شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سطر...بدفء "إنسان"
(1)
المساء متوقف... أفرط في تشذيب غرور الساهرين، وأشاح عن هدهدة الذين يمضون الليل وحدهم... في انتظار عودة النفس إليهم.
وتنسحب عقارب الساعة إلى كل مكان مليء بالزحام، أو بالضجة، أو حتى بالتأمل والتحديق... فيركض الوقت، ولكن هذا الوقت يبدو بليداً، ثقيلاً، كزجاجة طافحة بالرمل... حينما يبقى الساهر "منقوعاً" تحت النجوم ينتظر!
فماذا ينتظر هذا الإنسان؟!
هل مازال ينتظر عصا الساحرة في حكاية "سندريلا"... وقد أضاع الإنسان عيونه في الوقت الذي كان يفتش فيه عن "مقاس" حذاء تلك التي تواجدت في الهروب دائماً؟!
لقد أصبح الكثير في هذا العالم يركض حافياً، ويفكر بعقل حاف، ويحب بقلب عار من الدفء!
فهل كان - إذن - ينتظر عودة الإيقاعات إلى الحاسة في أذن "بيتهوفن" بعد موته؟!
لقد انتشر النغم.. أصبح النغم موجوداً في ألعاب الأطفال، وفي قرعات طبول الحرب... مثلما هو موجود في مشاعر الساهر وحده تحت نجمة "حرانة"... يترقب عودة "جودو"!
أم ترى هذا الإنسان... ينتظر "مطر العمر في توهج المسافة"... بينما المسافة أصبحت هي القدر المكتوب؟!
يبحث عن التوهج... فلا التوهج يتفاعل، ولا الغيث ينهمر... لكن العالم كله مجلود بالقوة... مسفوح بالصدمة... متمنطق بالخوف من نفسه.
الإنسان... لم يعد هو هذا العالم، بل يبقى في داخل العالم محكوماً بالمصالح، وبالضربة القاضية!
(2)
في انتظار الفرح... تتوقف ريشة الرسام، ويجف حبر الشاعر، ويبح الشادي.
والوقفة - بعد منتصف الليل - لعل هذا الإنسان يعترف أن الناس يزرعون احتجاجهم في حدقتي عينيه، ويديرون ظهورهم مقهقهين في اللامبالاة...
وهو لا يمل انتظار الفرح، وانتظار الحقيقة، أو يستغرق في مزيد من خرافات: الجبل الذي يلد فأراً للعالم!
لعل الإنسان في انتظار "عروس الخرافة"... كما تلك الملامح التي رسمها مرة الفنان الفرنسي "بول جوجان" لفتاة من تاهيتي - جزيرة السحر - فأعطاها عصارة إحساسه وسكب فيها فنه... لكن دائنيه استطاعوا أن يقهروا ذلك الفيض من نفسه ووجدانه، وباعوا تلك اللوحة في مزاد علني بمبلغ سبعة شلنات!!
وفي ذلك المساء المتوقف - بعد سرقة لوحته الأجمل منه وبيعها بالبخس - سهر حتى الصباح... فإذا أمامه لوحة أخرى، رسمها لوجه الفتاة ذاتها... حشد فيها ألمه وفقده، وأعطى منها تعبيراً جيداً فقد رسم وجه الفتاة، وترك هذا الوجه بلا عينين!
كأنه كان يقول لهم: أنتم خسرتم أثمن شيء في الإنسان، وأهم شيء، وهو: الرؤية، وستكون هذه اللوحة شاهداً شد ممارستكم للبخس في الحياة!
(3)
ومازال المساء متوقفاً... والذكرى تسترجع الأصداء من الماضي!
في عام 1539م.... كان ذلك اليوم الذي بدأت فبه الآلام تتعاظم وتتكاشف على الشباب الذي لم يقدر أحد أن يردعه عن احتضان الفتاة التي يراها، وتسكن صورتها في عينيه!
قرر ذلك اليوم أن يغذ المسير، ويقطع الجبال والسفوح على ظهر جواده، وراء "ليونورا" الرائعة... ابنة قائد "إشبيلية" بأسبانية، القائد "ايللوا". ومنذ ذلك التاريخ السحيق...حتى أيامنا هذه، ما زال يعيش في أذهاننا اسم العاشق الشاب "دون جوان تينوريو"... الذي تحول إلى "صفة" نلصقها بالشباب المنطلق في حياته العاطفية، وربما المتهور أحياناً.
لكن "دون جوان" الاسم الأصل... الأسباني الحائز لقب "نبيل"، استطاع أن يمتشق - في أغلب أيامه - سيفاً، ويغرس في قلبه شجاعة دفعته لأن يقول لكل محاول للإعتدء عليه:
ـ "إليك الساحة للمبارزة.. فأما أهدرت دمك، أو تضرجني بدمائي، وأنا مؤمن بأن الموت لن يكون عامل خوف في نفسي... إنما شجاعة من بارزني كانت سبباً في قتلي"!
واستطاع أن يغمد خنجره في صدر القائد العظيم، ذائع الصيت: "ايللوا" عندما تلقى منه إهانات متلاحقة، واستفزازات جاءت كلها أمام "ليونورا" التي شغف حباً بها، برغم عزوفها وصدودها عنه!
كان هم ذلك الشاب، المفتول العضلات، أن يخطف ببصره وجه فتاة نضرة من داخل نافذة بيتها... ليضعها بعد ذلك بين ذراعيه، ويأخذها إلى بيته، وهو الحاصل على لقب "نبيل"، ويضع في أنفها عطر الترف والبذخ المنساب من أرجاء قصور سادة البلاد ونبلائها... فيتعذر على الفتاة حين ذاك أن تلتقط بأنفها رائحة الأرض والناس الذين كانوا في يوم ما أهلها وذويها!
فأرهقه التعب، وهدته المبارزة في كل حين.. من أجل أن يعود إلى موطنه أسبانيا من فرنسا، وفي ذراعه ابنة أرضه "ليونورا ايللوا".
وأفجعه تصميم ذلك الرجل الذي أقنع "ليونورا" بمعنى الحياة الحافلة بمشاعر الناس الآدمية، لأنه لم يكن "نبيلاً، ولم يحز لقب "الكونت".. بل كان يبحث - وهو يدافع عن ليونورا - عن سبب، وحقيقة أهله تحت مقبرة!
واستطاع أن يتزوجها... في اللحظة التي قرر فيها "دون جوان تينوريو" أن ينتحر... بعد أن هزمته امرأة، وهو الذي كان مثالاً، وأسطورة تكاثر حول مكانها الجميلات.. ممن كانت مقاومتهن منهزمة أمام إغرائه!
(4)
وقبل سنوات.. أثاروا حملة شعواء على أنثى لبنانية، كانت تعشق الكتابة والكلمة، وكتبت عن الشباب الضائع في حمى صوت الطبول والرقصات المشهورة آنذاك: مثل: التويست، والهالي، والتاموريه، حتى "السيرف".
وعلت صرختها قبل أن تصمت نهائياً، فقالت يومها:
ـ "إن الشبان هنا يحلقون رؤوسهم كما كان نابليون يحلق رأسه، والنساء تلبس ثياباً استوحاها مصممو الأزياء من ثياب نساء نابليون"!!
وكان هذا الصراخ في عام 1964م، في قمة الصرعات، و"الموضات" وجنون الشباب!
فما هو نوع الصراخ اليوم في عام 86، وبيروت قد تهدمت، والشباب لم يعد يمتشق إلا نفسه؟!
مازال المساء متوقفاً... يفرط في تشذيب غرور الساهرين!
مازلت متفائلاً بقدرة الوعي على عودة النفس النقية!
مازلت أنتظر الإنسان!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :788  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 49 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج