شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
دراسة عاجلة لديوان مطلع الفجر
للشاعر الكبير السَيد إبراهيم هاشم فلالي
جسم نحيل، ووجه وديع القسمات، ونفس متواضعة، يتكلم بهدوء وأناة، لا تشوب صوته حدة، ولا يشوب تفكيره نزق الشباب. هذه هي الصورة. أما الإطار فهو أناقة في الملبس، والمسكن والآنية وقد تتعدى هذه الأناقة إلى حد الترف أو تصل إليه. ولكن لا تجد فيها سخف المترفين أو المتأنقين. قد يكون هذا الإطار المظهري الأنيق ستاراً يخفي وراءه كثيراً من الآلام والمتاعب. وسجية شاعرنا إخفاء آلامه ومتاعبه عن الأعين.
إنه يتحمل كثيراً، ويبذل جهداً لإخفاء متاعبه وآلامه. إنه لا يريد لها أن تظهر ولا يريدها أن تتحدث إلى الناس. لا أدري ماذا يقول علماء النفس عن ذلك؟ ولست منهم في شيء حتى أستطيع إرجاع المظاهر أو الظواهر إلى أسبابها ودواعيها النفسية.
ولكني أستطيع أن أقول: أن صلتي الوثيقة بشاعرنا الذي أتحدث عنه "الأستاذ إبراهيم أمين فودة" وصلتي بوالده المرحوم السيد أمين فودة نضر الله ضريحه بالمغفرة والرضوان تجعلني أرجع ذلك إلى أثر التربية المنزلية المحافظة التي تنشأ عليها وللبيئة التي ترعرع فيها. لقد كانت بيئة ذات سمت وقور مهذب ومن آدابها أو من تقاليدها التحمل والتجمل وعدم الإفشاء بالمتاعب أو التشاكي منها. وهي من آداب العرب وتقاليدهم العريقة.
لقد كان المرحوم والده "السيد محمد أمين فودة" كما عرفته من خيرة رجالاتنا وكان نير الذهن إلى حد كبير كما كان عزيز النفس لا تتدنى نفسه إلى ما تتطلع إليه كثير من النفوس وقد تقلب في عدة وظائف هامة وكان أهمها القضاء وكان ذا سمت وقور. وقد ربى ابنه الوحيد إبراهيم صاحب هذه الدواوين الشعرية تربية تنسجم مع ما اتصف به من شمائل وخلال فجاء الابن شبيهاً بأبيه تهذيباً ورجاحة عقل وإذا عرفنا أن شاعرنا يتخذ من أبيه مثله الأعلى في الحياة عرفنا مبلغ حرصه على أن يكون في مظهره وسلوكه شبيهاً بأبيه.
كما يجب أن لا نتجاهل أثر الوراثة والأخلاق. ويقول لنا الشاعر أن أباه كان يقول الشعر ولكنه كان يخفي شعره.. إذاً فقد ورث الشاعر من أبيه تراثاً نفسياً وخلقياً مضافاً إليه الشاعرية. فإذا تجلى لنا تراثه النفسي والخلقي في مظهره وسلوكه وأخلاقه بأوضح ما يكون التجلي أو الجلاء فلننظر إلى شاعريته من خلال هذا الشعر الموضوع بين أيدينا للدراسة فلعلنا نتبين ما خفي علينا من نبضات قلبه ومجالات خواطره ومثار إحساسه ومشاعره ولننظر أولاً شعره الذي نظمه في فترة الصبا من عام 1359هـ إلى عام 1369هـ في هذه المجموعة التي سماها "مطلع الفجر" ففي هذه الفترة كانت الأمة العربية تعاني قلقاً نفسياً حاداً على مستقبل فلسطين ومصيرها وكانت المظاهرات والاحتجاجات يلاحق بعضها بعضاً في كل بلد عربي ومن كل بلد مسلم إذ كانت ممالأة الاستعماريين للصهيونية واضحة ونذر الغدر بالعرب ليست خافية عليهم وكان رصاص الإنجليز يسفك الدماء العربية الطاهرة على تراب فلسطين.
وأول ما نراه في الديوان قصيدة بعنوان (لا يحقن الدم إلا الدم) نرى فيها صدق المشاركة في الآلام التي تعيشها الأمة العربية وفيها يحث الشاعر العرب على أخذ حقهم بالسيف وبالمال وبالفداء يقول:
لبوا النداء وذودوا عن محارمها
بالسيف والمال والأرواح تلتهب
لا تنكروا أخذكم بالسيف حقكمو
فالحق من جاحد بالسيف يكتسب
والمقصود بالسيف هنا السلاح بمختلف أصنافه وشتى مستحدثاته... ثم يمضي في القصيدة ناعياً على العرب استماعهم لدعوى السلم وتعلقهم بميثاق حقوق الإنسان. ومواعيد الغربيين التي لا يمكن أن ينجزوها أو هم ليسوا صادقين. وإنما هم مخادعون كذابون غدارون كما دلت تجارب العروبة في شتى أقطارهم معهم وينعي على العرب كثرة الخطب والأقوال المسهبة والنيات التي لا تصعد إلى مستوى الأفعال إذ كل أولئك ذهب هباء. إلى أن يقول:
بالله كفوا عن الأقوال مسهبة
ولتنطق اليوم من أرماحنا السلب
لا يحقن الدم إن ديس العرين وإن
عاث العداة به إلا الدم السرب
بعد هذه القصيدة ذات الجرس الموسيقي المثير والعواطف الملتهبة والتي تحمل في ثناياها الفكرة الثورية التي لا تجد علاجات لمشاكلها إلا بالدم والسلاح والتي نجد من ضمن أبياتها قوله:
من يطلب الموت أرضته الحياة ومن
يحرص عليها فقد يفنى ويستلب
لو مات ذاك ففي الأحياء سيرته
أو عاش هذا ففي الأموات يحتسب
فالحياة عند الشاعر هي حياة البطولة والمعاني الخالدة أما المادية الذليلة فهي الموت وما أكثر الأموات الذين يحسبون أنفسهم أحياء وهم في الحياة عبء عليها.. وبعد هذه القصيدة تطالعنا قصيدة مصير الأمم والحق أنها أرجوزة وفي رأيي أن زماننا لا يسيغ الأراجيز إذ هي مقبرة للانفعالات الصادقة لكثرة ما فيها من قيود الوزن والقافية.
ثم نقرأ قصيدة خماسية الأشطار اسمها (فلسطين) وهي عن فلسطين أيضاً فيها ألم وحسرة وخيبة أمل الشاعر في العرب والمسلمين.
كلما طاف بالعروبة عاد
ودعا للجهاد داعي الجهاد
تتلاشى أصداؤه في النوادي
ثم تمضي ريحاً هباء بوادي
ليس يشفى ولا يرجع خطاب
يحس الشاعر إحساس كل عربي غيور على عروبته معتز بها بالمرارة في الإهانة التي لحقت بالعرب في فلسطين حيث يرون أخوتهم عرب فلسطين تحصدهم بنادق اليهود والإنجليز في عقر دارهم ولا يتحركون لنصرتهم وإنقاذهم أو على الأقل مساعدتهم وهذا لا شك هبوط في المشاعر لا يليق بالعرب.
كلما قيل أنكم في صعود
وارتقاء إذ انتمو في صعيد
كلما لاح بدركم للسعود
إذ كتبتم عليه (غير سعيد)
هل هنئتم نفساً بعيش التراب؟
كأن الشاعر يريد أن يقول: كلما بدت لكم أو لاحت لكم بادرة ارتفاع إلى مستوى الأحداث كتبتم بتخاذلكم عن هذا الارتفاع أن ما لاح أو أن ما بدا غير سعيد.
وكأنهم قنعوا بأنفس لصقت بالتراب ضعة وهوانا. هذا ما فهمته باذلاً كل جهدي في الفهم ويخيل إلي أن مفهوم البيت (كلما لاح الخ) ضاع في صياغته.. هكذا يبدو لي.
وفي افتتاح الإذاعة بمكة المكرمة ألقى الشاعر قصيدة بعنوان (هنا مكة) والقصيدة تعبر عن فرحة أبناء مكة المكرمة خاصة والعرب عامة والمسلمين بوجه أعم.. ولا شك أن المسلمين في كل مكان يسعدهم أن يستمعوا إلى قبلتهم وهي تتحدث إليهم على موجات الأثير.. وحبذا لو أن إذاعة مكة المكرمة تقدر الدور التاريخي لهذه البلدة المقدسة التي ينبعث صوتها فيسمع الدنيا.. وتعرف مدى مسؤوليتها على هدى من قداستها. وأمجادها وما أسدت للعالم من أياد بيض في حقول الهداية والمعرفة والسمو بالإنسانية بعد تدهورها وانحطاطها. إنها مهمة تاريخية جليلة لا ينهض بأعبائها إلا كل قلب أشرق فيه نور الحق والعدل والحرية والجمال؛ فعسى أن يعرف أبناء مكة عظم المسؤولية الملقاة عليهم حيال إذاعة بلادهم المقدسة وليعرفوا أن أم القرى هي كما قال الشاعر:
أم القرى هي مبعث الصوت الذي
نادى إلى الحق المبين فجلجلا
هي مبعث النور الذي انبثق الهدى
منه فرشد حائراً ومضللا
فليكن صوتها نوراً هادياً للعالمين
أما القصيدة فليس لي إلا ملاحظة خفيفة.. إذ جاءت في البيت الثالث والعشرين كلمة (من جوف الكرى) فلم تعجبني. ثم تأتي قصيدة "الجامعة المصرية" وهي قصيدة جيدة ثم نمر بقصائد (الأهرام) وقصيدة (جمعية البر والإحسان الإسلامية) وقصيدة (وطني) وقصيدة (موسم التشكيلات) وهذه الأخيرة قصيدة خفيفة سهلة الألفاظ عذبة النغمات من أثر القافية الموسيقية الجميلة.. ثم نقرأ قصيدة (أمل البلاد) يخاطب فيها الجيل الناشئ. وبذلك ينتهي القسم الأول من ديوانه (مطلع الفجر) وهو القسم المعنون بعنوان (معترك الحياة) وهو عشر قصائد. وبعض مقاطع من الشعر مستقلة بنفسها. وأسلوب الشاعر في هذه القصيدة هو الأسلوب التقليدي القديم الذي يلزم عامود الشعر ووحدة القافية. نعم إنه يميل أحياناً إلى تنويع القافية في القصيدة الواحدة كما فعل في قصيدة (فلسطين). وقصيدة (موسم التشكيلات). و (الأهرام) وغيرها وهذا شيء مألوف في الشعر العربي.
إن الشاعر رتب (مطلع الفجر) بتقسيمه إلى أقسام وجعل كل موضوع من موضوعات شعره في قسم. فإذا فرغنا من القسم الأول الذي هو (معترك الحياة) ينقلنا إلى القسم الثاني ويسميه (مجال قلب) فلنجل مع قلبه لنستكشف أي شيء تطالعنا به هذه الجولات الشاعرية فأول جولة نجدها في القصيدة الأولى تحت عنوان (تعاليَ) فإذا قرأناها نرى أن للشاعر عاطفة حب مشبوبة ولكنها مكظومة فوجدت في الشعر متنفساً لها. واستمع لعاطفته وهي تستنشق أريج الحب وتتنفس في جوه بملء رئتها وتصرخ قائلة:
تعالي منية النفس
تعالي هدهدي حسي
تعالي واملئي كأسي
بخمر الحب من كأسك
وتحس أن الشاعر مجروح من أثر الكظم الشديد حينما يقول:
تعالي واسكبي الحسنا
بقلب العاشق المضنى
هياماً عارماً جنا
لننعم بالهوى البكر
ونروي للورى عنه
وهكذا يصرخ الشاعر أو تصرخ عواطفه الكظيمة بكلمة تعالي. ويكررها. ثم هو لا يبالي بمغريات الهوى مهما كانت تلك المغريات. ولا يبالي أن يتحدث للورى عن هواه البكر فإن ذلك لا يهم وهنا بحق لنا أن نتساءل هل أصبح الشاعر لا يبالي الإفصاح عما تتلهب به جوانحه؟؟ حتى - يتحدث للورى كل الورى عن صبواته. وهو من تربى تربية تتسم بسمت الوقار وعدم الإفصاح عن المتاعب والآلام. كيف حدث هذا؟.. حدث هذا وهو ليس متناقضاً مع تربيته. إن الإفصاح عن لواعج الحب بلغة الشعر والشعراء لا بأس فيه. لأن الشعراء يقولون ما لا يفعلون. فلا حاجة في الجولات الشعرية إلى التحفظ والكتمان.. ولا حاجة إلى إخفاء لواعج الحب ولذعات الغرام. وليس لنا أن نتساءل هل استجابت معشوقة الشاعر إلى صراخه وهو يقول لها صارخاً: تعالي.. تعالي. ويكررها عند كل مقطع من القصيدة وأحياناً في مطلع كل بيت، ولقد أحصيت له كلمة تعالي فوجدتها ستة.. حتى أشفقت عليه.. وبرغم عدم تساؤلنا عن استجابة حبيبته أو عدم استجابتها لصراخه.. زال إشفاقي عليه حينما وجدت الحبيبة تستجيب لصراخه وتحنو عليه دلني على ذلك قصيدته المعنونة بعنوان (نعاسة الطرف) وهي تلي قصيدة (تعالي). فبعد أن يصف الجو الشاعري الذي يحيط به وبمحبوبته يقول:
وكنت كالطائر الغريد بين يدي
لقياك أنشد شعر الوجد ألحاناً
وأنت في جذل باد وفي مرح
تلقين عندي بعطف منك قد لانا
ونحمد الله أن استجابت معشوقته لصراخه. ومن ذا الذي لا يسر لاجتماع حبيبين اجتماع الطهر والنقاء. لا يعكر طهره دنس ولا يشوب نقاءه جريرة ولا ذنب.. نعم أن سيرة شاعرنا وسلوكه يجعلاني مطمئناً إلى أن الشاعر هذا لا يتدنى إلى مواقف الريبة فله من أخلاقه ما يبعده عن ذلك.
على أن قلوب الشعراء كقلوب الأطفال. وكما أن الأطفال لا يفضلون لعبة ولا يقفون عند التعلق بدمية دون دمية فكذلك قلوب الشعراء لا تقف عند نموذج واحد من نماذج الجمال المتعددة.. فقلوبهم أسيرة للجمال في كل نماذجه وصوره، وقلب شاعرنا ليس بدعاً بين القلوب الشاعرة. فهذه قصيدته (نظرة) يستخفه فيها نموذج آخر فيحكي لنا في قصيدته عن أثر النظرة وعن فرحته حينما حياها فردت تحيته... فاهتز من طرب وراح وهو أسيرها.
وشاقه الحسن واستعدى الهوى قدر
في نظرة عرضت ما كان أحلاها
إذ صادفت عينه في عينها رأفا
أغراه بالحب فاستحيا وحيّاها
ردت تحيته فاهتز من طرب
يردد القلب في الاحناء مزجاها
فعاش يرفل في أحلام نظرتها
فلا تبارحه ما عاش ذكراها
إنني حينما أتحدث عن خوالج نفسه وخفقات قلبه ليس مهماً أن لا أرضى عن كلمة (مزجاها) وكلمة (رأفا) والذي يؤكد أن قلوب الشعراء كقلوب الأطفال وأن قلب شاعرنا ليس بدعاً في القلوب الشاعرة هذه الخفقة في قلب شاعرنا وهي خفقة صادقة لقد رأى الشاعر صورة فتاة في غلاف مجلة تحمل مسدساً فإذا بقلبه يخفق لها ويفيض شعوره بخمسة أبيات تحت عنوان (ناران).
وإذا أمضينا في مجال قلب الشاعر نجده يزخر بعواطف الحب كما يزخر بآلامه ومتاعبه. وكم للحب من آلام ومتاعب وقد زخرت قصائده الغزلية بها.. ونجد ذلك واضحاً في قصائد (أنانية) و (عتاب) و (فروض الحب) وهذه الأخيرة تزيد عن ستين بيتاً وأستميح الشاعر وعلماء اللغة عذراً إذا قلت أني لا أستسيغ كثيراً من الكلمات والمفردات اللغوية في الشعر وهي وإن كانت من الناحية اللغوية لا غبار عليها ولكن ذوقي لا يسيغها من أمثال الطفف، والرأف، والزرف والزهف وما شابهها وإذ قد أبديت وجهة نظري في المفردات اللغوية التي لا أستسيغها في الشعر بل حتى أني لا أستسيغها في النثر.. فإنني أترك ذلك. وأذهب لأتلمس خلجات الشاعر وخواطره ونبضات قلبه فمن المشوق جداً عندي ولعله يكون مشوقاً عن القراء أن أعرف ويعرفوا معي ما تنطوي عليه جوانحه ويحتدم في صدره من شتى الانفعالات وهو المتهم عند أناس بالانطواء، وبالغموض عند الآخرين... وما هو في رأيي بالمنطوي ولا بالغامض وإنما هو الذي نشأ في بيئة محافظة وفي حجر أب وقور كان يجلس للقضاء ويجالس العلماء ومن ينشأ على هذه التربية ويتسم بسمتها لا يتساهل في الكشف عن دخائل نفسه كما لا يتساهل في التبسط لكل الناس.. ولكن يجد في الشعر مجالاً واسعاً لما تضطرم به أغواره وما يحتدم به صدره ومن تصفح شعره يجد مصداق ذلك أن أغواره تزدحم بشتى الأحاسيس وهذا هو بين لنا رأيه في الحب أنه عند الشاعر إكسير الحياة.
هو الحب إكسير الحياة فما أرى
فؤاداً خلياً من غرام وصبوة
ويقول ناقلاً عن نبض قلبه:
يقول في كل نبض
عن الهوى لا أحيد
هذا حصادنا من مجال قلبه حينما جلنا معه في جولاته العاطفية فإذا شاعرنا ليس بمنطوٍ ولا غامض بل مثله مثل كل شاعر يخفق قلبه للجمال في كل صوره.. ويتغنى به وتمتلئ جوانحه مثل كل المحبين - بالآلام والمتاعب ولا يجد في بثها حرجاً وإذا أردت أن تعرف أروع مراثى الحياة في نظر الشاعر وأوقع لحن في فؤاده وأعذب ما يشفي قلبه فاستمع إلى اعترافه اعترافاً لا غموض فيه ولا التباس.. وإليك النص الذي سطره على نفسه دون إكراه من أحد.
وأروع مرأى في الحياة شهدته
حبيبان في حضن الغرام تلملما
وأعذب لفظ لامس الحس كالرقى
عتاب الحبيب كان بالعتب منعما
وأطيب ما يشفي الفؤاد من الجوى
حميا رضاب خامر القلب منضرما
إنها اعترافات شاعر حساس مرهف الحس رقيق الحاشية إنها رقة قلوب أهل الحجاز منذ القدم يذكرنا بها الشاعر لا بل يقول لنا أنها ما زالت - تلك الرقة - تحيا في وجدان شعراء الحجاز حتى الآن وستبقى وسوف لا يخبو لها أوار ما دام في الحجاز شعر وشعراء.
والآن هيا بنا إلى القسم الثالث (من نشيد الطبيعة) والطبيعة حبيبة الشعراء يهمسون إليها بنغمات صدورهم وما تكنه جوانحهم، وهي بدورها تذكي فيهم حرارة الإلهام. إن في هذا القسم جملة قصائد تتحدث عن البحر والحدائق وما فيها من أطيار وأزاهير وجداول ولم ألمس تعاطفاً حاراً قوياً بين الشاعر والطبيعة كما لمسته مع الشاعر في أحداث الأمة العربية في القسم الأول (في معترك الحياة) وفي القسم الثاني (مجال قلب) وكل ما في نشيد الطبيعة لا يعدو أن يكون محاولة لامتزاج نفسه بمظاهر الطبيعة وتعاطفها أو تفاعلها معها ولكن المحاولة لم تصل إلى مستوى انفعالات (في معترك الحياة) ولا إلى مستوى العاطفة المشبوبة التي يلمسها القارئ في (مجال قلب) لذلك أعفي نفسي من الحديث عنها أو أؤجله إلى أن يتاح لي دراسة شعر الشاعر بعد هذه الفترة من سني عمره وأنتقل الآن إلى القسم الرابع (صدى نفس) ويغلب على هذا القسم شعر الأخوانيات والمناسبات ومنه نعرف أن من خلال الشاعر الوفاء لأصدقائه وقد أعجبتني في هذا القسم قصيدة بعنوان (مذهبي في الحب) ويعني بها هنا حب الأصدقاء يتبين لنا ذلك من أبيات القصيدة إذ يقول فيها:
لست من يعشق قداً أهيفا
مثل غصن البان يختال انتثاء
ناعم الملمس وضاء الرؤى
يتثنى كلما راح وجاء
إلى أن يقول:
إنما أعشق أخلاقاً وما
يرفع الإنسان عن أهل السماء
أعشق الطاهر قلباً ودما
ومن الخزي وما يرزي براء
إذاً فهو يبحث عن صديق ولا يبحث عن حبيبة ويشترط أن يكون الصديق مناقضاً في كل مظهر يعجبه في الحبيبة لا يريد صديقاً يتثنى كما تتثنى المرأة ولا يريده أن يكون ذا قد أهيف ولا أن يكون ناعم الملمس يريد صديقاً رجلاً تتمثل فيه الرجولة بكل معانيها وبكامل مظاهرها صديقاً تمتعه رجولته عن كل ما يشين الرجولة أو يزرى بها.
لست من يصحب نماماً ولا
افة الأخبار مشاء بداء
إنما أصحب وضاح الرؤى
مستقيم الخلق موفور المضاء
والفرق ظاهر بين وضاء الرؤى ووضاح الرؤى فالأولى يقصد بها وضيء الطلعة أما الثانية فيقصد بها من تكون الأشياء من مقولات ومفهومات واضحة الأهداف والمعاني أي أنه يريد صاحباً أو صديقاً يمتاز بالفطنة ثم يمضي في القصيدة يوضح مذهبه في انتقاء الأصدقاء وقلَّ ان يجد صديقاً مستوفياً لشروطه موافقاً لمذهبه إنها شروط أتعبت من سبقونا يوم كان الناس يحفلون بالقيم الخلقية يوم كان لهذه القيم الخلقية وزن كبير في مجتمعاتنا فما بالك بالناس في زماننا الذي تغيرت القيم الخلقية وأصبحت موازين العصر الذي نعيش فيه غير الموازين القديمة.. ولنترك شاعرنا يبحث عن صديق بشروطه فلعله أن يجد. فالخير في الناس لم ينعدم عسى ولعل.
أما القسم الخامس من الديوان وهو المعنون بعنوان "بالمنظار الأسود" فهو يشتمل على سبع قصائد، أطولهن "زفرة" وهي اثنان وستون بيتاً (وثورة اليأس) وهي ثلاثون بيتاً ثم تأتي قصائد "الدنيا" وخدعة وصبر وشباب وشكوى ودنيا الحياة والحكم العجيب ولك اللّه يا نفسي ومقطوعات أخرى تتراوح بين الثمانية الأبيات والستة والخمسة والبيت الواحد. وقد أعجبني بيت مفرد يجري مجرى الحكم تحت عنوان (مرارة الأحكام) فيقول:
جار الزمان عليّ في أحكامه
حتى ألفت مرارة الأحكام
وفي هذا القسم الذي سماه "بالمنظار الأسود" ينفض الشاعر مواجهة وينفث شكاته من الزمن ومن الناس، ومن تقلبات الأيام.. وليس لي رأي أقوله في هذه المجموعة إلا أن الشاعر أوضح تأثره بقراءته للشعر القديم. يتمثل ذلك في كثرة المفردات اللغوية التي أصبحت في الذوق الشعري الحديث غير مستساغة لأن الناس أصبحوا لا يفهمونها إلا إذا صحبوا عند قراءتهم المعاجم والقواميس، والذين يفهمونها لا يتخاطبون بها.
وقارئ الشعر لا يرتاح لها ولا تنفتح نفسه لقراءة شعر بهذه الصورة.. إن قارئ اليوم يريد شعراً سهلاً رقيقاً يستمتع بمعانيه وموسيقاه.. ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت الكلمات خفيفة النطق موسيقية الجرس جذابة واضحة المعنى. إن قارئ الشعر يريد بقراءته الاستمتاع بالأخيلة والظلال، والموسيقى ولا يريد للشعر أن يسرح به في متاهات اللغة ومعجماتها. وعلينا أن نفطن نحن قبل غيرنا لذلك. فقد سبق شعراء الحجاز قديماً للتفطن لهذا الأمر من أمثال عمر بن أبي ربيعة والعرجي والدارمي وغيرهما. وننتقل بعد هذا إلى القسم السادس "شعر معقول" وأول ما يطالعك من هذا القسم قصيدة (خاتمة التطواف) وقبل أن أتكلم عن هذه القصيدة يجب أن لا أنسى أن هذا الديوان "مطلع الفجر" نظمه الشاعر في سن مبكرة إذ كان سنه لا يصل إلى الثلاثين وهو سن الفتوة في عنفوانها فإذا كان الشاعر يحبذ في هذه السن المبكرة المشيب ويود لفوده أن يبيض بعد سواده فلأنه لا يعرف مدى الحسرة التي تصيب من شاب فوده.. إنه يحبذ الشعر الأبيض أو الأشيب لأن البياض أو الشيب لم يتسلل بأنامله المفزعة إلى رأسه ولحيته ولو تسلل إليهما لاستعان بالصبغة السوداء يداري بها ذلك البياض وإذا كان ممن لا يميلون إلى تخضيبه بالصبغة السوداء لأخذ يبرر شيبه لا بكبر السن بل قال إنه جاء في غير أوانه وأن الذي أسرع بهجومه أوضار الحياة وأوصابها كما يقول الشيوخ المتصابون الذين لا يريدون إلا أن يعرفوا بأنهم ما زالوا يتمتعون بالشباب رغم شيبهم (1) .
ولنستمع إلى الشاعر وهو يقول:
بودي أن يشيب الفود مني
وتشرق لحيتي والعارضان
فإن الشيب ثوبٌ ذو وقار
لمن صهرته أحداث الزمان
إذا قدر الرجال المرء حقاً
فليس يعيبه عبث الحسان
ومن تشغله أبكار المعالي
وتملأ نفسه غرر المعاني
فليس تهزه أعطاف هند
إذا غنجت ولا دل الغواني
إنه يقول: إن الشيب ثوب وقور.. إنه شاعر فتى. فكيف يقول ذلك؟ يقول ذلك لأنه نشأ في بيئة ذات سمت وقور فهو معجب بهذا السمت الذي يتسم به الشيوخ من جلساء أبيه إنهم علماء وقضاة لا يفارقهم الوقار وهم لا يتخلون عن وقارهم وقد أخذ بهذا السمت فهو يتمناه لنفسه. ليكون بينهم جليساً لهم. ولكن فاته أن الوقار ليس حكراً للشيوخ الذين شابت رؤوسهم وذقونهم.. وإنما هناك شباب لهم سمت وقور وصاحبنا منهم، فلماذا يتمنى الشيب؟ الأنه لم يذق الطعم المر الذي تغص به حلوق الذين ابيضت رؤوسهم؟ نعم هو ذاك؟ اصبر يا أخي وسوف يتسلل إليك المشيب وسوف تذوق طعمه. وسوف لا تستسيغه لأنك سوف تشعر بعد شيبك أن قلبك لم يشب لأن القلوب الشاعرة لا تشيب..
ولكن هذه القلوب الشاعرة التي لا تشيب لا يشعر بها أحد وشيب اللحية والرأس يصرف هنداً وليلى. وسلمى ولبنى عن مصاحبتهن له ويفريهن بالسخرية والاستهزاء وإذا لم يهزأن جهراً هزأن سراً وربما يبدين العطف أحياناً لا حباً ولكن شفقة ورحمة لئلا يتحطم قلب شاعر بين أيديهن فهو في نظرهن لا يزيد عن قيثارة قديمة يتسلين بها لذلك فهن يخشين على هذه القيثارة أن تتحطم بالإعراض عنها أو عدم الاحتفال بها أو يرضى الشاعر أن يكون تقديرهن له على هذا الاعتبار؟ (2) وأنت تعلم أن الشاعر حساس مرهف الحس فإذا شعر بذلك أحس بقلبه بتمزق من الأسى والحسرة لأنه لا يريد الرثاء والعطف ولكنه يريد المشاركة في الإحساس والمشاعر يريد حباً بحب وإخلاصاً بإخلاص وهيهات أن يظفر من هند وأخواتها من شابت لحيته وعارضاه.
اصبر يا إبراهيم فسوف تشيب وتحس إحساس الذين أدركهم الشيب وكابدوا المرارة التي يخلفها الشيب في القلوب وسوف تود العودة إلى الشباب.. وهيهات وإني أدعو الله أن يمد في عمرك وعمري حتى أسمع ماذا عسى أن تقول عن المشيب ولنعد الآن إلى القصيدة فإنها سهلة الأسلوب بعيدة كل البعد عن المفردات اللغوية العويصة. وهذا يدلنا على أنها صادقة التعبير عن نفس الشاعر.
وليس العيش في الدنيا غرورا
لذي هدف بصرح المجد باني
ولكن الحياة سبيل جد
تضاءل دونها نفس الجبان
ويمضي في القصيدة على هذا الأسلوب السهل الواضح الذي لا يعوق القارئ فيها معنىً غامض ولا كلمة تحتاج إلى المعجم وقد استوقفني في القصيدة هذا البيت.
وحاذر ما استطعت تكن بليغاً
إذا حدثت متزن البيان
والذي أظنه أن المراد من البيت هو إذا كنت متزن البيان تكن بليغاً ولكن صياغته لا تؤدي هذا المعنى. بل أن المعنى في البيت انقلب على عقبيه. أو يفهم من صياغته حاذر إذا أردت أن تكون بليغاً أن يكون حديثك متزناً (3) . ووقف ذوقي متلكأ عند هذين البيتين:
تكن رجلاً على العلات فذا
تشير إليه أطراف البنان
وما تخلو من العلات مهما
غدوت من المكارم في العنان
فكلمتا العلات مهما كان معناهما لم أستسغهما..
وبعد هذه القصيدة قصيدة (عثرة اللسان) ومضمونها نصائح: تحذير من سلاطة اللسان وجوارح الكلم ودعوة إلى الاتزان والتعقل والحصافة في القول وعدم الثرثرة وعدم الاستجابة لشهوة الكلام إذا لم يكن للكلام مكان. ويلقى القارئ فيما يلي من هذا القسم نصائح متنوعة وحكماً هي نتيجة لتجارب الشاعر في باكورة حياته.
وننتقل إلى القسم السابع من هذه المجموعة واسمه (مع الرفيق الأعلى).
وأول قصيدة تقابلنا في هذا القسم بعنوان (إلى روح أبي) وهي مرثية تلمس فيها لفحة الحزن العميق الذي داهمت الابن البار لفقد أبيه الصالح.. لقد كان فضيلة الشيخ محمد أمين فوده رحمه الله باراً ناصحاً ومعلماً وأسوة طيبة حسنة لكثير من الشباب في بلادنا فكيف لا يكون باراً ناصحاً ومعلماً لابنه الوحيد فلذة كبده فإذا اعتز الشاعر بأبيه فإنه من الآباء الذين يعتز ويفخر بهم الأبناء لقد كان نموذجاً فريداً للصلاح والتقوى وقد يشركه كثير في العلم ولكنه كان ذا ميزة تميزه عن الكثيرين تلك هي الذهنية النيرة والعقلية المتفتحة فلا تلمس فيه رحمه الله تزمت بعض العلماء ولا تنطعهم ولكن تلمس فيه السماحة والفطنة والصفاء وسعة الصدر ورجاحة الأفق فلا بدع إذا حزن لوفاته من يعرفونه وأمضتهم الفجيعة بفقده فكيف بابنه الذي هو ألصق الناس به وأحبهم له؟ لذا جاءت مرثيته عميقة في معانيها الحزينة مؤثرة تلمس فيها صدق اللوعة واحتراق الأحاسيس يترقرق في أبياتها الحزن كما تترقرق الدموع في الأعين إنها مرثية منطلقة القوافي أو هي دموع منطلقة في كلمات وسطور وأوزان وقوافي.
قصتي أحدوثة محزنة
لأولي الأبصار فيها مزدجر
هي مأساة ولكن عبرة
ولكم طي المآسي من عبر
أبتي فقدك خطب فادح
جل عن صبري فأكدى وانفطر
ليتني كنت فداه ليتني
ليت لا تغني إذا حم القدر
إن فقد الشاعر لأبيه أحدوثة محزنة إنها مأساة إنها خطب فادح كبير نزل به ولكن هل كان كل ذلك للإحساس بالخور الذي أصاب الشاعر في عزيمته أو الجزع الذي يوحي بالضعف والتهافت.. لا فالشاعر يقول والحزن يعصره:
إنما أبكيك إجلالاً لما
ملأ القلب جلالاً وعمر
إنما أبكي علوماً ضوأت
وينابيع لفضل قد غمر
إنما أبكي خصالاً كرمت
وخلالاً طبن والوجه الأغر
أبتي ذكرك رطب خالد
في ضمير الدهر كنز مدخر
قد بذلت الجهد في الله وفي
صالح الناس وفي خير وطر
في سبيل الوطن الغالي وفي
خدمة الشعب بأعداد البشر
إذاً فهو يبكيه لحرمان الوطن من خدمات كان يؤديها الفقيد لرفعته بين الأوطان وكان يؤديها في صمت وإخلاص وبدون من أو تطاول وتعداد أبيات القصيدة ستة وخمسون بيتاً عامرة بالعواطف الصادقة والمعاني الجليلة.
ثم تأتي قصيدة بعنوان (على قبر أبي) والقصيدة محبوكة النسيج جيدة المعاني أما القصيدة الثالثة فهي مرثية لصديق الشاعر وأستاذه المرحوم (السيد علي جعفر) وفيها يعدد مناقب الصديق الفقيد ويبدو لي أن عاطفة الحزن في الشاعر تتساوى في عمقها مع عواطف الحب فهو كما يحسن الحديث عن الحب يحسن الحديث عن الحزن.. قد يكون الحب والحزن نابعين من ينبوع واحد في النفس الإنسانية فنحن نحب لأننا نأتنس بأحبائنا وحبنا لهم أو أنسنا بهم هو الذي يحزننا لفقدهم فإذا كان ذلك كذلك وما أظنه إلا كذلك فلا غرابة إذاً حينما نجد هذا التأثر العميق في نفس شاعرنا بالحب والحزن واستمع إليه يقول على قبر أبيه:
على قبرك الجاثي هنا جثم القلب
ومن بين طيات الحشا اندفق الحب
فكلمة جثم القلب نابعة من شعور بحركة عنيفة أحسها في قلبه الحزين حتى لكأن قلبه ند عن صدره وجثم على قبر أبيه يريد لثمه من فرط الحب ولا شك أنه شعور من بلغ به الحزن درجة عالية.
ولنهرب من هذا الجو القاتم الحزين إلى حيث نجد العزاء والراحة في مسك الختام حيث نقف مع الشاعر (في رحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) والوقوف في رحاب الرسول الكريم يجعلنا نستشعر الطمأنينة في قلوبنا ويتبدل الجزع بالخشوع والقلق بالهدوء والسكينة والحزن بالفرحة والطمأنينة والقصيدة عامرة بالمعاني النبيلة والمشاعر السامية ولكني مع الأسف الشديد وجدت فيها من المآخذ ما أضعف روعة المعاني النبيلة والمشاعر السامية يقول الشاعر في البيت الثاني عشر:
وما بذاتك من شبع ومن نهم
وغير ذا من معاني النفس والقيم
فنجد أن البيت غير مستقر الألفاظ حيث أنها لم تأخذ راحتها لذلك اختار الشاعر كلمة "شبع" الساكنة بدل شبع الكلمة المطمئنة المتحركة الباء واختار كلمة "ذا" ولم أحس لها جمالاً ولا طمأنينة في موقعها وكما هو معروف أن الكلمة إذا كانت مطمئنة في موضعها غير قلقة تضفي على الشعر جمالاً ورونقاً وتدل على عدم العسر في بيان الشاعر وشاعريته.
وقال الشاعر يصف رب العزة جل جلاله:
ومن إليه مصير الخلق - اجمع لا
يفنى - تبارك - والدنيا إلى عدم
فكلمة "لا يفنى" فالله تبارك وتعالى (لا يفنى) يتنزه عن الفناء ولكن مع استقامة المعنى. لم أستسغ هذا التعبير في الوصف وأعترف أني لا أستطيع تعليل عدم استساغتي لهذا التعبير لأنها صادرة عن الذوق فقط ذوقي الخاص.
ويقول الشاعر مخاطباً نفسه وجاهدي في حياة الناس بالغة ما استطعت دون عراك هائل عرم ولا أدري كيف يكون الجهاد بغير عراك هائل عرم؟؟ وقال في أحد أبيات القصيدة.
ومن مناهل ورد المصطفى اغترفي
ما يفعم النفس من أحواضه الفعم
وأن من يغترف من المناهل لا يحتاج إلى الأحواض. فكيف يميل إلى الأحواض من يقف على المنهل نفسه أن في المنهل أكبر غناء وكذلك لم تعجبني صياغة هذا البيت الذي يصف المصطفى حين ولدته أمه السيدة آمنة.
رأت ضياء غزير النور منبعثاً
من جوفها المرتضى والطاهر الرحم
فالضياء هو النور الغزير وقد جاء في قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ثم قوله (من جوفها المرتضى) تعبير غير جميل. ولم تعجبني الشطرة الأخيرة من هذا البيت:
دعا إلى الله معبوداً تنزه عن
شرك له في فعال الخلق والعدم
والمقصود أن الله تبارك وتعالى تنزه عن شريك يشاركه في الخلق وإفناء الخلق فجاءت كلمة شرك بدل شريك وفعال بدل خلق وهو يدل على العسر في التعبير لأن الكلمات لم تأخذ راحتها المطلوبة، وكان ذهن الشاعر منصرفاً إلى العناية بوزن البيت ولم يكن منصرفاً لجمال التعبير ولتقرأ هذا الأبيات أيها القارئ معي لنرى رأينا منها وهي من نفس القصيدة التي نحن بصددها وبعد البيت الذي تقدم.
كما تنزه جل الله عن مثل
أو مشبه في صفات المجد والعظم
لذا تفرد رباً ليتنا أبداً
نوفيه بالشكر لا نوفيه بالذمم
مع أن الوفاء بالذمم مقدم على الوفاء بالشكر. فكيف يستقيم المعنى إذا وفينا الشكر لله - ولن نستطيع فالله أكبر من أن يوفيه حقه بالشكر أحد. ولذلك يقول الشاعر ليتنا. ثم لا يطلب منا الشاعر أن نوفيه بالذمم؟؟ أو لا يتمنى أن نوفيه بالذمم. لا أدري ماذا يقصد الشاعر؟؟ ثم يقول:
فاستكبروا وعموا عن نور دعوته
إن المضل عن النور اليقين عمى
قالوا: أجن أم السحر اعتراه فما
ينفك من مسه في مرتع وخم
لم أجد من تعود إليهم الضمائر في (استكبروا وعموا) وفي "قالوا" إلا إذا كان ضميراً مقدراً في ذهن القارئ كما هو في ذهن الشاعر لأنه معلوم "أن الذين لم تستجيبوا لدعوة الرسول استكبروا وعموا وقالوا.. الخ. وتشبيه الحق والنفس بالخيل واللجم صحيح ولكن بهذه الصياغة غير جميل والنفس والحق مثل الخيل واللجم "كذلك لم أستسغ قوله خلايا الروح والأدم في هذا البيت:
وتشرق النفس من إشراق وازعها
ينساب بين خلايا الروح والأدم
هذه بعض المآخذ في القصيدة وما حرصت على التدقيق في فحصها إلا أنها في رحاب أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء والذي هو في المقام الأسمى من البلاغة في التعبير وخير من نطق باللسان العربي المبين سيدنا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأن مثل هذا المقام الكريم يوجب أن لا يقال في ساحته ولا يقدم لصاحبه إلا ما كان في المستوى العالي من البيان وأن لسماحة الرسول الكريم ما يجعله يتجاوز عن ذلك ويقبل من المخلصين محبتهم ولا يردهم ولكن نحن يجب علينا أن نحترم هذا المقام السامي ونقدر هذه السماحة النبوية النبيلة.
وتأتي بعد هذه القصيدة قصيدة أخرى بعنوان "وقفة عند قبر الرسول" وهي مثل سابقتها خشوع وشوق ومشاعر نبيلة، وبحر وقافية.
ثم نصل إلى تمثيلية (في غار حراء) ومن العجيب أن إدارة الحوار في الشعر صعب إلا أن الشاعر صاغ لنا حواراً جميلاً متماسكاً خالياً من الفجوات التي كثيراً ما يقع فيها صانعوا التمثيليات والمسرحيات الشعرية. ونجد وثبة من وثبات الخيال الذي حبسه الشاعر ولم يترك له حرية الانطلاق فيما قرأناه من شعره في هذه المجموعة المسماة بمطلع الفجر هذه الوثبة تتمثل لنا حينما يتخيل شخوص التمثيلية وبنطقهم بقوله:
من ذلك الساري تجاه حراء
متريثاً في سيمة الكبراء
تبدو عليه جلالة ودماثة
سيمت النلوك ورقة العباد
أهو الأمين؟
نعم، فذاك بأنه، أبداً يهيم إلى ربي ووهاد.
زهد الحياة مليئة صخابة
بهوى النفوس وشرعة الإفساد
لا يأتي بهذا الحوار الشعري الجميل إلا خيال منطلق.. فلنمضِِ معه إلى الأجواء البعيدة التي يفصل بيننا وبينها ألف وأربعمائة سنة تقريباً ونستمع إليه وهو يقول:
انظر أخي هذا هو الرجل الذي
كنا نبجله ونكبر شأنه
من ذا؟ محمد إنه هو ما له
قد سب رب خزاعة وأهانه
وأتى بدين ما عهدنا مثله
في شرعة الآباء والأجداد
ونحا إلى دين جديد غير ما
قد ورث الأسلاف للأحفاد
ماذا يقول محمد يا صاحبي؟
نادى بحمل رسالة من ربه
من ربه أفجاءكم بدليله؟
فلكل حق حجة توحي به
سماه رحمانا ولا ندري به
وسعى يؤلف وحيه وخياله
إلى آخر ما جاء في هذه التمثيلية التاريخية الشعرية الجميلة ولمن أراد المتعة بالاستزادة فليرجع إليها كاملة في الديوان.
بعد هذه الدراسة العاجلة لهذا القسم من شعر الأستاذ إبراهيم أمين فودة يجب على القارئ أن يضع في الاعتبار المرحلة التي يجتازها الشاعر من عمره فلقد كان هذا الاعتبار لا يفارقني وأنا أنتقل مع خطوات الشاعر في قصائده ومقطوعاته من هذا القسم الذي سماه (مطلع الفجر) فلا ننسى أنها مرحلة اليفاع والفتوة ولا ننسى أنها تجربة شعرية مبكرة فهذه المجموعة باكورة نتاجه في باكورة عمره فماذا لمسنا فيها؟ وما هو المضمون الذي حصلنا عليه؟
لقد لمسنا أولاً وجود الموهبة الشاعرية الأصيلة بغير شك عاطفة مشبوبة وشاعرية متوثبة يدفعها مشاعر وأحاسيس مضطربة يزخر بها وجدان الشاعر تدلنا عليه وطنياته وغزلياته كما نلمس ذهناً متفتحاً وطموحاً وتطلعاً إلى مساوقة الفحول من الشعراء القدامى في إخوانياته ومراثيه ومدائحه النبوية وحكمه وهو يتنقل بين بحور الشعر المتنوعة وأفانين الشعر المختلفة وهو لا يجد في نفسه عجزاً في الدخول إلى الآفاق البعيدة ولكن لا تستبين لنا في جولاته عمق التجربة إنما الذي يستبين لنا هو طموحه للوصول إلى التجربة العميقة كما يستبين للمدقق في القراءة الأثر الواضح لقراءاته اللغوية وغرامه بها فهو واسع باللغة وأسرارها. ولكن توسعه في تعرفه على اللغة كان على حساب خياله.. فأنت تفتقد الخيال المحلق. والخيال في رأيي - من أكبر الروافد للصور الشعرية الممتعة التي تجعل الشعر براقاً لامعاً. وقد ساعد ميله للواقعية على خلو شعره من الصور الخيالية الجذابة خذ مثلاً وصفه لجلسة للخيال أن ينطق فلا تجد خيالاً ولكنك تجد وصفاً لهذه الجلسة الشاعرية كما هي في واقعها دون ما نقص أو زيادة.
في هدوء الليل في جوف السحر
حين يحلو للمحبين السمر
بين أحضان الدجى يؤنسنا
من شعاع النور ما ينثو القمر
لفنا الليل ببرديه على
ربوة ذات مياه وشجر
وحوالينا مروج عبقت
في النسيم الطلق أشذاء الزهر
فتجاذبنا أحاديث الهوى
تتهادى بين ثغر وثغر
ففي هذه الأبيات وصف صادق لجلسة واقعية في مكان شعري... يحق للخيال أن يلعب دوراً فيها ولكننا نفتقده وذلك دليلنا على أن قراءاته اللغوية وتأثره بها التي تدع خياله مقيداً غير منطلق لأن ذهن الشاعر منصرف للغة وصحتها لا للخيال وجماله.
وكذلك نجد في قصيدة (نعاسة الطرف) سلاسة وعذوبة ورقة متناهية ولكن لن تجد للخيال أثراً فيها وليس معنى هذا أن الشاعر فقير في خياله لأنه برهن لنا في تمثيليته (في غار حراء) أنه غير فقير في الخيال.
كل ذلك يعني عدم فقره في الخيال وتوثب شاعريته وطموحه واستنارته الذهنية تجعلنا نتوقع أن ما افتقدناه في باكورة شعره سنجده في المجموعات الأخرى من شعر الشاعر لأنه لا يمكن لنفس شاعرة حساسة تزخر بالعواطف والطموح والانفعالات المحتدمة إلا أن تكون مختزنة في حناياها من الصور الشعرية المطعمة بالخيال المحلق الشيء الكثير وليس بعزيز على شاعر توفرت له جميع المؤهلات التي تضعه في صفوف النابغين من الشعراء أن يلج - بعد نضجه سناً وثقافة وتنوع المعرفة وغزارتها التحليق في آفاق أبعد وخيال أوسع وتجربة أعمق.
وكلمة أخيرة أقولها مستشهداً على طموح الشاعر وتوثبه إلى ما هو أسمى وإلى ما هو أجمل. وعدم وقوفه راضياً عند حد بقول الشاعر نفسه.
والذي نال مراما
يوم أمس، ومراده
فهو إن كان طموحاً
يبتغي اليوم زيادة
يبذل الجهد ويعطي
واجب المجد سداده
كل من جاهد صدقا
كلل النصر جهاده
ونحن لا نفتقد الجهاد الصادق وبذل الجهد وإعطاء واجب المجد سداده في الأستاذ إبراهيم فودة وندعو الله مخلصين أن يكلل جهاده الصادق بالنصر حتى يحلق بشعره في سماء بلادنا وسماء البلاد العربية أجمع ويزيدنا إثراء في حياتنا بالمعاني الجميلة والشعر الخالد والأعمال المجيدة التي يحق لنا أن نزحم الناس بها،،،
إبراهيم هاشم فلالي
8 شارع الفتح الروضة بالقاهرة
* * *
أسجل ملاحظتين فقط على تعليق الأستاذ الفلالي:
1- فهو ضد كل كلمة لغوية لا يستسيغها أو يظن أن القارئ الحديث لا يفهمها وأنا قد أوضحت وجهة نظري في هذه المسألة في كلمتي بين يدي القارئ ولا أرى أن واجب الكاتب والشاعر هو ممالأة مستوى القارئ الحديث بل الأخذ بيده أيضاً إلى التعمق في اللغة والفقه بها وبذلك نثري أدبنا ولغتنا المعاصرة ولكن بشرط مراعاة رقة اللفظ وإن كان غريباً عن التداول وهذا ما التزمه الشاعر.
2- ثم أنني لا أرى الخيال هو التهويم ولكن قد يكون في الصور الشعرية العابرة أسمى حالات الخيال وأذكر على سبيل المثال أنه أهمل الحديث عن قسم كامل هو من نشيد الحياة بهذه الحجة والشاعر يقول في بعض أبياته:
وسرى الجدول رقراق الخطى
في حضون الروض والزهر النثير
مثل حسناء تلوت في سرير
ويقول في غيره:
ما أضيع النجم في أجفان عمياء
ومثل هذا وغيره كثير فإذا لم يكن هذا من الخيال فما هو الخيال؟
3- أما بقية وجهات النظر فهي اختلافات طبيعية من حق كل قارئ وكاتب وهي متروكة للقارئ وأشكر له رحمه الله حسن ظنه وعاطر ثنائه وكرم نظرته إليّ تغمده الله برضوانه وأسكنه فسيح جناته.
إ. أ. ف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :737  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 129 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.