شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
يساري ويساريون
ـ ((إريك هيفر)) Eric Heffer مفكر إنجليزي وأحد الأصوات المعروفة في مجلس العموم ويميل إلى التوجه اليساري في حزب العمال البريطاني، توفي قبل مدة وجيزة بعد معاناة مريرة مع داء عضال استمرت لمدة تزيد على عام ونصف. ولقد وجدت في مواقف هذا المفكر ما يمكن الإِشارة إليه لنستطيع التمييز بين جوانب الفكر الغربي وأولئك الذين يندسون في صفوف المثقفين العرب، ويدّعون التقدمية ويكذبون على مجتمعاتهم بأنهم في تقدميتهم هذه إنما يستندون إلى أسس الفكر الغربي ويحاولون الاستفادة من معطياته، مع أننا عند دراستنا لهذه النخبة العربية نجدها بمواقفها تجسد خذلاناً حقيقياً للقيم الإِسلامية والعربية من جهة، وإخفاقاً في فهم وإدراك الفكر الآخر، فضلاً عن تمثل حقيقي له واستيعاب لأبعاده.
المفكر ((هيفر)) رغم اقتران اسمه بالنخبة اليسارية في الساحتين الفكرية والسياسية، إلا أن هذا الاقتران لم يفقده ارتباطه بالكنيسة الإنجليزية، وذلك يعود لنشأته في أحضان التعاليم المسيحية حيث كان يتردد على الكنيسة حوالي ثلاث مرات في يوم الأحد المخصص لتلقي هذه التعاليم، ولقد أدى به هذا الارتباط إلى تأليف كتاب عن المسيحية وهو واحد من أربعة كتب أنجزها في الفترة التي كان يصارع فيها المرض، وتأليفه لهذا الكتاب عن ديانته جعل صحيفة التايمز اللندنية تطلق عليه صفة ((شديد التمسك بالتعاليم الأنجليكانية)) High Anglican.
ولعلّ هذا التمسك يبدو - أيضاً - في تطلعه إلى النموذج المسيحي المتمثل في الربط بين حرفته الأصلية وهي النجارة وما كان يشتغل به الأنبياء والرسل من حِرَف.
وهو مع يساريته التي لازمته طوال حياته التي قاربت سبعين عاماً، كان أول مفكر وسياسي إنجليزي يرفع صوته في مجلس العموم ليدين الغزو السوفياتي لأفغانستان في وقت كانت فيه النخبة البريطانية المحافظة لا تجرؤ على هذه الإدانة، كما كان أول معضد لحركة ((تضامن)) البولندية والتي سجلت في بداية الثمانينات الميلادية المشاهد الأولى في صراع دول أوروبا الشرقية مع الحركة الماركسية ورموزها المتهالكة، كما كان عدواً معروفاً للنزعة التسلطية والمركزية الحزبية التي كان يمثلها الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، ولهذا طالب بحرية الفرد والإصلاح، في الوقت الذي لم يكن يتصور أحد أن زعيماً اسمه ((جورباتشوف)) سوف يبرز من بين أعضاء الكرملين لينادي إلى ما يسمى ((بالبروسترويكا)) . وعندما تألب اللوبي الصهيوني على بريطانيا لينال من الأميرة ((مايكل)) أميرة كينت، كان ((هيفر)) يمثل الصوت الوحيد الذي يطالب بوقف تلك الحملة القذرة التي شنتها مجموعة صحف الناشرين اليهوديين ((روبرت ماكسويل)) و ((روبرت مردوخ)) متعللة بجذور الأميرة الألمانية وديانتها الكاثوليكية التي ترفض الاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل.
وعندما حال المرض بينه وبين حضور جلسات مجلس العموم ثم حضر فجأة في الجلسة التي خصصت لمناقشة حرب الخليج في شهر يناير لعام 1991م قابله أعضاء المجلس على اختلاف توجهاتهم بالتصفيق، وقام رئيس الوزراء البريطاني المحافظ الذي لم يمض على وجوده في ((داوننغ ستريت)) سوى مدة وجيزة، قام من مكانه مخترقاً الصفوف وانحنى مسلماً على واحد من أكثر الأصوات حدة في انتقاد الحزب الحاكم والحزب المعارض الذي ينتمي إليه هو نفسه، وكان ((ميجور)) بهذا الصنيع يجسد تقليداً رائعاً تعلمه الغرب من حضارتنا الإِسلامية العريقة وهو احترام الخصوم وتقدير أصحاب الفكر الآخر دون أن يعني ذلك تسليماً بما يقولون أو تنازلاً عن المنطلقات والأسس.
إنني لم أقدم هذا القدر من سيرة هذا المفكر إلا ليتسنى للقارئ الموازنة بين مواقفه الصريحة والواضحة ومواقف النخبة اليسارية في العالم العربي التي لا تصر فقط على عدم انتقاد الفكر الشيوعي وكأنه شيء مقدس لا يجوز المساس به، ولكنها تتمادى في غيها إلى درجة معاداة وخصومة الذين يقدمون على مثل هذا الانتقاد، وهي النخبة نفسها التي تطلق على مجاهدي أفغانستان المسلمة اسم العناصر الثورية المتمردة في صحفها ومنابرها الإعلامية، ورفضت وكانت ترفض حتى إدانة الوجود الشيوعي على هذه الأرض المسلمة وإذا كان بعض مفكري أوروبا الذين نلمس في حياتهم ميولاً محددة تجاه التوجه اليساري لا يرضون أن يكون هذا التوجه على حساب عقائدهم المسيحية الراسخة في نفوسهم، فإن كثيراً من مثقفي العالم العربي - وهو أمر مؤسف ومحزن - يخجلون من الانتماء لهذا الدين العظيم أو الإشادة بنبيه الخاتم - صلى الله عليه وسلم - ويعدون ذلك تأخراً ورجعية، بل إن بعضهم يتطاول في وقاحة وخسّة على مقامه السامي وشخصيته العظيمة، ولو كان لهؤلاء الذين نطلق عليهم في عالمنا العربي - النخبة المثقفة - قلوب يعون بها وضمائر يرجعون إليها لما احتجنا إلى أن ندلل لهم على فساد تصوراتهم بنماذج وأمثلة من الفكر الآخر، ولكن الذي قادنا إلى ذلك شدة انبهارهم بالفكر الغربي وتعلّقهم بتقاليده ورموزه، ولكنه للأسف الانبهار الذي لا يتجاوز النظرة الأولى، والتعلق الذي لا يُعمل أدوات الفكر ولا ينزع إلى معرفة عميقة بمصادر العلم لدى الأمم الأخرى، وهو أمر يضعنا أمام سؤال هام: ألسنا بحاجة إلى عقول ناضجة وأقلام مؤمنة بدينها أمينة على تراثها لتوقفنا على حقائق الفكر الأوروبي لنميز غثه من سمينه ونعرف سيئه من صالحه؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :639  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 223 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج