم!
إنّ حب "الكاتب" يكبر في الناس وبهم، ويتلاشى بعيداً عنهم وعزلة دونهم.
ولا يمكن أن يكون "الضنا" منفرداً، أو المعاناة: نبع تخيُّل.. وإنما هي أشياء مكتسبة مما نعيشه، ومن الناس، ومتطبع عنهم ولهم!
• • •
* لمن يتوجه المثقف:
• إذن... لمن يتوجَّه المثقف، أو الكاتب / المفترض فيه أن يكون مثقفاً؟!في البدء... لا بد أن نتوقف عند ظاهرة (تمدّدت) على صفحات المطبوعات العربية، والمحلية لدينا، وهي: تفشي القلم، الذي هو "من علامات الساعة"!!
وتفشِّي القلم: أساء إلى هذا المنبر الخطير والهام / الصحافة.. فاختلط الحابل بالنابل، والمثقف المتميز بطالب الشهرة والذيوع ولمعة الاسم.. ليكون له من يخدمه بهذه (الصفات) التي هي في الواقع: منتحلة!!
وعلى امتداد شمس الكرة الأرضية، وضياء قمرها: صارت الكلمات تتاخم الشفق، لكنها لم تعد لذلك التأثير القديم.. وصارت الأفكار تجرح الأبعاد، ولكن بغير قدرة على التغيير من داخل نفوس الناس، وعقولهم، وسلوكياتهم التي تزداد ترديّاً كلما استغولت الماديات في هذه العقول، والنفوس، والاحتياج!
وصارت الكلمات: تُصيِّر المسافات وجعاً للكشف عن الآلام، والمعاناة، وألماً في الامتلاء بمعانيها!
• والمطلوب في البدء: أن نطرح هذا "الزيف" الذي يكاد يُصبح اعتيادياً، ويلوح في عيوننا بديلاً عن ألوان الطيف، حتى نحسبه هذه الألوان!
وهناك اتهام يتمحور، فيقول:
• هذا إغراق بالذات، أو في النرجسية، أو... في الحدود الإقليمية للنفس!
نحن لسنا مع الاتهام بالتعبير، ولسنا ضده...
نحن صرنا نجحف فعلاً إذا عرَّينا العبارة المكتوبة، ودفعنا عليها أو إليها: شهواتنا، أو ذاتيتنا المجردة، أو سلوكياتنا الجديدة مع متغيرات واحتياجات العصر... حينئذٍ: نحن لا نحيا وإنما نرتمي، ونبهت، وننطمس!
من الصعب: أن نُزيِّف أحلامنا بالمتاه.
ومن الأصعب: أن نُزيِّف جمر الناس بالشرارة الصغيرة والسريعة التي ما تلبث أن تنطفئ في لحظة اشتعالها!
إنّ الناس يمضون نحو: التخثُّر، والصقيع، والدروشة العاطفية.
إنّ حشود الرياح تفطن النهارات من أثداء الفصول!!
• • •
* كاتب عربي... وكاتب محلي:
• والتقيت بمثقف عربي كبير في بدء هذا العام الميلادي 1994م في مصر.. فبادرته يومها بسؤالي:
ـ ما الذي يشغل ذهنك هذه الأيام، ويستفزّ أفكارك؟!
• أجابني متأوِّهاً: إنني أفكر كثيراً، لكن - صدقني - إنّ اختلاط الأفكار يجعلني لا أعرف: في ماذا أفكر؟!
سألته: هل هذه فلسفة؟!
• أجاب: أبداً... إنّ الكثير من الكتب التي أجدها على واجهة المكتبات.. لا تشدني ولا تحُضُّ لهفتي وعشقي للقراءة والمعرفة...... بعد أن عرفنا دوافع كتابتها!!
• • •
• وعدت إلى وطني الأغلى، وجمعنا مساء بصحبة نضرة من الأصدقاء، وفيهم - بالطبع - بعض الكتاب... فطرحت نفس السؤال على واحد من هؤلاء.. فأجاب:
ـ لا أدري... صدقني!
• ضحكت، وقلت له مندهشاً: لا تدري عن الذي يشغل ذهنك ويستفزُّ أفكارك؟!
قال: هذا أنت تستغرب.. لكن اختلاط الأفكار، وغربة بعضها، وعجزالبعض الآخر عن الإعلان عن نفسه: كلها يجعلني لا أعرف في ماذا أفكر؟!
المكتبات - هنا - لم تعد تهتم بجلب "الجديد" من الكتب الصادرة في الوطن العربي على الأقل، بينما نقرأ في المجلات والصحف الوافدة إلينا من جيراننا: الكثير من الإعلانات عن كتب جديدة.. لا نراها في مكتباتنا، حتى هذه المكتبات التابعة لشركة النشر والتوزيع، والتي تدّعي أنها توفر أحدث إصدارات الفكر والإبداع العربي.
قلت: وفي هذه الحالة.. لم تعد تقرأ، أم تترك ذلك لموسم السفر، و (تلقيط) الكتب من مكتبات القاهرة ولندن؟!
قال ضاحكاً: حتى هذه لا أضمنها.. لأن موظف الجمارك الذي يفتش حقائبي - وهذا حق للأمن - يعتبر الكتب من الممنوعات.. حتى لو كانت لمكتبتي الخاصة / أنا الكاتب الذي يسمونني (أديباً!!)
• • •
* حقيقة أخرى... خطيرة:
• والحقيقة الأخرى التي تتفشى داخل كل وسط بلا تمييز: أن المواطن بمختلف مستوياته الفكرية والثقافية، يقرأ (بالاختزال)، فلا وقت لديه لكي يجلس ساعة متفرغاً لكتاب، ولكنه يسهر أكثر ليله أمام شاشة التلفاز، حتى لو كانت البرامج والأفلام (تجارية) تنتجها شركات تعلن عن: "بامبرز، و... أولويز"!!
أكثر القراء اليوم: يطالعون في الصحيفة اليومية عناوينها الكبيرة "المانشيتات"
والفقرات المضغوطة التي لا تأخذ وقتاً، وحبذا... لو كانت (مضحكة)!!
وتجذبهم أغلفة المجلات الأسبوعية والشهرية الملونة، و... صور الغيد الحسناوات بالماكياجات، وغير ذلك بدون هذه الأصباغ!
• ثم يقتحم قارئ ما: تأمل كاتباً، ويسأله مستفزاً له:
ـ أنت.. ماذا تكتب.. إنك لا تقول شيئاً يهم الناس.. كلامك غير مفهوم؟!
فهل كلام الكاتب: غير مفهوم.. أم استيعاب هذا القارئ، غير فاهم؟!
• والسبب: أن مثل هذا القارئ.. لم يقرأ المقال كله الذي تعب الكاتب في صياغته، وبنائه الفني، ولم يفكر في خلفيات هذا المكتوب لديه... والذي لم يُحسن قراءته!
والكثير من القراء اليوم، أخذوا ينحدرون إلى (أُميّة المزاج)... فكما أشار "ممدوح عدوان" إلى: مزاج المثقف، فهنا أيضاً: مزاج القارئ أو المتلقي لأفكار ولإبداعات هذا المثقف!إنّ القارئ اليوم - بما فيه المثقف! - قارئ: مزاجي، ملول، قلق.. يطالع بداية ما يقرأ، ثم يمارس التزلج بنظراته على الحروف، ويقضم سطراً من الوسط، و "يُعضْعِض" فقرة كاملة.. ثم يصل إلى السطر الأخير، وبالطبع: لم يكن قد فهم شيئاً.. فيقذف بالصحيفة، أو بالمجلة، أو حتى بالكتاب... وهو يردد متأففاً:
ـ جديد في ما قرأت.. لا شيء فيه أبداً!!
فهل هي: أزمة قُرّاء؟!
أم أزمة نُقَّاد محايدين، وإذا وجدوا فإنهم لا يتناولون إلا أعمال المنتمية إلى مدارسهم النقدية، لكُتّاب من نفس الانتماء بأسلوب الشللية؟!
(2)
• هل هي أزمة "قُراَّء" بالفعل؟!
والسؤال يتبلور مما يقال عن "القارئ" الذي صار: ملولاً، لم يعد يتحلّى برحابة الصدر، لأن القراءة تحتاج إلى تركيز، ومتابعة، وقبل ذلك إلى عشق لها يؤكد إنتماء القارئ إلى المعرفة، أو بحثه عنها!!
ويقال عن "القارئ" اليوم أيضاً: إنه لم يعد قادراً على التحكم في "الوقت" ليجلس، ويلتحم بالقراءة، ويهتم بكلمات تشده أو تلفت انتباهه.. لأن انتباهه أصلاً منشغل بأشياء مادية مما هو مرتبط بالطموحات المادية، أو بالمعاناة وبالهموم!
• وهل هي أزمة "نُقَّاد" يُهمهم العمل الأدبي قبل الشخص / كاتبه، والسؤال عن انتمائه الفكري، وأسلوبه الكتابي، وإلى أيّ مدرسة ينتمي؟!
كانت دوافع النقد للأعمال الأدبية قد ترمدت لدينا من منتصف الستينات إلى منتصف الثمانينات.. حتى انبعث نقاد أكاديميون، لم يكونوا محايدين ولا منزّهين، لأن (ميولهم) كانت تسرقهم إلى المدارس النقدية التي انتموا إليها إلى درجة استعباد تلك المدارس ذات الشعارات لعقولهم.. فأصبح - في رأيهم - قلة قليلة جداً في هذا الزحام من الكاتبين، والمبدعين، والقصاصين والشعراء.. هم الذين يستحقون الالتفاتة النقدية منهم، وإبرازهم، وتلميعهم.. لأن هذه "القلة" تكتب، أو تمتح من تلك المترجمات (تقليداً لها وليس ترجمة.. فصار التقليد في تقييم هؤلاء النقاد هو: الإبداع، والحداثة أو التحديث، وهو الجدير بالالتفات.. وما عدا ذلك في اعتبار هؤلاء النقاد: يشبه العملة القديمة التي غذَّ بها الزمان، فلم تعد تُصْرف!!
إنّ الاهتمام "بكل" ما تصدره المطابع لكُتّاب محليين لم يعد فعالاً، وليس له أثر في ذات، ولا في حفاوة هؤلاء النقاد الذين - خلت لهم وباضت - فتربعوا فوق منصة الحكم على إنتاج وإبداع "الآخرين" من غير شيعتهم.. ليصدروا أحكاماً متسلطة من سلطة البعض منهم على منابر الإعلام كالصحافة، والأندية الأدبية!
• • •
* قُرّاء.. ونُقّاد:
• فهل هذه أزمة "قراء" أم أزمة "نُقّاد" محايدين غير متسلطين؟!
القراءة هي: القاعدة.. والأمم التي لا تقرأ: لا تفهم، ولا تعي، ولا تتطور!
والقُرّاء هم المتلقِّين الذين يسيرون مظاهراتهم خلف "النقاد" تأييداً، أو شجباً!!
والأمم التي تستهين بالأفكار الجديدة، وبالكلمة اللافتة.. تعكس عدم اهتمامها بعصرها، وبثرواتها الإنسانية!
إذن... فالأزمة قائمة تراوح ما بين فعالية القارئ، وحضارة الناقد ورقي هدفه!
وكنت أقرأ دراسة عن: "أزمة القراءة"، تقوم على أفكار كتبها "نورمان لويس" وضمَّنها كتابه المعروف: "كيف تقرأ"؟!
• قال نورمان لويس: "إن القارئ البطيء، هو قارئ رديء.. وإن معظم الذين يقرؤون بسرعة يستوعبون أكثر من القراءة المتثاقلة.. والطفل الذي لا يجيد القراءة: يكون دائماً متأخراً في الدراسة"!
إنّ الذين لا يقرؤون: لا يستحقون التطلع.. والذين يهدرون أوقاتهم دون إشغال ساعات منها بالقراءة: لا يجيدون معرفة الحياة، ولا يتفهمون كيفية معاشهم!
وعرفت أن أغلب الذين يقرؤون: بطيئون.. في القراءة، وفي حوافزهم للاندفاع إلى القراءة!
وعرفت أن أغلب هؤلاء الذين نراهم يقرؤون، ينقسمون إلى هذه الشرائح:
• قُرّاء للمجلات الملونة، المصورة، "المزغللة" بصور الممثلات، والمطربات، والمذيعات الفاتنات... والبعض - كما قال - يشتري المجلة من أجل الغلاف... ولا يعنيه ما هو مكتوب في داخلها!
• وقراء للصفحات الرياضية - وهم الأغلبية! - ممن ينجذبون بجنون إلى كرة القدم، ويرددون أقوال "نجومهم" في الكرة.. حتى لو كان ذلك النجم لا يجيد تركيب كلمتين!!
• وقراء للأخبار - أياً كانت - وذلك من شدة متابعتهم للأحداث، وإشغال تفكيرهم إلى درجة الإرهاق بالمتغيرات السياسية، وأبعادها وخلفياتها!
• وقُرّاء - قلة - من هؤلاء المثقفين الذين... (يقرؤون مقالاتهم المنشورة.. قبل كل شيء)... ويتوقفون عند مقالات الآخرين للقراءة بالاختزال: سطور من المقدمة، ثم من الوسط، ثم... "القفلة" ليعرف ماذا أراد الكاتب أن يقول!
• وقراء من - قلة القلة - أولئك الذين (يجلسون ركبة ونص) ويفلُّون كل مقال، وموضوع، ودراسة، ورؤية، وحوار!
• أما قُرّاء الإبداع من: قصص، وروايات، وشعر، ومسرح... فهؤلاء لا يعلنون عن أنفسهم بسبب عددهم المحدود، ولا يجدون المجال للتعبير عن "انطباعاتهم" على الأقل
نحو ما يعكفون على قراءته!!
• • •
* حصص القراءة في المدارس:
• وهناك رأي آخر من أقوال "وليم تل" في القراءة وعن القراءة، قال فيه:
"إن الذي يقرأ الكتاب بطريقة التهام الساندويتش: يجوع بسرعة، أو لا يشعر أنه قد تغدى"!!
والغريب أن القُرّاء هنا يخضعون للتناقض بين كلمتي: نورمان وتل.. فهم يقرؤون ببطء، ولا يستمرون.. وإذا قرؤوا بسرعة: قضموا الكلمات من رأسها، ومن خاصرتها، ومن قدميها، ثم... لا يفهمون، ويحتجُّون على الكاتب متسائلين: ماذا كنت تقول؟!
• وفي جامعة نيويورك، قامت الدكتورة "ستيلاسنتر" قبل أعوام، بدراسات عن: حصص القراءة في مدارس الأطفال.. فاكتشفت هذه المعلومات:
• "أولاً: أن حصص القراءة هي أقلّ الحصص جدية في برنامج التدريس، حتى أوصلوا عدم الجدية إلى ذهن التلميذ، حتى الأوائل منهم - وهذا ليس عندنا أيضاً بكل أسف -!!
ثانياً: أن المعلّمين المشرفين على هذه الحصص دائماً هم من معلّمي اللغة العربية الذين يهتمُّون كثيراً بعلم صوتيات اللغة كنطق سليم أولاً... بينما المفروض - بجانب هذا الاهتمام - أن يتولى حصص القراءة: أساتذة المكتبات - وهذا عندنا أيضاً بكل أسف -!!
ثالثاً: لا توجد مسابقات في القراءة الحرة داخل معظم المناهج الدراسية كعلم أساسي وهذا عندنا أيضاً بكل أسف!!
وبنظرة داخلية إلى مجتمع القارئين عندنا، نجد: أن الطالب لا يقرأ إلا كتاب المطالعة المقرر عليه ضمن مناهج العام الدراسي ليؤدي فيه امتحاناً لا يؤثر على تقديره في النجاح أو الإخفاق!
• ونجد: أن الموظف يمسك بالصحيفة، ولا يقرؤها كلها.. ولكنه يبحث عن خبر اجتماعي، أو مما يهم مجال عمله ترفيعه أو مرتبته، أو عن الكرة، أو... عن خبر طريف يحكي أغرب حادثة في العالم.. ليضحك فقط!!
• ونجد: الجامعي.. يتوصل إلى الأشياء التي بداخله، ويهمل الكتاب أغلب أيام السنة، ويلوي عنقه عن الأماكن التي يمكن أن يعطي فيها من ثمار ما تعلمه، ومن معلوماته!
حتى الطبيب الذي من المفروض عليه بعد تخرجه، ودخوله إلى معترك الحياة العلمية والتطبيقية لما درسه: يهمل الكتاب أو القراءة.. ومفروض عليه أن يتابع كتب الطب الحديث وأخباره على الأقل!
(3)
• ولا بد أن تتقدم الأسئلة نحو كل الذين يكتبون اليوم، أو (يمارسون) الكتابة في وطننا العربي... نحو ما تبلوره أفكارهم، لكي يخدم: فكرة الحياة، ويبسّط هذه الحياة.. ولكي يرتفع بهموم، وبقضايا، وبأزمات الإنسان العربي - حتى النفسية - إلى ما فوق الشعور بالإحباط أو بالظلم، أو بالعجز.. ليستجلي الإنسان بفكره: قدرة التفوق على العجز، أو على الخوف، أو على الضعف النفسي أو العاطفي!
إن أكثر ما يقدمه "المثقف" العربي اليوم هو: شيء يدور في دوامة من القلق، والحيرة والتشتت الذهني، واضطرابات التصوير للمعاناة، ومحاولة الانعتاق من تراثه ليستغرق في هموم غيره!!
إنّ دور "الفكر" العربي، و "الثقافة" العربية: يتعثر ويعجز حتى الآن.
ولا بد أن يبدأ مشوار جديد: أكثر قدرة، وتقدماً، ومنطقاً، ورؤية.. متلاحماً مع أبعاد وخلفيات معاناة الإنسان العربي.
والخطوة الأساسية الأولى: أن نُعمّق الروابط بين (الإنسان) العربي وأخيه، فوق أيّ بقعة من الوطن العربي... خاصة في: حصيلة ما فعلته الحرب العراقية ضد الكويت، والحرب اليمانية / اليمانية، والحرب اللبنانية الأهلية من تمزق في بنية الإنسان العربي، وبالتالي: ثقافته، وفكره، وفنونه... حتى اعتدت على أحلامه.. وحتى أوغرت صدر العربي ضد أخيه العربي!
• • •
* على خير ما يرام:
• ونعود قليلاً إلى المرحلة التي لم تبعد كثيراً... حين أصدر الكاتب المسرحي الأميركي (إدوارد البي) مسرحيته عام 1961، بعنوان: الحلم والكابوس!
في ذلك الوقت.. واجهت الكاتب موجة عنيفة من النقد القاسي، وكانت الصحف الصادرة في الصباح: تندد بذلك الكاتب، جارحة تدمي صميم فؤاده، جزاء له على عمله الأدبي ذاك!
لكنّ قراء "إدوارد إلبي": رفضوا كل رؤوس السونكي التي سُدِّدت إلى كاتبهم المفضل، وأقبلوا على مسرحيته، ونفدت الطبعات، وطالبوا المؤلف والناشر بطبعات جديدة، وبمسرحيات متوالية:
هذا هو "عطاء" الكاتب، وتوحُّد فكره مع القراء.
• فما هي الأسباب.. وما هي أبعاد النظرة إلى ما حدث يومها؟!
• وأين هو الكاتب الذي يثير، ويجرح، ويحرك وجه الماء الراكد؟!
نحسب أن النظرة إلى ما حدث: تتلخص في ثلاث وقفات، ما زال الإنسان العربي - والمثقف بالذات - بمعاناته، وبفكره، وبقلقه.. يمارسها ويتَّصف بها، وهي:
أولاً: أن كل ما يُسدّد إلى تعبنا وأمراضنا النفسية والاجتماعية، واضطراباتنا السياسية التي لا يمكن أن نسميها: "متغيرات"... وكل ما يكشف خداع الإنسان لحياته، ولقيمه، ولتناولاته اليومية فيعرفها ويفضحها.. هي أمور على درجة بالغة من الأهمية!
إنّ الإنسان يُفضّل الاستماع إلى الصراحة... ولكن الكثير - ومن المثقفين بالذات! - لا يجرؤ على ممارستها، والتصدي بها للسلبيات!
والإنسان يرغب في تلمس جروحه وأخطائه، ويعجز أن يعلن عنها.. فإذا اضطر إلى الإعلان عنها - خارجاً عن ذاته - فهو يصغي باهتمام ويتعاطف معها، ولكن... في داخله!!
ثانياً: إن كل ما يمارسه الإنسان في نهاره وليله، لا يفصح عنه، ولا يرغب أن يوصف به... فالازدواجية هي مشكلة إنسان هذا العصر الذي يتشكل في النهار بشخصية دكتور جيكل، وفي الليل "مستر هايد"!
وما يُفرض على الإنسان مثل هذا السلوك هو: تعامله مع الآخرين، ومصالحه المرتبطة بهم... ثم أحلامه المتوارية في اضطراباته النفسية، وعلل وشرور هذا العصر!
والمثقف ينطبق عليه / كإنسان أولاً... وكإنسان متميز بالوعي، وبالتأمل، وبالثقافة، وبقدرته على التوجيه: كل ما يُشكّل قدراته، وحقوقه!
• • •
* اللغة الشاعرة:
• وأسترجع في هذا الاستقراء لدور "الكتاب"، والمثقف: حواراً أقمته ذات يوم مع أستاذي، ومعلمي (محمد حسين زيدان) - يرحمه الله - وقد افتتح هو الحوار عن الكلمة ومعطياتها، ودور المثقف.. فقال:
ـ ينبغي على القارئ - أولاً - أن يعلو بأسلوب اللغة الشاعرة، لا أن يحارب لغته: مُظهراً عاطفة تدّعي التفهيم!
إنّ القارئ العربي يفهم الكلمة القرآنية.. وليس هناك "بيان" أعلى منها.
فكيف ندّعي: أن الأسلوب المشرق، السلس.. لا يفهمه العربي؟!
إنّ الفسولة والضحالة.. هما: الانحطاط من الكاتب، أو مدّعي الثقافة، بالقارئ العربي إلى لغة عامة... بينما من حق "القومية العربية" لمن كانوا ينادون بها! - أن تكون لغتها الشاعرة: في أسلوبها العالي.. فكل الذين عابوا على "الرافعي" بيانه لم يزالوا يكتبون بأسلوب بياني على طريق لا أزعم أنه قد انحط، وإنما هو في الواقع من السهل.. قد استطاع به كُتّاب صحافة اليوم أن يكونوا الوسيط بين لغة الرافعي وأمثاله، ولغة الأبنودي وأمثاله!!
• سألته: ولماذا أسقطت تأثير أولئك "المثقفين" الذين بلوروا فكرهم في "اليسار".. حتى كأن كتاباتهم صارت: لغة عربية لكنها ليست شاعرة بقومها، وغير مفهومة.. أو أنها شديدة "المداراة"، وذلك لإغراقها في المصطلحات، وفي الخروج بها من (البيان) إلى: استبيان الشعارات؟!
ـ أجاب: أحسب أن هؤلاء قد صاروا عبيداً لتلك المدارس الغربية الإلحادية، أو اليسارية، ولتلك الشعارات.. فهم لم يكتبوا "اللغة الشاعرة" بل: اللغة الشاعرة من انتمائهم: عقلاً عربياً، وروحاً إسلامية، وارتباطاً بالأرض!
• قلت: هل تعتقد أن المثقف غائب، أم أن الثقافة هي الغائبة عن ذهب ونظر القارئ العربي؟!
ـ قال: ليس هناك، "مثقف غائب"، ولا "ثقافة غائبة"... وإنما الغيبوبة تلاحق القارئ فلا يقرأ، وإن قرأ: سئم... لأن طابع العجلة، وتكالب القلق، والغزو الفكري بالقليل القليل من الثقافة الذي يُنشر على الناس في الإذاعة والتلفاز.... كان هو: المخدر، ليكون القارئ العربي في غيبوبة!
قلت: والعلاج كما تراه، أو تطالب به مؤسسات التعليم والثقافة العربية؟!
قال: أن يقرأ العربي، بل ويُحضّ ويُجرّ إلى القراءة.. ولا يكتفي بالسماع ولا بالرؤية، ولا يقتصر على الكتاب الرخيص، وعلى المجلة التافهة (الملونة).. وإنما ينبغي أن يكون النهج في: أن يقرأ العربي كل جديد وكل قديم.. لا تضع على الكتاب: قيوداً، وموانع، ونجعله من المحظورات أو الممنوعات.. فالقراءة الجديدة، طرقات على الفكر تفتح كل باب له.. والقراءة القديمة: ذخيرة للفكر، حين يفتح الجديد: الأبواب القديمة، يجد الكنز الدفين من الثقافة القديمة.. فيكون المزيج: فكراً عربياً اختزن القديم من التراث، واحتاز الجديد من كل ما تورِّثه الإنسانية!
لقد كانت الترجمة معدومة في العالم العربي، وذلك قصور مؤسسات التعليم والثقافة وأجهزتها.
إنّ الترجمة تصنع جامعة جديدة لفكر العربي.. بشرط: أن ننتقي ونختار الذي نترجمه لغير الناطقين بلغة أجنبية!
لقد كان جهد أفراد مثل: فتحي زغلول، وعجاج نويهض، وعادل زعيتر، وخيري حمّاد، ومنير بعلبكي: جهداً فائقاً أعطى القارئ العربي الأفكار التي ترجموا كتبها.. وعيب أن يكون جهد الأفراد أقوى من جهد الدول، والجامعات، والمؤسسات الثقافية!!
سألته: هل أنت أديب، أم مفكر؟!
ـ أجاب: أما أنني مفكر لا أديب - كما اتهمتني مراراً! - فهذه تهمة لا أدفعها، وشرف لا أدّعيه، كما قال سعد زغلول... فالمفكر في معيار الأمم: أديب، ومثقف... كاتب تحصره الشعوب الحافلة بالفكر وبالثقافة في قليل من رجالها!
والأديب: قد يكون لديه فكر، لكنه لم يصل بعد إلى هذه الدرجة.. ويفرض على نفسه أن يكون: فكراً لغيره أكثر من أن يكون: فكراً لنفسه!!
المفكر: من يقسره التفكير على العطاء... وهذا ما نفتقده في زحام المثقفين العرب لدينا.
(4)
من داخل صدور الرواد / جيل التجربة... نتصدى نحن: جيل الصهر الذي مارس التجربة وتواصل بها، لنحصد شواهد جيل يُكمِّل الآخر ما بدأه الجيل الأول!
من سمات ومميزات جيلي "التجربة والصهر": قرار خوض محيط الثقافة، وارتقاء ذرى الفكر، ومضاهاة نهضة باهرة في جوار الأرض، وداخل أقطار سبقت إلى التقدم نحو العلم والثقافة... فكان هذا الجيل / الصهر: يعرف أن (اقرأ) قد انطلقت من هذه الصحراء، فهي أولى ترشيد الإسلام لبناء شخصية المسلم: القراءة.. أي الوعي، والمعرفة.. وقد ترددت هذه الكلمة / التوجيه الإلهي للنبي العظيم صلى الله عليه وسلم، منطلقة من بين أرجاء الصحراء حتى عمّت العالم!
إن جيل الرواد: كان يقرأ على الشمعة قبل أن يعرف الكهرباء.. وكان ينطلق إلى المعرفة تحت ضوء "اللمبة".. وكان يقتصد لشراء الكتاب، مضحياً بالغذاء للجسم من أجل غذاء العقل!
كان جيل الرواد يُعلِّمنا، ويضيء الصوى لنا وأمامنا.. فيقول لنا:
ـ كان زحام الثقافة من حولنا في بعض أقطار الوطن العربي: يتزايد، ولم تكن لنا قاعدة ثقافية بالمعنى الدقيق وبعطاء الثقافة.. بل كنا نقرأ كل شيء مما يصلنا، ومما نفتش عنه حتى نوفره!
إنه جيل الرواد الذي يمثل النهج العصامي في الجزيرة العربية، منذ إطلالة الثلاثينات أو نهاية العشرينات من هذا القرن... وقد اطلع: شعراء، وقصاصين، وكتَّاب مقالة نقدية في طابع ملحوظ من تناول الذات إلى حد ما.. ثم تبلور النقد بعض الشيء، ولكن بقيت فنون الكتابة، ومؤشرات الثقافة: هما هاجس هؤلاء الرواد المندفعين إلى الرؤية.. وبقيت المعرفة هي: الهدف لصياغة الإنسان الراقي.
وقد حفلت صحيفة "صوت الحجاز" ثم البلاد السعودية" بأسماء بهرت بعد أن سطعت.. لأنها أعطت ومنحت من محصول الوعي، والقراءة، والثقافة.. فكانت القاعدة الإيجابية التي تأسس فوقها جيل التجربة، ثم جيل الصهر.. حتى هذا الجيل الذي يوصف - في الغالب - بأنه: جيل الحيرة والقلق، في انفتاح العديد من قنوات التوصيل إلى انتباه القارئ، والمشاهد، والمستمع في ثلاثيات الإعلام الحديث... فأخذ هذا الجيل: ينهل من الوافد، ويقلد أو يتشبّه، وينبهر إلى درجة أن البعض فقد ملامحه!
• • •
* جيل الريادة المؤسس:
• وإذا أردنا أن نتحدث عن المثقفين والثقافة في بلادنا... لا بد أن ننطلق من ذلك الجيل الرائد، التأسيسي!
لقد تبقّى لنا منهم قلة بسيطة.. نخاف عليهم، ونعرف النهاية المحتومة لكل ابن آدم.
وهؤلاء البقية من روّادنا: لهم ديْن علينا لا بد أن نوفيه، ونوفيهم ولو جزءاً من حقوقهم علينا... بعد أن ودَّعنا الكثير من فرسان جيل التجربة، ولم يقدر جيل الصهر، ولا الجيل الرديف المنبثق من حيرته: أن يمنحنا بديلاً أو شبيهاً في غزارة ثقافة جيل التجربة المؤسس.
جميعهم: محفورون في دفاتر تاريخ الثقافة لهذا الكيان الكبير / المملكة العربية السعودية.
إنهم جيل: التجربة، والإصرار، والصلابة، والندوب، والحب، والأحلام... منذ بدأ إنسان هذه الأرض مسيرة الحياة الثقافية في جيل تفتحت مداركه يوم اشتد عوده على بصيص من التطور / الأمل، وعلى وميض من وهج العلم الآتي إلى منطقة كانت تعاني من الإمكانات المتواضعة، ومن مشكلات بناء الحياة والتنمية وترسيخ الاستقرار.. وفي الوقت نفسه كانت: تترعرع في كنف الحب، ووحدة المجتمع، وتآلف الأسرة في زمان أجمل وأكثر عمقاً... فانبعثت مواهب هذا الجيل، وعطاءاته الفكرية بأسلوب: نحت الصخر، وتحقيق المستحيل.. فكانت صفة "الانتماء" فيه: قدرة على الإدراك، وعلى بناء الشخصية، وعلى إضاءة العقل.
هذا هو فعل جيل التجربة الرائدة.. جيل الصخر الذي فجر ينابيع المعرفة، ومهّد الطريق لأجيال جديدة بعده.. جاءت ووجدت: رفاهية المدنيَّة، وتقدم الحضارة، وجسور التنمية، وجسارة الحوار.. ووجدت: الكتاب الصقيل، والكاسيت، والتلفاز، والمحطات الفضائية، والتكنولوجيا المتقدمة!
وعبّر جيل التجربة والصخر عن مخاوفه حين تلفَّت إلى بوادر فقدان الروح في عصر الماديات والقلق... وكانت لهذا الجيل: شمس نزفت كفاحاً ومعاناة، وتفصَّدت منها الجباه عرقاً.. نزفت إرهاصات فكرية، وطموحات، وانفتاح على ثقافة العالم.. حتى سطعت - في الأقل من حصادها! - بالأماني المتفائلة المجيَّرة للجيل التالي / جيل الصهر، وبالرؤية الواقعية لمطالب الحياة.. وأيضاً: بالرفض (المعقول) لأشياء جدَّت فكان جديدها: مثار جدل، وإيجاب وسلب، في تصاعد الوعي، وتلاحق الأجيال، ومخاض الأفكار!
• • •
* جيل الحيرة والقلق:
• وبدون أن نربط تعاقب الأجيال تاريخياً.. نود - هنا - للمقارنة: أن نتوقَّف أمام تجربة جديدة لجيل نابت، نُسميه: جيل الحيرة والقلق... وهو الذي يعاني من المتغيرات السريعة حتى لفكره بسبب هجمات الحيرة والقلق!
ولهذا الجيل وقفة.. استخلصتها من مضمون أو ترميز صحافي نشرته صحيفة "البلاد" بتاريخ 28/1/1415هـ، عن: اختفاء الكِتَاب.. وجدت في بعض أجوبة الشباب التفاتة إلى: داء بلا دواء حتى الآن، ولعل المجتمع ينساق إليه، ويمارسه وكأنه: عقل مسروق:
• قالت أمينة مكتبة المدرسة المتوسطة الثالثة والثلاثين "آمال عيسى":
ـ إن مشكلة انصراف الأطفال عن القراءة: مشكلة جوهرية وهامة، وجذورها تتعمق يوماً بعد يوم، وعواقبها وخيمة على الأجيال والمجتمع بكامله.. وأسباب المشكلة تتمثل في:
1 - عدم تعويد الطفل على حب القراءة والكتابة منذ الصغر، وهنا تتركز المسؤولية على الأسرة بصفة عامة والأم بصفة خاصة.
2 - عدم تشجيع الطفل على شراء الكتاب المناسب وعدم مساعدته في الاختيار.
3 - عدم الوعي الكامل بأهمية القراءة في حياة الإنسان.
4 - اعتماد الطفل في المدرسة على اكتساب المعلومات من الكتاب المدرسي فقط دون اللجوء إلى كتب أخرى خارجية مساندة لفهم المنهج واكتساب المعلومات.
5 - عدم قدرة الطفل على الاختيار من هذا الكم الهائل من الكتب المطبوعة، وعدم وجود من يسانده في ذلك.
6 - استغناء الطفل عن الكتاب، وشغل أوقات فراغه بالوسائل السمعية والبصرية باعتبارها جاهزة ومتوافرة أمامه بين يديه دون بحث وعناء.
7 - انعدام الدعاية والإعلام عن الكتب المفيدة، وقلة تنظيم معارض للكتب التي يرتادها الأطفال ويستفيدون منها.
• وطرحت هذه المربية سؤالاً وجَّهته إلى الأمهات / مربيات الأجيال، فقالت:
ـ لا بد أن كل أم اصطحبت طفلها أو طفلتها إلى ملاعب الأطفال - المنتشرة - فهل اصطحبته ولو لمرة واحدة إلى: معارض الكتاب، أو إلى مكتبة بقصد تشجيعه ومساعدته على شراء كتاب مفيد؟!
• وقالت الدكتورة "شادية كعكي" / جامعة الملك عبد العزيز:
ـ للأسف.. نجد أن أطفالنا لا يقرؤون، حتى بعض الكبار إن لم نقل معظمهم لا يقرؤون ومن الأسباب التي تُلهِّي الأطفال عن القراءة: التلفاز، والأتاري، وغيرهما من الألعاب الإلكترونية!
• إذن... فإن المسؤولية الأولى تقع على المنزل - الأم والأب - ونحسب أو وجود مكتبة في كل بيت إلحاح ضروري، مثل وجود: صيدلية صغيرة، ومطبخ للأكل، وباقات من الزرع!
• والمسؤولية الثانية: تقع على المدرسة التي من واجبها أن تُنمِّي حب القراءة لدى الطفل، ثم الفتى.. والجامعة في استقبالها للشباب ودفعهم إلى تخصيص وقت محدد ومُلزِم للقراءة.
• والمسؤولية الثالثة: تقع على مؤسسات الثقافة والشباب، والأندية الأدبية التي تهتم بالأكاديميين وإهمال النشء والغرس.
• والمسئولية الرابعة: تقع على وسائل الإعلام التي أهملت هذا الجانب تماماً، وبالتحديد: التلفاز الذي يدخل كل بيت!
(5)
• في إحصاء لأحدى المؤسسات العلمية عن القارئين والقارئات.. جاءت هذه المعلومة:
ـ "يقرأ الشخص المتوسط نحو (50) كلمة في الدقيقة، وبعد التمرين يستطيع أن يقرأ من 400 إلى 500 كلمة في الدقيقة، والقاعدة الوحيدة للتمرين هي: أن تجبر نفسك على القراءة كل يوم لمدة خمس دقائق"!
والسؤال الموجّه إلى القارئ اليوم هنا:
ـ كم تقرأ من الكلمات في الدقيقة؟!
• أحد الذين سمعوا سؤالي، قال لي ضاحكاً: قل كم تسمع من الكلمات في الدقيقة؟!
وهذا صحيح.. فعدد الذين يتكلمون "أي شيء": يفوق الذين يقرؤون، ويتأملون، ويفكرون في عبارة واحدة بين دفتي كتاب، أو على عمود صحيفة!
وفي هذه الدراسة التي قرأتها عن: أزمة القراءة.. يقول الكاتب:
• "يهبط مؤشر القراءة قليلاً عندما ننتقل إلى فئة القرّاء اليوم.. فنجد أن مشكلاتهم تتضخم، والعالم يواجه مزيداً من المعلومات، والآراء في جميع فروع المعرفة.. حتى إنهم أطلقوا على هذا العصر صفة: عصر انفجارات المعلومات، وأصبح من الصعب على القارئ العادي أن يتحول إلى عقل إلكتروني قارئ"!
إن الكتب في تزايد.. والمعلومات في كثافتها تشكل إحدى متطلبات العصر، وما فيه من: ابتكارات، واختراعات، ومشكلات تتطلب الحلول، وآراء جديدة تستدعي التأمل، والفهم، والاستيعاب.. ولا يمكن أن يقبل الإنسان ببقائه جاهلاً بما حوله، ولا بانعزاله عن حركة "الوعي" في العالم!
إذن... ما زال السؤال مطروحاً:
• ماذا تقرأ... لو قرأت؟!
وطرحته على مجموعة من الشباب... فكانت الإجابات تتشابه وتتنافر أحياناً، لكنها اتجهت كلياً إلى نقطة مهينة، معناها:
ـ إننا نقرأ أقل مما نفكر.. ونفكر في حدود ما نرغب ونطمح.. فكيف نفهم إذا لم نعرف، ونتعلم!
• • •
* التعليم.. هو الأساس:
• الأساس في الثقافة، وفي النضج، وفي تطور الشعوب وتقدمها هو: التعليم.
والتعليم في أسباب نجاحه، يعني: المناهج التي ينبغي أن تكون مشجعة على الاستمرار في البحث عن: الكتاب، والمعلومة، والفكرة، والتحليل، والتسجيل، التاريخي والعلمي، والإبداع!
وهذه الركائز التي تجعل "القراءة" ناجحة وذات عطاء للإنسان.. نفتقدها في المناهج الدراسية، ربما بسبب كثرة هذه المناهج التي تضغط على عقل الطالب والطالبة، وعلى وقتهما، وعلى استيعابهما.. وبالتالي: تنفرهما من متعة القراءة، والمعرفة الحرة من خارج الكتاب الدراسي أو المنهجي.. فليس في المناهج: تشجيع على القراءة الحرة، والتأمل، والحوار مع الفكرة الأخرى.. ولكنها أفكار ومعلومات محددة مكررة بدور الطالب والطالبة في فلكها، ليؤديا الاختبار فيها فقط وينجحا!!
وهذه الركائز أيضاً - الكتاب، والمعلومة، والفكرة، والتحليل، والإبداع: تتطلب إيجاد مكتبة كبيرة في كل مدرسة وجامعة - يُلزم الطلبة والطالبات بارتيادها - وفي كل حي من أحياء المدينة، وفي المدن الصغيرة والقرى.. فالمكتبة: ضرورة ملحة لإفساح المجال لكل الذين لا يقدرون على شراء الكتب، وللذين قالوا: إن المكتبات المنتشرة تهتم أكثر بالقرطاسية، وبالصحف اليومية، والمجلات، وبالأدوات المكتبية.. ولا تلتفت إلى ضرورة توفير الكتب الجديدة الصادرة!
• والسؤال: كيف ننمي القراءة الحرة.. وكيف نشجع الناس عليها؟!
هناك فكرة من عشرات الأفكار.. وهي: المسابقات في الإجازات.. إقامة مسابقات للقراءة الحرة: تضطلع بها وسائل الإعلام: التلفاز، والإذاعة، والصحافة.. والأندية الأدبية، والأندية الرياضية في فترة توقف النشاط الرياضي!
• وبالمناسبة نسأل أيضاً: هل اهتم نادٍ من هذه الأندية الرياضية - رياضة كرة القدم - بإقامة مكتبة كبيرة في مقر النادي: مفتوحة للقراءة الحرة؟!
إن "القراءة" هي: العطاء لثروة الإنسان الأولى والهامة: العقل.. فإذا أهملنا العقل / هذا العطاء المميَّز لقدرات الإنسان، فلا يمكن أن نحقق المكاسب التي نتوخاها من وراء أي عمل يستهدف الارتقاء بالإنسان، والنهضة للوطن.
إن الجهل هو: الذي يفصل بين العقل والنفس.
أما الثقافة فهي: التي تجعل من الإنسان نفساً عاقلة، وعقلاً نفسياً!
• • •
* الحقيقة.. هي: القراءة:
• وانطلاقاً من هذا البحث.. وتواصلاً مع: فكرة العثور على فعاليات فكرية، فهناك حقيقة أخرى تعتبر: القاعدة، أو الجذور لكل سؤال يستنهض دور المثقف، ودور الجامعي الأكاديمي!
تلك الحقيقة.. هي: القراءة!
وبدون افتئات ولا تجنٍّ: نعتقد أن الكثير من الخريجين الجامعيين، لم يفكر في متابعة الدراسة الحرة، ونقصد بها: القراءة لكتاب في مجال التخصص، أو في مجال بحث القضايا والمستجدات المعاصرة، مما يدخل في نطاق القضايا السياسية، أو الاقتصادية، أو الثقافية، أو الفنية، أو الاجتماعية.. التي تهتم بارتقاء الإنسان، وبتطور المجتمعات، وبنهضة الوطن.
• لقد سألت أحد الشباب الجامعي المتخرج حديثاً عن: أحدث كتاب بين يديه للقراءة؟!
ـ وجاءت إجابته مفجعة: لقد أمضيت أكثر من شهرين لم أفتح كتاباً.. كنت منهمكاً في ترتيب الحياة المستقبلية - وهذا حقه الطبيعي - وكنت أدرس ما يتصل بطبيعة العمل الذي سأؤديه وأشغله!!
• سألته: ووقت الفراغ؟!
ـ أجاب: أنام، أو أشاهد المحطات الفضائية.. لقد تعبت سنوات طويلة من التحضير والمذاكرة.
• قلت: والكتب الجديدة التي تتدفق من دور النشر.. ألا يزعجك أن تفوتك قراءة كتاب منها؟!
ـ قال باستخفاف: لن يكون فيها جديد.. إن ما تعلمته يكفي لتصنيفي في عداد المثقفين!!
• • •
* الثقافة.. روافد:
• الثقافة في ذاتها: ليست أساساً.. وإنما هي: روافد!
هذه الروافد: تتنوع بتعدد أسباب الحياة، واحتياجات الإنسان في حياة لا تبقى راكدة كالماء الآسن.
بما يعني: أن محاولة فصل الثقافة عن المعايشة الاجتماعية.. يجعل الحياة نفسها متناقضة، أو جاهلة، أو يعاني الإنسان فيها من الانفصام.. فلا يمكن فصل الفكرة، والتأمل، والمعلومة عن: واقع الإنسان، وعصره، ومعايشته، ومتغيرات جيله، ومستجدات عصره.. ومن هنا: تحدث الخلخلة في عمق المجتمع الذي يرتكب هذا الخطأ الجسيم بفصل الثقافة عن الواقع اليومي، أو عن معايشة الإنسان.. لأن الكثير من الأدوات التي يستخدمها الإنسان، ويواجهها: مرتبطة بالثقافة.. أي بالمعلومة، وبالجديد، وبالتطور.
وما هي أسباب تكريس هذا التغريب الخطير بين الثقافة ومعايشة الإنسان؟!
ـ تقول الناقدة المصرية الدكتورة نهلة صليحة: "ما نشهده في عالمنا العربي الآن هو السيطرة الفوقية عن طريق أجهزة الإعلام.. سواء كانت عربية أو أجنبية، وهذا النوع من البث الإعلامي والثقافي: لا يتجاوب في أحيان كثيرة جداً مع حقائق الواقع الذي يعيشه المواطن في حياته اليومية"!!
الثقافة: ألوان.. وتعني شمولية العلم بالأشياء الأساسية في حياة الإنسان!
الثقافة: ليست وقفاً على المتعلم فقط.. بل هناك ما نسميه: (ثقافة الأميّ).. ذلك الذي يتكلم مما في فكره وخاطره، ويرتبط باهتماماته المعاشية!
وإذا كان هناك بعض الدارسين يؤكد وجود: (أمية القراءة والكتابة، والأمية الثقافية المتفشية في الوطن العربي).. فإن من أهم أسباب ذلك يكمن في: المناهج التعليمية التي أكل عليها الدهر وشرب.. وهي مناهج تُعمق ذلك الانفصال الذي أشرنا إليه: ما بين الثقافة، ومعايشة الإنسان!
(6)
• من يجيب اليوم عن الأسئلة؟!!
ما هو لون "المضامين" التي تدور حولها هذه الأسئلة؟!
ما هي أبعاد "المعاني".. في تضاعيف كل إجابة: نحاول بها أن نسقط سؤالاً؟!
هذه الأسئلة الثلاثة.. تبدو كما الأثافي الثلاث!
أردت أن أبدأ بها الخطوة.. فأجعلها كأنها قرع على بوابة العقل العربي، وكأنها - أيضاً - لمس منبه للوجدان!
وفي البدء... هل تتفقون معي بأننا صرنا: أسرى الأسئلة؟!
وهذا السؤال أحسبه عبارة كاملة، في البحث عن محاولة للتوازن بين ما ضاع من مواقف، وبين ما هو باق.. يتمزق في شعور الإنسان الذي ينتمي إلى هذا العصر، ويعجز أن يخالفه!!
ودعوني أتقهقر إلى سنوات ليست بعيدة.. وأركز هنا عبارة عن: "الناس أسرى الأسئلة".. وقد قالها روائي فرنسي، لم يصدر سوى رواية واحدة.. وقيل إ ن رواياته الأخرى ظلت حبيسة داخل صندوق مقفل، وكأنه حكم عليها بالصمت حتى يموت!
ـ قال ذلك الروائي: "إذا مت.. يمكنكم أن تخرجوها، وحينذاك لن أكون في حاجة إلى سماع كل الأسئلة"!
وقد يتهم البعض ذلك الروائي بالخوف من النقد، أو بالجبن والتستر خلف الموت!!
ولكن.. لا بد أن يكون هذا الروائي قد قال شيئاً من أجل "المعرفة"، أو "الإجابة".
• وقد قيل: "لكي تعرف.. فلا بد أن تسأل"!
والسؤال يبدأ في الإنسان.. مع بداية حياته، وتبلور وعيه.
ولكن أتفه الأسئلة.. هي التي نقف أمامها حائرين، عاجزين عن الإجابة.
وأسئلة اليوم ليست غريبة.. لأنها مستخلصة من أحداث العصر، ومن مشكلات الإنسان، وحول أحاسيسه، ورهناً لمتطلباته ورغائبه.
فنحن الذين نضع الأسئلة دائماً، ونطلقها.. لنحرج بها أنفسنا أحياناً.
وتضيع منا الأسئلة.. لأنه ليس هنالك من يجيب عنها!!
ونكتشف - فيما بعد - أن ما نتوقف أمامه من إجابات.. يأتي مفاجأة، أو تصادماً، أو استغراقاً في شيء آخر.. ذلك لأن الإجابة، ليس شرطاً أن تكون نتيجة، وإنما هي - في الغالب - توضيح أو تفصيل.. يسوقنا إلى طرح الأسئلة مجدداً!!
• • •
• وأعترف لكم أن هذه المقدمة.. جاءت طويلة!
لكني استهدفت مضموناً.. ينبغي أن لا يكون الدخول إليه، والحوار عنه: بطرح الأسئلة!
لقد رغبت أن نتوصل إلى نتيجة.. ربما وجدنا فيها "بعداً" لمعنى واحد من مجموعة معان ضائعة في زحام البحث عن الأجوبة!
إنني - هنا - أحاول أن أكتشف شيئاً!
وأحاول أن أقرع - برقة! - على بوابة العقل.
وأحاول أن ألمس الوجدان... دون أن أجرحه!
إنني أتداخل في العبارة التي خلّفها وراءه الروائي الفرنسي، وأنبش الصمت المخيف الذي يخيم على الفكر العربي، منذ أن أخذتنا دوامة الهموم السياسية، وحلقات الإرهاب، والعدوان، ومحاولات التدمير لروح الإنسان العربي.
ولا بد أن أنبش هذا الصمت.. الذي يخرس العاطفة في وجدان المفكر، والفنان، والشاعر، والأديب العربي.. منذ أن تحولت الكتابة، وتحول العمل الفني والإبداعي.. إلى: هواجس، وارتدادات، وتخويف، وتأليم... وإلى ساحة تجارية باهتة!!
إنني استخدم هذا التداخل.. عبر سؤال يضج قائلاً:
• ما هي الأسباب التي صدّعت الفكر العربي، وشرخت الكلمة العربية، وظللت وجدان "المبدع".. إلى درجة الذهول، والحيرة، وربما "الانفصام" أحياناً؟!!
ويمتد السؤال أكثر، ويحتد ويستطيل!
وتكتنف السؤال أبعاد عديدة.. إذا اتفقنا أن المعاناة في إحساس الإنسان العربي عموماً.. هي معاناة تتعاظم وتتكثف بأسباب الألم الذي يتعرض له، ويكتوي بناره!
ولا بد - إذن - أن تصيغ هذه المعاناة إنساناً: بوّاحاً، فناناً، مبدعاً.. كثير العطاء، لأنه عميق الجراح.. متصل النزيف!!
فكيف يكون هذا حاله، ويغمره الصمت، ويغيبه الترمد؟!!
ولو ألقينا نظرة على معارض الكتاب التي تقام في الأقطار العربية.. فإننا سنكتشف غياب الفكر الجديد.. وهروب الكاتب، وحتى القارئ العربي، إلى الكتب التراثية، ولعلهم يلوذون إلى الكتب الدينية!!
وليس في هذا الاتجاه ما يشكل معابة.. فالدين والروح، هما الملاذ، والشاطئ للنفوس، وللعقول القلقة.. في عصر يتسم بالقلق!
لكننا - بجانب هذا - نفتش عن الإبداع، وتجديد الفكر!
ونجد أننا قد استغرقنا في مناقشة موجة أطلقوا عليها: "الحداثة"!
وكأننا - بذلك نبدو مثل المأخوذين، أو المسيرين!!
إن "الحداثة" تخلو من هدف التطوير، أو معناه.. فهي لا أكثر من تقهقر إلى مدارس أدبية كاد الزمن أن يطويها.. وقد ظهرت قبل أكثر من سنوات صارت بعيدة، ومنها: البنيوية، أو الألسنية، وتفرعت إلى: بنيوية لغوية - ألسنية - وبنيوية ثقافية، وبنيوية نفسية أو سيكلوجية، وبنيوية أيديولوجية!!
وثارت الكلمات، واحتدم الجدل، وانشق الصف الأدبي العربي إلى: كتَّاب تقدميين وكتَّاب رجعيين، مثلما حدث في نهاية الخمسينات، وبداية الستينات في إلصاق مثل هذه التهم على الأنظمة السياسية! وانشق الصف الأدبي العربي إلى: خلافات... وحفل بإسقاطات عديدة!!
ولم يكن ذلك "التحديث" أكثر من محاولة: بعث لمدارس تجاوزها الزمن والعصر، وكانت تشكل ظاهرة في حين طلوعها.
وهذا يعني شيئين:
• إما أن يكون المثقف العربي متخلفاً عن ركب الثقافة.. فلم يصل إلى هذه المدارس الأدبية، والفكرية، والأيديولوجية، والسيكلوجية، إلا متأخراً.. بعد زوالها، أو خفوت صوتها وفعالياتها!!
• وإما أن يكون المثقف العربي اليوم.. يعاني من الفراغ الفكري، والوجداني أيضاً، ومن التفريغ لإبداعاته، ولرؤيته، ولقدراته!
ولعل المثقف العربي مظلوماً إلى حد ما.. لأنه يمثل شريحة من شرائح الأمة العربية، التي اكتوت وما زالت بحرائق الخلافات، وبهجمات الأعداء الشرسة، وبتقلب الأنظمة العربية، وانفعالات بعض تلك الأنظمة!!
وكأن المثقف العربي يبحث في هذا الضجيج، والتلفت.. عن الخلاص، وعن الرؤية الثاقبة، وعن كل ما يفجر طاقاته وملكاته الإبداعية!!
• • •
* وقفة.. يعقبها سؤال:
• ونعرف أن نسبة المفكرين، والفنانين، عموماً.. تتضاعف، وتتوهج، كلما تضاعفت آلام الأمة، واشتعلت أحزانها.
وقد قيل: إنه من نتائج استطالة الزمان على الشعب الفلسطيني، وأرضه المحتلة: أن بزغ من أبنائه شعراء مقاومة، وأدباء القضية، وفنانو الألم والأحزان! ولكن... ما لبث ذلك البزوغ أن غرب، وترمد الوهج، واضمحل صوت شعراء المقاومة وأدبائها!
ولا بد أن يعترضني قارئ، أو مثقف.. ويسألني:
ـ وأين تختفي بشعر "محمود درويش" و "سميح القاسم"؟!!
ولا خلاف أبداً على موهبة الشاعرين، وإبداعهما، وحسهما الشعري والثوري!!
إن الخلاف هو على ما قدماه طوال نضوجهما الشعري؟!
وهذه الوقفة.. تجعلنا نبادر إلى طرح سؤال محوري يخص الشعر العربي المعاصر:
• إلى أين وصلت القصيدة العربية اليوم؟!
• إلى أين أوصلت القصيدة العربية قومها؟!
وستحدث في إثر هذا السؤال المشقوق إلى نصفين: ضجة، وخلخلة وتساقط بعض المقاعد!
إن الالتفاتة إلى "الواقع" الذي يكتنف العالم العربي - بكل ما فيه من تضارب، ومحن، وانفلاشات في الوجدان - تبلغ بنا إلى حقيقة مؤكدة ترتفع بدور الشعر، وبقيمته في التاريخ العربي، منذ الجاهلية، وكان الشعر أهم وأخطر تناول "إعلامي" واجتماعي... استخدمه العربي، وحقق عبره الكثير من مطالبه، ونشر أفكاره وسكب وجدانه!
وكان ذلك كله يلتئم في الصفة القائلة:
ـ اللغة العربية.. هي اللغة الشاعرة!
وقيل عنا: الناطقون بالضاد.. وقد استهلكنا حرف "الضاد" بكثرة وبتزاحم.. حتى وضعناه في غير محله!
وصار حرف "الضاد" في القاموس العربي الحديث.. يشكل هذه الكلمات:
• ضرورة. ضعف. ضرب. ضغينة. ضعضعة. ضمير. ضمور. ضحايا(!!) وكان يقودنا التحديق في معاناة الإنسان العربي إلى معايشة قضايا عصرنا، ومشكلات جيلنا، واضطراب أيديولوجية الإنسان المعاصر!
وفي الأدب والإبداع.. صرنا - من خلالهما - نمارس أشكال الرغبة الذاتية، وننساق وراء تركيبات تشمل: المجتمع، والتعامل، والفكرة، والنفس، والظن، وربما... الخيال!!
كان "المبدع" العربي اليوم يخبط رأسه في جدار الدهشة، وعاطفته مشغولة بتفاصيل ماديات الحياة، وعقله مشحون باستخلاص "الخلاصة" لكل ما هو جديد ومقتحم، وأخاذ!
وإذن؟!!
يبدو أن الأديب العربي، والفنان، والمفكر، وحتى الدارس... يبحث كل منهم عن تطلع جديد يعرفه ويئن تحت مطارق المطالب، والظواهر، والتظاهر!!
(7)
• أن تحارب، أو لا تحارب...
أن تكره، أو تصبح مكروهاً!
أن تحب، ولا تنتظر المقابل... أو تتحول إلى آلة بليدة!!
إنّ القتل.. طلقة رصاصة واحدة، تقضي على كل شيء.. أو طلقة كلمة - مجانية - أو موتورة، أو منحرفة، أو كلمة جائعة.. وينتهي كل شيء!
وإذن.. ما الذي يعطيه "الشعر" مثلاً في هذه القوانين البشرية؟!!
جاء شاعر حائر.. بين شيخوخة العالم، وبين شباب العلم، وقال هذه العبارة بصوت مرتفع:
• "إن القطاع الأكبر من شعرنا العربي التقليدي.. قد استهلك من القماش اللغوي ما يكفي لكساء كل سكان الصين"!!
وقائل هذه العبارة هو الشاعر "نزار قباني" - الذي نشتمه على صفحات الصحف، وندخل قصائده في مخادع نومنا - ونغار منه، ونصفق له، ويشتمنا.. ونقدم له نخبه!!
و "نزار قباني" شاعر مبدع، ومبتكر في قماش اللغة، وفي الصور الشعرية.
ولكن.. أين يقف "نزار" الآن، في تجديد التجديد... هذا الذي تفشى في السنوات الأخيرة، وهو "منثور" متورط في عدة مصطلحات، ومدارس غريبة؟!
أم أن "نزاراً" ما زال يرتبط بذلك "التجديد" الإبداعي الحق، الذي أخرج فرساناً للشعر، بدءاً بالسياب، ونازك.. وتواصلاً بـ "عبد الصبور"، و "حجازي"، وحتى "أمل دنقل"؟!
قرأت أن "القباني" و "درويش".. ما زالا يقفان أمام باب "المتنبي" فتوناً، وانبهاراً!!
وهكذا... هناك من يتحدث، في الجانب الآخر، عن محاولة إنقاذ "دور" الشعر في عاطفة الجماهير العربية، وفي قضاياهم... لأن الإغراق في الرمزية، وباللفظ "السريالي"، وبالصورة الشعرية ذات الشكل التكعيبي... هو لجة، واضطراب نفسي، يعاني منهما هذا الجيل!
لماذا؟!!
لأن القصيدة.. لم تعد هي صدى الحدث، بقدر ما جعلها هؤلاء - بأقل أدوارها -: حدث الصدى!
ولأن القصيدة، من الجانب العاطفي، لا أكثر من "مناوشة" غرامية، مغرقة في سوداوية الشعور!
ورغم أن قضايا الإنسان العربي اليوم لا حصر لها، وبلغت درجة قصوى من الإرهاق... لكن الإنسان يتلمس جروحه بحثاً عن حدث، وعن إضاءة... أو - على الأقل - ظاهرة لا يتكرر فيها الموت، أو لا تتشابه فيها الحياة!!
صار الإنسان العربي يركب حصان "طروادة"، ويقتحم تجاربه، ومعاناته، وهمومه... من الداخل!!
وصارت تتركز في ذهنه صورة من رغبة "الاسكندر" التي تتطلب: (وجود عوالم أخرى... تمكنه من أن ينقل إليها فتوحاته العاطفية)!!
أو كما حاول شاعر أن يصف العالم، فقال:
• "عصرنا: نصفه قديم، ونصفه جديد... نصفه لم ينعدم، ونصفه لم يوجد على حقيقته الكاملة بعد"!!
• • •
* الشعر.. والمسرحية:
• وفي أصداء تلك الكلمة التى أوردناها - في البدء - على لسان روائي فرنسي... تتذكر أيضاً هذه الصورة، أو الحقيقة:
في تاريخ الشعب: الفرنسي: أن الأدب، والشعر، والفكر، قد ازدهروا إبان المحن، والقلاقل، وموجات الزيغ والتخلخل.
وخلّد تاريخ فرنسا: أسماء أولئك المفكرين، والشعراء، والفنانين... وما زالت أسماؤهم، وما زال تراثهم، متداولاً حتى اليوم!
ولا شك أننا نجد صعوبة، وتجنياً في استعجال "الأحكام" على شعراء هذا العصر العربي... سواء على شعراء الأقطار العربية، أو على شعراء المقاومة الفلسطينية بالذات!
إن "الاحتلال" لم ينته.. بل دخل العرب جميعهم في دهاليز أكثر ظلاماً.
لكننا نطرح الأسئلة على المسافة العربية الأطول.. ولا نحصرها في شعراء المقاومة. ولا نحصرها في الشعر العربي وحده.
إننا نتساءل عن الفكر العربي، وعن الإبداع العربي: شعراً، ورواية، وقصة، ومسرحية، وبحثاً، ودراسة، وكلمة إبداعية... تخرج من التأمل المذهول أحياناً، إلى نطق يدل على معنى جديد!
وإذا توقفنا أمام الشعر... فربما نقول: إنه مزدهر الآن، بنسبة عدد الدواوين والأمسيات الشعرية، والقصائد المنشورة في الصحف والمجلات!!
وكذلك القصة القصيرة.. تواجه المتغيرات، والتقليد للمدارس الغربية!
أما المسرحية... فإن ضآلة ما يصدر، لا يبلغ مستوى ذلك الإبداع الذي طلع به "توفيق الحكيم" وجيله عموماً!
والرواية ما زالت "تراوح" بعد صمت "الطيب صالح" وشيخوخة "نجيب محفوظ" الإبداعية... كأن على الساحة "عبد الرحمن منيف" و "حنا مينا" ومن بعدهما: الطوفان!!
وتبقى الدراسات ويغلب عليها الطابع "الجامعي" ولا نقول "الأكاديمي"... ولكنها تحدث أصداء!
ويجدر بنا أن نتوقف قليلاً أمام "ظاهرة" أخرى تطغى على اهتمامات وشعور، وتوجه الكاتب، والفنان، والشاعر، والأديب، وهي: الانشغال السياسي!!
ولا بد أن انسياق كل هؤلاء وراء السياسة، يحدث أحياناً، وكأنه "سوق" ويتمثل في كل ما تفرضه المتغيرات السياسية، أو عدم الاستقرار السياسي في العالم العربي... ويتمثل في تراكض الظروف التي تمر بها الأمة العربية، وتداخلها، وتمويهاتها!!
لم تكن السياسة في تاريخ الشعب العربي متسلطة على فكره وفنونه، كما هي في هذا العصر... بحكم المكتنفات التي وجد نفسه في وسطها... دفاعاً عن أرض سلبت منه، أو حرية غابت عنه، أو حواراً، يستشرف توضيح مطالبه وقضيته!
وتذكر كلمة قالها الشاعر الرقيق الراحل "كامل الشناوي" حينما سألوه:
ـ هل صحيح أنك شاعر مقل... لا تكتب القصيدة إلا بعد عام، أو في أقسى إحساس بالأسى والحزن؟!!
ـ فأجاب: أما الأسباب التي جعلت مني مقلاً، فهي تكمن في السياسة، العنوا السياسة لأنها أفسدت أحلامنا، وشوّهت خيالنا، واعتدت على اطمئنان نفوسنا!
أما أقسى إحساس بالأسى والحزن.. فذلك شيء نحياه بلا انقطاع، طالما أن لنا أرضاً مسروقة، أو أخاً يذله احتلال المستعمر... فالقسوة تزيدنا نطقاً، وصهراً، وإصراراً على البوح... ولكن السياسة تسرق دموعنا إلى الصبر!!
• • •
وفي تاريخ الأدب العربي.. عرفنا أن أكثر الفنون قد تصاب بالذبحة، وتغيب زمناً، ما عدا الشعر... هو الذي يصمد، ويجول، ويُحدث الزحام الشعوري في صدور الناس!
حتى الشعر... هزمته اليوم هذه الظاهرة العصرية!!
والفكر.. أكثر تأثيراً، وكان من المفروض أن يؤثر في السياسة، بدلاً من أن تؤثر السياسة عليه وفيه.
وهذا يعني: أننا نعايش عصراً يرتكز على "فن السياسة".. لأن هذا "الفن" - إذا قبلنا بالتسمية تجاوزاً! - هو الذي يتحكم في مستقبل الشعوب... في حريتها وعبوديتها وحضارتها، ودمارها!
والسياسة العربية: مرتبطة بالسياسة العالمية التي تتضح قذارة، وبغضاء... ضد الشعب العربي!
وغالباً ما تفشل السياسة في هذا العصر، لأنها قفزت فوق إمكانية فنونها، أو فنِّها... وصار البديل لها: الصاروخ، والقنبلة، والقنبلة، والأسلحة التدميرية البشعة، والكيد للشعوب!
ونتيجة لذلك... فإن نفوس الناس وأرواحهم، قد بلغ التحول فيها إلى درجة الجفاف... فهي نفوس وأرواح: مكسورة، وكسيرة، ومدببة... ومن الممكن أن تجرحك، ويستعصي علاج نفسك أو روحك.
إن الأديب، أو ا لمفكر، أو الشاعر العربي... في صورة يبدو فيها وكأنه يدخل رأسه في جحر، وخلفيته في العراء... ومن حوله: أعاصير، وشموس حارقة، وليل ممتلئ بالأشباح، وأصداء عنيفة... فلا هو قادر أن يخرج رأسه من الجحر، ولا خلفيته تدرك ما حولها!!
(8)
• إن الأرض - حينما تكون بيتاً يأوي - تصبح هي قضية: "الخطوة الفاعلة" لتوسيع الحجم التاريخي.. لئلا يفقد الإنسان المواطن: تراثه، وقيمه، ومنجزاته.. ولئلا تبهت بعد ذلك حوافزه!
• إن الأرض - حينما تكون جسد الانتماء الذي تتعامل معه وسائل الحياة الإنسانية - تصبح هي قضية: الغذاء، والصحة، والوعي، والتنمية، وشرف القيمة الإنسانية!
ولا بد أن تتبلور هذه القيمة المرجوة في رأس المواطن: عاملاً، وموظفاً، ومنتجاً، وصاحب رأس مال، ومفكراً، وفناناً... لتأتي بحجم لا نذرعه لمعرفة مقدرتنا على المشي، وإنما لمعرفة إمكاناتنا التي تثمر ما نستطيع أن نبذره ونزرعه فوق الأرض، وفي ضمير الإنسان ووعيه.
• إن الأرض - حينما تكون برتقالة ناضجة - تصبح هي قضية "الأمل" التي نرفض عبوديتها وامتهان المصالح الشخصية لها.. ونتصاعد بها لتكون حريتنا!!
• • •
• من هذه المنطلقات.. تتجسد المتطلبات "الانتصارية" في رحلة الإنسان إلى الغد.. بكل طموحاته، وهمومه، وأحلامه، وأمانيه، وجهده، واجتهاداته.. فتصاغ في قالب المسؤولية، وتنتصب عهداً وعشقاً للأرض!
وبذلك... يفني الإنسان من أجلها نبضه، ويسفح عرقه، ويرخص دمه... ويتصاعد بهذا العشق إلى ذروة الإخلاص للتراب، والإخلاص للقيم وللمبادئ.
وحينما نتلفت إلى دور الفكر، والعلوم، والفنون.. لا بد أن نهتم "بأرضية"، ليس شرطاً أن تكون ممهدة.. بل هي بالغة الوعورة، لتكون هذه "الأرضية" تمثيلاً لانبثاقة نطق فكري وإبداعي.. نجعل الحوار عنه مستشرفاً أبعاد المصلحة الوطنية، والوفاء للتاريخ الحافل بأمجاد عريقة وتليدة.. أعطتنا غلاوة الحقيقة، وتمجيد الشعور الإنساني!
تلك "الأرضية" هي التي تحاور واقع الفكر العربي، والإبداع العربي.. على امتداد سنوات مزدحمة بالأحداث، وبالتحديات، وبالضنا لمشاعر الإنسان العربي، وبالتمزيق لإرادته!!
• • •
شعراء المقاومة:
• ولعلني لا أرغب أن يكون البدء من صرخات "شعراء المقاومة" الذين تكاثروا بعد نكسة 67، ثم تقهقروا!!.. فكأن هؤلاء الشعراء - اليوم - يلوحون بما يشبه "توصيات نضالية".. لها صوت محدود، ولكنها - في الغالب - تخطئ مرماها!!
إن "المرمى" لم يعد أمامنا: هدفاً محدداً... ورغم ذلك، فنحن نحاول أن نجعل لكل سهم نطلقه: نقطة يحفرها.. فلا تكون بريئة، ولا يكون الفكر أو الفن العربي: بريئين أيضاً!!
حتى اندلاع الحرب الرابعة في "العاشر" من رمضان.. كان شعراء المقاومة يتعاطون "سوائل" الثقافة، ويعطون للقارئ العربي: "طلقات" تحدث صوتاً، ثم تخمد... وتضيع في الصدى!
إن "محمود درويش" و "سميح القاسم".. لم يجدا وظيفة أخرى، سوى توجيه رسائل إلى بعضهما البعض!!
ونجد تلك الرسائل تفيض بالحزن وبالأسى تارة، وباللوم والتقريع تارة أخرى! كذلك.. فقد "أطلقت" تلك الرسائل: قذائف من الكلمات الثورية.. المبددة في مناخ الواقع العربي المؤلم!!
إن "درويش والقاسم".. جعلا من فلسطين: برتقالة حيناً، وجعلا منها: جمرة حيناً آخر، وجعلا منها أيضاً: أنثى فاتنة.. معتدى عليها!!
إنهما جعلا من فلسطين موضوعاً لتجربة "تأملية"!!
هذه التجربة فاضت من قصائدهما، ومن كلماتهما المتبادلة!
وليس هذا الرأي طعناً في شاعريتهما المتفوقة، ولا في ثقافتهما الباهرة.. ولكننا نطعن يومياً بكل كلمة تخرج وكأنها رصاصة فاسدة.. ترتد إلى صدور مَنْ أطلقها!!
ولقد قيل قبل الآن:
ـ إن شعراء المقاومة.. لم يكونوا أكثر من "ظاهرة"، برزت صحية في البداية، ثم تراكمت عليها نفس القشور التي تراكمت على الفكر العربي، وعلى التحرك النضالي العربي(!!).
• • •
* الأدب.. والإعلام:
• بعد هذا.. سأتوقف عند نقطة حوار أخرى.. تلح على وجوب الفصل بين الأدب - كفكر وفلسفة وفن إنساني - وبين "الإعلام" المسؤول عن وضع الحقائق المباشرة..
فنحن أمام إعلام مكثف، وذكي، وخبيث.
وتحت إمرة العدو الإسرائيلي الآن: أقوى، وأنجح وسائل الإعلام.
لقد اشترت إسرائيل العديد من الصحف العالمية - أميركية وأوروبية - والعديد من الفنانين: ممثلين، وممثلات، ومنتجين سينمائيين، ورؤساء دول كبرى كانوا ممثلين!!
وانتشرت دور النشر الناجحة في تصدير ملايين النسخ إلى العالم... وبهذا العمل، نجحت إسرائيل في تشويه عدالة القضية العربية عموماً.
فكيف يمكن الفصل بين "الإعلام" والأدب والفكر والفن؟!
وأين هو الفكر، أو الأدب، أو الفن.. الذي ما زال - حتى الآن - بعيداً عن مطلب صبغه بالإعلام؟!!
وما هي الجدوى التي نبتغيها من وراء كتابة عمل أدبي رائع... إذا كان هذا الأدب بحثاً خالصاً، غير متفاعل مع الأمة ومصيرها؟!
• "برتراند راسل" - على سبيل المثال:
ـ كان يخرج من بيته مع ساعات الفجر الأولى، ليجد مجموعة كبيرة من العمال والطلبة والموظفين، في طريقهم إلى أعمالهم.. فكان يقتعد الرصيف في مدينة لندن، ويتحدث عن حرية الشعوب وعن السلام.. وكان ينجح في استقطاب كل هؤلاء العابرين من أمامه، ليتحولوا إلى مؤيدين له.. يشكل منهم مسيرة تطالب بحقوق الإنسان، وبالسلام على الأرض! وهذا العمل الذي كان يفعله "راسل" هو: إعلام ناجح ومباشر: وميداني.. ويبدو أنه أكثر تأثيراً وفعالية من كتاب يصدره، وفي محتواه أدب فني بحت.. مترف العبارة، أو مليئاً بالصراخ والانفعال!
• وموقف الشاعر الإسباني "فردريكو لوركا"... تبلور من خلال توظيف الكلمة من أجل الحرية، ومحاربة الفاشية، فكانت كلمته "إعلامية" أكثر منها أدبية، مخملية، أو حتى فنية!!
• والمواطن الأميركي الذي سمى نفسه: "مواطن العالم" - توم بين - أطلق كلمته المشهورة جداً:
ـ "والعالم قريتي"!!
وأصدر كتابه: "المواطن توم بين"... وقد جعل الفلسفة فيه إعلاماً، والأدب إعلاماً، والرواية إعلاماً.. وبرغم أنه "يهودي" لكنه لم يكن عنصرياً، ولا صهيونياً.. بل حقد
اليهود عليه بعد ذلك، ونبشوا قبره إمعاناً في احتقاره!!
• • •
* مسؤولية المفكر والفنان:
• ولا ينبغي أن نحصر "الإعلام" الذي نتحاور عنه في معناه المحدود، كوظيفة دعائية، رسمية.. ولكن المقصود بالإعلام هنا: كيفية النجاح في الوصول إلى فكر العالم وفهمه، وفلسفاته، وأدبه وحتى "مصالحه".. وذلك بواسطة نشاط مكثف يجعل للكلمات قسمات وانتماء وأبعاد تخدم قضيتنا في انطباع الآخرين وقناعاتهم.
إن مسؤولية المفكر والأديب والفنان.. تلح عليهم جميعاً أن يفكروا بضراوة، وأن يكثفوا الجهد، وأن ينطلقوا بأصواتهم إلى العالم.
لقد دخلت الكلمة العربية - بعد نكسة 67 - إلى مرحلة: تقريع الذات العربية.. أو ما وصفوه باسم: النقد الذاتي، الذي تحول فيما بعد إلى "ماسوشية" تمارس ضد فكرنا وحوافزنا العربية.. تلك "الماسوشية" التي تبنتها بعض الصحف العربية التي عمدت إلى ستر الأخطاء، والأخرى التي ركضت وراء تضخيم السقطات.. لتروج نسبة مبيعاتها!
واليوم.. تتطلب منا التحديات، أن نتحدث عن إيماننا بقضيتنا، وبعقيدتنا، وبأرضنا.. وذلك بالتخلي عن خصومة الذات، إلى خصومة الانخذال!
وأكثر ما نتطلبه هو: وضع الحقائق أمام العالم، وإبداع أدب يحمل إرهاص أمة لا تخنع، ولا تلين، ولا تركع ولا تلين، ولا تركع داخل التمزق والخلافات، ولا تنشغل بسفسطات يسميها طلاب الشهرة والظهور: تطوراً، وتحديداً!!!
وليأذن لي - أي محاور - أن أطرح سؤالاً هاماً... هنا:
ـ ما هي الطريقة المثلى لكتابة أدب جديد.. يحقق أهدافاً جوهرية نتطلع إليها؟!!
أحسب أن الطريقة المثلى.. تتوافر في كتابة: أدب حقائق، يصور مراحل نضال الأمة العربية - من المحيط إلى الخليج - وصمودها أمام الاعتداءات والمؤامرات، ودفاعها عن عقيدتها وأرضها.. وأنها أمة لن تموت!!
ونعني بذلك: إعادة الثقة إلى نفسية الإنسان العربي، وإلى مفاهيمه.
ونعني بذلك: إقناع الرأي العام العالمي، وهيئاته، ومفكريه.. بأحقيتنا للأرض التي لنا وللمطالب المشروعة!
فكيف نصور ذلك؟!
وما هو "التقييم" كمعنى.. حتى يمكن أن نصف به ما سنكتبه؟!
إن رواية مثل: "لا تبك يا بلدي الحبيب" القديمة التي كتبها أديب "زنجي".. استطاع كاتبها أن يصور فيها أبشع ألوان الاضطهاد العنصري.. وحملت بكل ما فيها من تكنيك قصصي: عملاً إعلامياً ذكياً وباهراً، وإبداعاً للوطن وللقضية!
ونقف أمام روائي معاصر، مثل: "جابريل جارسيا ماركيز".. فنجد النقاد ينظرون إلى عمله الأدبي الرائع، الذي فجر اسمه في العالم، وهو رواية "مائة عام من العزلة".. فيتهمونه بالانتماء إلى: "أدب الهروب من الواقع"!!
بينما القضايا الإنسانية في عصرنا هذا... تتطلب المزيد من الالتحام بالواقع.
ولكن "ماركيز" يعلل ذلك بقوله:
ـ "ليس قول الناس... إننا نتهرب من الواقع معقولاً، فمن يطالع إنتاجنا في روية.. يعرف أننا مسيسون، ومتورطون أكثر من أسلافنا"!!
(9)
• السؤال الحاد والمباشر.. يصرخ:
ـ ترى.. ماذا يقول الأديب العربي؟!!
ـ كيف يجيب، ويبرر، ويعلل، ويفسر: غياب الأعمال الأدبية التي تلتحم حقيقة مع قضايا الإنسان العربي، وآلامه، وهمومه، ومعاناته؟!
وما لون هذه الأعمال الأدبية: رواية، وقصة، وشعراً، ومسرحية، ونثراً؟!
إن الإجابة عن هذه الأسئلة.. تتطلب: صدقاً، وصراحة، وانتماء شديداً!!
• في الجانب الآخر.. هناك رؤية شاملة لهذا "الكاتب" المتْعَب في كل العالم!
إن خياله.. يقضُّ مضجعه، ويرميه في ألوان من القلق!
إن الكاتب يتصور الناس - أحياناً - في غرفة خافتة الضوء.. كأنهم رؤوس بلا أقدام، أو كأنهم أقدام بلا رؤوس!
إن شيئاً كما تبكيت الضمير.. يلحُّ في ذهن الكاتب، وذلك عندما يفكر في قصة، أو رواية، أو قصيدة، أو مقال يتعاطف مع شجون الناس!
والكاتب الذي يقدر أن يتخلص من ضميره.. يتحول إلى "بائع" لا أكثر!
والكاتب الذي يأخذ ضميره، ويضعه تحت المجهر.. لا بد أن يكون "كاتب التاريخ" الذي يرصد أحداث التاريخ ووقائعه، ويُبرز "الضمير" لأبطال ذلك التاريخ الذي يكتبه، أو ينقله بأمانة من أجندة الزمان!
• وفي وقتنا الحاضر.. تقذفنا المطابع بالعديد من الكتب التي يحاول أصحابها أن "يطبعوها" بصيغة الدلالة، أو الشواهد التاريخية.. وإن جاءت مكتوبة بشكل مذكرات عاصرها الكاتب، أو كان على هامشها!!
وفي باريس - قبل أعوام قريبة جداً - أعلنت نتيجة استفتاء أجرته مجلة "إكسبريس" وصعدت بهذه النتيجة قيمة الرواية التاريخية التي نالت الفوز في الاستفتاء!
ـ وقالوا: إن رواية تاريخية واحدة، اسمها "ليل السلطان" قد بيع منها "180" ألف نسخة.. أما الروايات الأخرى التي تلت هذه الرواية التاريخية في الرواج والانتشار، فقد كانت: رواية للكاتبة الفرنسية "ناتالي ساروت" بعنوان: "طفولتي"، ورواية الكاتبة "مارغريت دورا" بعنوان: "مرض الموت"، ثم مذكرات الفيلسوف "جان بول سارتر"!!
ولكنَّ كل هذا الزحام - غير الشديد - في المكتبات، هل هو المطلوب - فعلاً - لقراءاتنا.. أم أن المطلوب هو: الاهتمام بروايات الخيال العلمي مثلاً، أو بحكايات السحر والجان؟!
ولقد قدَّمت المطابع في فرنسا أحدث كتب الخيال العلمي، للكاتب الأميركي المعاصر: "جاك فالانس" بعنوان: ثلاثة آلاف عام... وهذا الكتاب يعتبر امتداداً للنهج وللتكنيك في القصة الخيالية التي ابتدعها وأجاد فيها العالم الفرنسي "جول فيرن"!
لكنَّ "فلانس" زاد على "فيرن" بأن أدخل التكنولوجيا الحديثة، والعلاقات الدبلوماسية في مضمون وبناء قصته الجديدة.
وقبل ذلك.. أصدر هذا الكاتب الأميركي كتابه باسم "الأحلام" الذي يتخيل فيه تحرير العالم من الخطر النووي!
ولكننا هنا - في الوطن العربي - لا نترجم مثل هذه الكتب الجديدة في مضمونها.. لأننا ننشغل بالجدل في قضايا بليدة، أو قضايا تعتبر من المسلَّمات، أو تثير زوبعة في فنجان... ولأننا - أيضاً - نحظر الاطِّلاع على الجديد.. بدعوى الحماية من التأثر بالفكر المنحرف(!!).
• • •
* خيال الكاتب:
• لقد حاولت أن أسترجع مشاعر وانفعال كاتب، مثل: "شارلز ديكنز" عندما كان يكتب روايته الشهيرة: "قصة مدينتين"، وتدوين تلك الأحداث المتلاحقة، والمأخوذة من تاريخ معروف، ومن أحداث حقيقية... ولكنَّ خيال الكاتب، وجمال العرض منه والطرح... جعلا كل قارئ لهذه الرواية يلهث وراء فصولها، ويمتزج خيال الكاتب بتخيُّل القارئ، ليتبلور عام متكامل.. يضجُّ بالمعارك، وبالصراع، وبالحب أيضاً!
ثم نأخذ لوناً آخر من التصوير!
وفي هذه المرة.. يختلف فلا يكون تدويناً للتاريخ، وإنما هو تشريح وتدوين للنفس.. يدخل به الكاتب إلى أعماق الإنسان، ويفتش حتى عن الأشياء الصغيرة.. مع الاحتفاظ بطابع العصر الذي حدثت فيه فصول الرواية، وبملامح البلد أو المدينة، وأهلها.
لنتصور - هنا - مؤلف رواية "لوليتا" الشهيرة: باسترناك!!
لقد كان خياله يتلوّن، ويتقمص.. فيبدو في موقف ما مراهقاً، وفي لحظة أخرى رزيناً حكيماً، و "لوليتا" كيان تجسد بخياله ومنه، أو لعله رمز إلى معنى، أو حياة، أو معاناة في شخصية "لوليتا".. ولكنه أبرزها وانساق وراء طبيعتها وكيانها!
حين ذلك.. يصبح صعباً جداً، عندما يكتشف الكاتب أن خياله هو قائده!
صحيح.. أن في الرواية جوانب عديدة من الحقيقة التي عايشها الكاتب، أو سمع بها، أو جربها.. لكن اللحظة التي يعبر فيها الكاتب عن تلك الجوانب، والتي يكون فيها قسمات وشخصية أبطال قصصه.. هي لحظة توقد الخيال وعبقريته!
إن مسؤولية كاتب الرواية والقصة، وعمل الفكر الإبداعي: أن يواكب التغير، وحركة مجتمعه، والنفاذ إلى نفسيات جيله وما قبله، ومحاولة تسديد الرؤية إلى عطاء الجيل الذي يليه: بيئة، وإنتاجاً، وعاطفة، وفكرة للحياة الأجمل!
• • •
* مبدعون.. أم أصنام:
• إننا لا نريد أن يتحول المبدعون من كتّاب الرواية في وطننا العربي - على قلتهم! - إلى: أصنام.. لكثرة ما نشيد بأعمالهم.. بينما البعض منهم في المضمون، والطرح، وحتى في الإسقاطات.. لم يقدم قراءة جيدة ودقيقة لمعاناة الأمة، ولهموم العصر، ولكل المراحل التي اكتوى فيها هذا الشعب العربي من المحيط إلى الخليج.. ولم يصوروا حتى "المتغيرات" التي حدثت.. إلا بقدر ضئيل، ينحصر في إقليمية القُطْر، كما "رمز" إلى ذلك "نجيب محفوظ"!
دور المبدع العربي: أن يرصد هذه المرحلة، أو الفترة، أو الزمن.. مما يعيشه العالم العربي: سهداً، وقلقاً، وعذاباً، وطموحات، وآمالاً.. بكل ما ينعكس على الإنسان!!
إنها فترة قاسية.. لا بد أن يتحرك فيها: عظماء الرواية العربية بالذات.. هؤلاء الذين يقفون كالأصنام، بعد أن ألّههم النقاد.. ليسجلوا الانطباع النفسي، ورد الفعل السياسي، وبواعث القلق، ومآسي الحروب.. على العاطفة العربية المجرّحة، والتي لم تعد تحتمل المزيد من الخيال القاسي، أو الخادع!
إننا نبحث عن تلك "الأرضية" المفقودة.. لتكون انبثاقة نطق فكري، وإبداعي.. لتلتحم بالأرض: بيتاً، وانتماءً، وقضية للأمل!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1451  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 463 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.