شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدمة
بقلم الفقيه الأديب الشاعر الأستاذ/ ضياء الدين رجب
الكتابة عن الشعر والشعراء طلبة من طلاب نفسي التي حاولتها جهد الطاقة وفوق الجهد من قديم فارتدت النفس عاجزة ارتداد اليأس اليائس والفشل الفاشل تلمستها تلمس الثقة بالقدرة وتشهيتها تشهي الحس والهوى فما أجدت الثقة ولا أسعف التطلع.
وتناءيت وتدانيت.
تناءيت صوب الطلائع البعيدة في أبعاد الفحولة العتيدة الغابرة التي كنت أجد في أعماقي تجاوباً مع أعماقها وانفعالاً مع انفعالها وإعجاباً أصيلاً من عهد امرئ القيس إلى الوليد بن هانئ حتى شوقي وحافظ وبشارة وأبي ماضي وأبي ريشة ولكني أبت نفس الأوبة ورجعت نفس الرجعة.
وتدانيت أستعذب التداني وأستحضر المغاني من بلادي الحبيبة وأرواح الشعر والشعراء الحائمة حولها من لدات العمر ورفاق العهد متوسلاً بالقربى القريبة في الحُبّ والود والشؤون والشجون المتلاقية ولكني أيضاً لم أجد بين كل هذه الدوافع الدفع الذي أتحرى والحفز الذي أتقرى.
فصمت على مضض متحرك متحرق وأطعت طاعة المعاند تحت ضغط الواقع إلا عند الأشد. وكانت زحمة محيرة لو نطقت بها لم أجد المصدق وفعلاً عشت مضايقات نفسية حادة بالنسبة لأحباء وأصدقاء طلبوا إليّ أن أقدم لدواوينهم أو أن أعطي الرأي في آثارهم وإنتاجهم وضاع القصد بين حيرتي الخفية وبين ما لا أدريه من تفسيراتهم لسلبيتي حتى الآن والله من وراء القصد.
وجمدت تجاه هذه الظاهرة جموداً عجباً تارة أرده إلى أن الباحث في شعر شاعر ما لا بد أن يكون له بذلك الشاعر ما للشاعر نفسه مع شعره من مزج وائتلاف وصدق صادق متجاذب في عمق السويداء ومسارب الحس الشفاف، وحينئذ يستطيع أن يجد روح النفس الشاعرة في روحها الحاضرة وينجو من دهقنة الصنعة وحوار الأداة واستعراض العضلات وهنا أمام هذه الفلسفة كان يتزايد معي الشعور بالنقص.
وتارة أخرى أعزو تلك الظاهرة إلى شيء في نفس تلك الظاهرة وكأنه عمق العمق أو سر السر هو أن المزج الروحي بين الباحث والشاعر والالتقاء العاطفي والزحمة الوجدانية والمعاني الأخوية ربما هي التي تخلق العقدة في إطار تصويري عجيب. ذلك أن تلك المنزلة وحدها التي تملأ النفس الباحثة بالحرج وخلق الريبة وبعث الاتهام بالمحاباة ويصبح الباحث في ظل هذه النظرة وكأنه باحث شعره فلا يجد من أبواب السلامة غير اللجوء إلى الصمت يخرج به عن لا ونعم.
ومضى بي الزمن إلى خبيئه الذي لم أقدر له في سالف أيامه قدره، وتغلف ذلك الخبئ في ثوب نقي صاف من ود ما زال يشف ويرق حتى استوى - أخوة صادقة وصداقة مطمئنة واثقة تتلاقى على ركائز في معان جلية الظواهر متفاعلة مع وشائج خفية البواطن وبين هذين صدى متلامح كنت أحسه وحده المشعل الرائد في شعاعه الهادي الألوف ذلك هو الأدب الجامع والشعر بإحساسه الدافع وما لبث أن كان ذلك الإشعاع وسيلة لغاية ومقدمة لنتيجة وسمعت من شعر صديقي الأستاذ/ إبراهيم أمين فودة سماع السر في ندواته بالقاهرة ولحظات المناسبات العابرة وأخذت أحس شيئاً يتدرج في نفسي عن شعره يغاير ما كان عالقاً بها ونحن في الحجاز ولا أكتم القارئ أن ذلك الذي كان عالقاً بذهني عن الصديق الفريد صاحب هذه الدواوين التي أكتب عنها الآن أن منزلة شعره تأتي بعد منزلته النابهة عندي ككاتب.. كنت أقرأ له وأسمع أحاديثه وخطبه المرتجلة وغير المرتجلة وطال المقام في القاهرة وطال التعرف إليه شاعراً بكثرة ما سمعت له ومنه في مختلف الأغراض وفنون الألوان وألوان الفنون ولأني وإياه في جو الصداقة وحبكة المقاصد وزحمة النوازع المتشاكلة بيننا والمتصالحة على نسق واحد موحد من الأهداف والاتجاهات كأنما تراضعت من ثدي أم واحدة وانحدرت من صلب أب واحد فقد كان شعر الأحداث ومشاكل الوقت والحال هو الغالب الراكز على مائدة أحاديثنا المتواصلة المتصلة ومن شدة الإفاضة والاستفاضة كدت أعتقد أنه صاحب هذا النمط وفارس هذا الميدان فحسب وإذا بي أو إذا به على الأصح يستطيع نقلي بين فينة وفينة إلى أجواء أخر كأني بها وقد استوعبت أغراض الشعر كله ثم خوضت فيه ثم زادت عليه سعة واتساعاً.
ثم رتب دواوينه في صمت وبوبها في أناقة رتيبة رتابة أفكاره ونسق حواشيها كتنسيق معانيه فحركني كل ذلك إلى أن أتطفل وألتمس منه أن يسمح لي بقراءتها وقصدت بيني وبين نفسي أن تكون مطالعتي متعة ورواية وما عتمت أن وجدت نفسي تتحول من الرواية إلى الدراية وبدأت - بديوانه الأول "مطلع الفجر" والظن عندي أنه باكورة حياته وومض ما قبل العشرين، فإذا بذلك المطلع مطالع متوهجة النسج الرقيق طابعها والثقة في النفس حقيقتها في نفس عال مديد يذكر بأنفاس قديمة بعد العهد بها وعجبت في طرب لأن المسألة ليست شعراً مجرداً فقط بل معان دافئة دافقة خشيت أن لا أجده فيما سأتلوه مما كان بعد تلك الفترة مكنة في اللغة تصارع مكنة أولئك المتعمقين المتخصصين في فقه فلسفي لحقائقها ومنازعها ومشتقاتها اضطررت معه أن - لا تكون اللغة عندي محل بحث للشاعر في شعره بحال من الأحوال حتى تصورت طموح اللغة إليه وتطلعها نحوه يفوق تطلعه هو إليها لأنه قد تحكم فيها إلى درجة المحاصرة من جانبه وخفت أن يشتد عليها ضغطه فلا يقبل إلا أن يطوعها مهما شمست ونفرت فتلين على إبائها لإبائه المتولد من ذات نفسه ومعاني خلقه.
لأنه يريد بإصرار أن يخدم السياق غرضه لا أن يذل غرضه لقيود السياق إنه بحق سامق النظرة طامح الفكرة يصنع لها وهج النبرة غير محكوم بها إلا إذا انحكمت بنفسها من نفسه وبحسها من حسه.
ما وجدت فيه تأثراً بأحد لأنه هضم ذخائر الإعجاب في كل ما أعجب به ولم يبق إلا النور الواسع الشائع يتحرك بطبيعة مزاجه في مزاج صنعه فكأنه لا يذكر حين يكتب شعره أو نثره غير نفسه، هي رائد وهي رافد وإن كانت هذه النظرة على عمقها زاحفة على أني لا أسميها زحفاً بقدر ما أفضل أن أعتبرها اعتداداً.
إنه يريد أن تحمل الألفاظ والعروض والموازين من معانيه فوق طاقتها كما يحمل هو في اتساع آفاق المعاني الكريمة فوق طاقته أنه غيور على حرم ذاته في شعره غيرته على محارمه ومكارمه.
ولا أنكر أنه صرفني عن شعره إليه وهذه وحدها قوة من قواه المتسلطة أريد أن أعبر بها إلى منزع من منازع الرأي عندي بالنسبة لشعره.
تلك أن ملكة الشعر بخاصة والأدب بعامة عند شاعرنا الكبير إنسانية محضة منها يرد - وعنها يصدر إنها المنطلق الرحب الذي أوحى إليه ما أوحى فالشعر الوطني مثلاً كله إحساس بكرامة الإنسانية وانبثاقات حادة الانبلاج تبلورت شعراً حساساً يريد أن يربط بين الأبعاد الإنسانية في منافذ المجد الإنساني المتحرر في كرامة. السليم في منعة وسداد وقوامة والحركة الفكرية في أدبه وشعره سخاء وضن في آن، سخاء بالنفس ومقدرتها ومقوماتها حيث يذيبها في كؤوس شفافة بلورية كل حرصه أن تساغ كما يساغ عطاء كريم.
وضن بها أن تحصرها القيود والإطارات التي لا تمثلها ولا تصورها كما أراد لها حسه أن تكون فالتصديق عنده قبل التصوير كما يقول البلاغيون وهي فطرته الذاتية قبل أن تلقنه إياها فنون البلاغة وعلومها.
أما مضارب الحكم في شعر تجاريبه فتكاد تبلغ مبلغ الاستقلال في فلسفة اختط لها - خططها فلم يستعرها ولم يتسلفها بل أنشأها إنشاء يؤكد حركة العمر المديدة وزحمة السنين الطوال وعراك الخصائص بين موجب المصالحة وسالب المخاصمة.
أما حصاد الوجدان والعاطفة فتلمس فيه صراع المراحل ومفارقات الفترات صاعدة هابطة وهي بين الصعود والهبوط ساخنة بسخونة الدم والروح، مجهدة منهكة بين الصراعين صراع - الخيال يريد أن يستنطق الحقائق وينجح حين يدعه خيالي النسج والواقع الدافئ الشامخ هذه واحدة والثانية صراع الحقائق يتعمد أن يلبسها السندس والإستبرق حتى تنفخ في الغلاف والصورة روحاً تصنع الشك والحيرة ذلك لأنه إنساني شديد الحساسية بالحياة ولا يفقد القدرة دائماً على تذويب المعالم بالحد الذي يحد والقدر الذي يرتضي ويختار ويصوغ.
ولكنه ازدحم بفترات تكاد تكون قد غلبته بإرادته فبين مراحل وجدانياته فترات تمكن من السيطرة عليها سيطرة مطلقة فبرزت إمداء الخيال فيها بروزاً منطقي الشكل منطقي الموضوع وفترات حاول فيها نفس المحاولة المعتمدة على قدراته ولكنه أحب أن يستمتع بلذة المغلوب فلم يغلف الإطارات ولم يتعب في تكيفها فجاءت مقروءة على حقيقتها.
أما مذهبه وآراؤه في الشعر فهي كذلك مطبوعة بطابعه النفسي الأصيل التسامح بالنسبة لغيره سماح الكريم يطرب لسماحة التسامح ولو ألغى نفسه ولو جحد حسه راضياً مرضياً إنه يشح ولكن على نفسه ولا يجيز لها ما يتجوز فيه الناس وربما كان يتلمس لهم ظروف الضرورات لأنه كما قلت يصدر عن معانيه وعن إنسانيته ولو أدى ذلك كله إلى مركبات من الضعف المصنوع على عينيه.
فلسفة عرفتها في طباعه وعرفتها في آثاره يؤثر على ذاته صابراً راضياً مبتهجاً مطمئناً في حين لا يريد أن يصبر عليه أحد أو يصابره أحد.
وبعد فإني لا أدري أيظن بي القارئ أني بما كتبت قد سبحت مع ذات الشاعر وتنكبت عن شعره ولم أدرسه ولم أحلله وربما كان له بعض الحق أو كله. أما أنا فمصر على أن الشعر هو الشاعر في خصائصه ومميزاته وسجاياه وأن شعره صورة منه وأتحدى بالبرهان القارئ الواعي أن يجد في شعره غير ما وصفت وأن ينصرف لغير ما إليه انصرفت.
وقبل أن أختتم كلمتي أهنئ الوطن العزيز بحقيقته الكبرى في ذات شاعرنا الذي أخذ منها وأعطى في صدق وإيمان..
والسلام
ضياء الدين رجب - القاهرة 1387هـ
 
طباعة

تعليق

 القراءات :962  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 130 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج