شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مرزوق بن تنباك الحربي.. وشُجُونٌ بين أدنبرة والاثنينيّة
ـ كانت رحلة شاقَّة ومُمْتعة في - آن - لشاب في مُقتبل العُمْر يقْطعها بين لندن وأدنبرة، وكان يمعن النَّظر في تلك الخزَّات العنيفة التي تتساقطُ على الأرْض الممتلئة بالأعشاب الخضراء وهي خُضْرةٌ تختْلفُ عن تلك التي كان يُمتِّع الفتَى ناظريه في البَساتين الممتدَّة على دَرْب ((قُربان))، وطريق ((قُباء))، وساحة ((سيِّد الشُّهداء)) - رضي الله عنه - حيْث تشعُّ الأنوارُ من (أُحُد) ذلك الجبلُ الذي اهتزَّ عندما صعدَ إليه سيِّد ولد عدنان - عليه صلوات الله وسلامه - فخاطَبهُ قائلاً: اثْبُتْ أُحُدْ، فما عليك إلا نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان فكان في الخطاب معجزة، وفي القول استشرافُ لمُستقبل مَجْهول، كشَف الله فيه الحجاب وفْق إرادته - عزَّ وجلَّ - لحبيبه ونبيِّه، وصفيِّه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -
إنَّ المطرَ والشَّمس، والأرْض لتختلفُ في هذه الأرض الغريبة بسمائها وأهلِها وعاداتِها عمَّا شبَّ عليه الفتَى ورآه في نشأْته الأولى وفي سنين قضاها بين العنبريّة، والمناخة في طيبة الطيّبة، أو بين الشَّامية والنَّقا في البلد الحرام.
ـ وكثيراً ما حلَّ الضيِقُ بنفس الفتى عندما يحلُّ الظَّلام - مبكِّراً - وتأوي النَّاس إلى بيوتها، وتعصِفُ الرِّياحُ بمُدن الشِّمال الأسكتلندي حتّى لتحسَّ مع قُوَّة الأعاصير أَنَّ البيوتَ سوف تُقْتَلَعُ من مكانِها، وسرعان ما تشرقُ الشمْسُ فيبدو كلّ شيء جميلاً ومحبَّباً إلى النَّفس التَّواقة والظَّامئة لاستكشاف ما يدُور حوْلها. لقد كان - يا صديقي - ظمأٌ لا ينقطع، وتَوْقاً يعرف أو يتذكَّر بداياته، ولكنَّه - لا يفْقَه - حتى اللحظة مداهُ أو نهايتَهُ.
ـ هذا (برنسيس ستريت ما شارع الأميرة) - وهذه قلْعَة الملكة، وتلك البحيرات الجميلة التي عرفت بها ضواحي جلاسكو، وأباردين، وأدنبرة، وكان ينصت لهذا الحديث وغيره من زميل كريم سبقه إلى الدراسة العليا في ذلك الجزء من الجزيرة البريطانية، والذي يحتفظ أهله بلهجتهم الخاصة ولكنه تعجب بعد ذلك كيف أن ((أبناء اسكتلندا)) الذين يداعبون بعضهم البعض بعبارة عامية مثل ((كمرا - هاو)) - ((كيف الحال))؟ قبل أن يأخذوا مقاعدهم في مجلس العموم، ثم إذا أذن لهم المتحدث باسم المجلس بأن يأخذوا - حظهم أو فرصتهم - للنقاش فيما ينفع الأمة الواحدة، فإذا بهم الأكثر فصاحة في لغة تشوسر، وشكسبير، وديكنز، وإن الفرصة لم توات الفتى ليسمع ((سير دوقلاس هوم)) الذي كان يرد على معارضيه في البرلمان بلغة صافية، وشفافة، فإنه أصغى كثيراً ل ((روي جينكز)) الذي كان يحتل في حكومة العمال منصب وزير الداخلية. أما مالكولم ريفكند، الذي كان يمثل دائرة اسكتلندية في المجلس، فإنه قبل أن يصبح وزيراً للخارجية بعد ذلك، كان يتحدث بطلاقة عجيبة من غير أن تكون - هناك - مدوّنة أمامه، وكانت فصاحة هذا الأسكتلندي، لا تقل عن فصاحة ابن الشمال الإنجليزي ((مايكل فووت))، أو ابن مقاطعة ((ويلز))، ((نييل كينيك)) الذي كان يذكر السامعين في مداخلاته مع ((تاتشر))، بالخطيب العمالي المفوه ((هيوجيتسكيل)) الذي قضى في بداية الستينات - فجأة - وكان الرئيس الأمريكي السابق (كينيدي) معجباً بقوة حضوره، ونباهته، وفصاحته التي تجعل الناس يتشوقون لمرآه، وهو يحدثهم بصدق في ((بلاك بوول)).
ـ وفي منزل الزميل الذي كان يصدق عليه اسم الدليل المخلص ((الدكتور عبد الرزاق سلطان))، عرفت وجوهاً عدة من أبناء الوطن - حسن غفوري وعلي قربان، حسين الذَّواد، عبد الرحمن مطرودي، عبد الله مندورة ومن قبلهم عدنان محمد وزان الذي حللت عليه ضيفاً وكان يعتد - آنذاك - بمشيخة العالم الفاضل ورجل الإسناد حسن المشاط - رحمه الله - والذي يعتبر فضيلة الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان من أكثر الأبناء البررة وفاءً له على أنه يبر - إلى اليوم - أصدقاء ذلك العالم الرباني الذي حدثني عنه معالي السيد أحمد زكي يماني.
أطال الله بقاءه - إنه - أي الشيخ المشاط - كان ينزل إلى الحرم الشريف ويطوفُ بالبيْت في أوقات يَخْلو فيها الصَّحْنُ والمقَام بُعْداً عما يمكن أن يَدْخُلُ في باب الرِّياء، وإذا كان الصَّديقُ (أبو هاني) سَبقني لطلب العِلْم على يد فقيه مذهب الإِمام مالك، هو والدكتور عبد الوهاب، وفضيلة الدكتور السَّيد المُحدِّث محمد بن علوي المالكي، فإنني تردّدْتُ على منزل الشيخ (المشَّاط) مَعَ رجل الفَضْل الوالد عبد الله بَصْنوي وأجازني في بعض مروياته العَالية السَّند.
ـ وكان الشَّيْخُ ((المشَّاط)) محلَّ تقدير العالم والفقيه الحنْبلي الشَّيْخ ((عبد الله بن حميد)) - رحمه الله - والد الخطيب البليغ، والذي يمتلك من سعةِ الأفق وحُسْن الخُلْق ما يجعله جديراً باحترام الذين يعرفونه عن قُرب أو أولئك الذين يسْمَعُون به عن بُعْد، وهو فضيلةُ الدكتور صالح بن حُميد.
ـ أعودُ إلى (أدنبرة) التي عرفت فيها وجْهاً كريماً، هو الزَميلُ العصَّامي (الدكتور مرْزوق بن صنيتَان بن تُنْباك الحرْبي - الذَّائد عن لُغة القرآن بفكْره وقَلَمه الرَّصين - وكان الزُّملاء الذين سبقُونا إلى الدرْس في المملكة المتحدة أو الذين حطَّوا رحالَهم - معنا - في نهاية التسعينات الهجرية والسَّبعينيات الميلادية - يختلفُون في مشارِبهم، وأذواقِهم وتوجهاتهم الفكرية، ولكنهم كانوا يتَّفقون على محبَّة ((ابْن صنيتان))، ((كان مرزوق)) الذي نشأ في بادية المدينة، ونَهَلَ العلْم في جامعتها الإسلامية الأولى - المسجد النبوي الشريف، وفي ثانويتها التي تحمل اسماً عزيزاً على كلِّ نفْسٍ مؤمنة، وهو ((طيْبة)) الطيِّبة، كان الزميل يحمل في داخله قلْباً ناصعاً، تجلس إليه فيبتسمُ في وجْهك ابتسامة الصّفاء، ويحدِّثك حديث الصدْق، ثم يخابك بلغته البسيطة والعفوية متوسِّلاً إليك في أدب جم بأنْ ترافقه إلى منزله، وتجد نفسَك مُنْجذباً لشخصية لم تتنكّر لماضيها، ولم تتنصَّل من عراقتِها، ولم تبهرها تلك المظاهر الكاذبة من حضارة الغرْب، مع الانفتاح الواعي الذي تنمو معه، وبه شخصية الأكاديميِّ الذي قال عن الوطن في كتابه الرَّصين والمتميّز ((رسائلٌ إلى الوطن)) كان أمام المُصْلحين من أبنائكَ خياران لا ثالث لهما، إمَّا أن تبقى ذلولاً لتحقيق مصلحة لفئة محدودة الساحة، وميداناً للقبيلة والعشيرة والقرية والإقْليم، وأنْ تتعدَّد لك الولاءات بتعدُّد المصالح الضيِّقة، أو أنْ تجمع الولاءات والأطراف، وتتحدَّد الأغراضُ والأهواءُ، وتصهرها في بوتقة الوطن الذي يصنعُ الأمَّة ويجمع الشَّمْل، وأنْ يكون الولاء له - وحده - وأن تذاب النَّعْرة للقبيلة، والحميَّة للقرية، والانتماء للإقليم، وتُصَبُّ في كيان الأمة وحسْبُك ذلك، (انظر: د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك، رسائلٌ إلى الوطن، 1412هـ - 1992م، ص 13).
ـ لم تكنْ، صديقي، مُتجنّياً عندما كتبت إليَّ بتاريخ 18/2/1413هـ - 16/2/1413هـ - 16/8/1992م، بلغة العالم الواعي، والأديب المُرهف الإحساس، والأكاديمي المتواضِع وأنتَ تتحدَّث عما بعثته إليَّ ممَّا كتبْت وألَّفْت في رحلتك العلمية الطويلة والمُضيئة مع الحرف والكلمة.. لقد كتبت يا ابن الوطن الواحد، والكلمة المُجتمعة، والفِكْر ((النَّظيف)) تقول ((تأخرتُ في الردِّ عليك - منتظراً - ما ستجده مُرفقاً في هذه الرِّسالة، لا اعتدادَ فيما ستَجِد، ولكن محاولة لتقديم بعض ما كُنت تُتْحِف به - أخاك - من وقت لآخر - من مؤلَّفات قيِّمة غالية على نفسي فأحببت أن أفضحَ أمامك جهْلي، وأقدِّم بعض عقْلي فيما ستقرأه - إن شاء الله - كتابان قد تجد فيهما ما تقرأ بحُكم التخصُّص والطَّبيعة وملكة الأدب النَّامي في ذَوْقك وإحساسك. لكن أخاك يعتزُّ بالثَّالث كل الاعتزاز وإنْ كان قد خَلاَ من سمات الأكاديمية وصَرَامتها، أشعرُ أنني أقول رأيي ((ولن أمْشِ))، بل سأقوله كل ما استطعتُ أنْ أقول، أوْ وجدتُ وسيلةً للقوْل)).
نعمْ لم تكن متجنيًّا عندما كتبت - صادقاً - بأن ((رسائل إلى الوطن)) هو الأقْرَبُ إلى نفسك ولهذا فأنت تعتزُّ به، مع أنَّك نلْت جائزة كنت جديراً بها على مؤلَّفك القيِّم، الذي سوف يظل علامةً مضيئة في تاريخ ثقافتنا المعاصرة ((الفُصْحى - ونظرية الفكر العامِّي)).
ـ لقد كان ((رسائل)) في مضمونه وأسلوبه يحمِلُ تلك القيم الرَّفيعة التي آمنت بها، وطبَّقتها في حياتك، وفي تعاملك مع زملائك في ديار الغربة، وأرْض الوطن، فلقد كنْت الأخ الأكبر بطيبةِ نفسه، وأريحية يديه، ورجولة مواقفه، ونظافة سلوكه، ولقد حقَّقْتَ ما عجز الآخرون عنه - بهذا وغيره - على كثرة في الادِّعاء، وتصادم مع ما ينادون به عندما يعْتلون منبر الفكْر والثَّقافة.
ـ لأنَّ كرمك راعي الأدب والأدباء الصَّديق الأستاذ عبد المقصود خوجه في دارته العامرة، فإنك جديرٌ بهذا وسواه وأعلم أن بصرك جال بين الحاضرين، تبحث عن إنسان يعتز بشخصية الأديب والمثقّف فيك، فلم تجده بين مَنْ حضروا ليحيُّوك، وتنطلق الألسنةُ منهم لتقولَ في حقِّك - يا أبا راشد - شيئاً، فلعلَّكَ وصاحب الدَّارة تجدان لي العُذْر في غياب لم أتعمَّده، وليس كل ما يُعْلَم يُقال، ولعلَّ هذه السُّطور المتواضعة تشفع لي عندكما، فكلاكما قريبٌ إلى النَّفس ومحبَّب إليها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :900  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 314 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الأول: خميس الكويت الدامي: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج