شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رحلة الشوق بين العنبرية والحارة
مع شروق شمس كل يوم أغر من أيام البلدة الطاهرة التي هاجر إليها سيد الخلق وشفيعهم إلى الله مأموراً من رب العزة والجلال، واحتضنه ثراها الذي تطيب بوجوده فيها عندما لحق بالرفيق الأعلى وقد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حق جهاده، عندما تطلع الشمس بهية في سماء البلدة الطاهرة يحمل الفتى دفاتره وكتبه بين يديه، ويقبض على قروش محدودة تدسها والدته في أحد جيوب ثوبه. ولم تعلم المرأة التي قدمت من ديار حرب وتعلقت نفسها بديار الحب والإيمان لم تكن لتعلم أن أطفالاً في سن ابنها سوف يسطون على تلك القروش أو الهللات ويظل هو وحيداً في فناء المدرسة ينظر إلى زملائه وهم يأكلون نصف ((الشريكة)) مع الجبن من مقصف حاج موسى - رحمه الله - في دار العلوم الشرعية... يتلفت يمنة ويسرة في دروب يسلكها هائماً أو عاشقاً ومتأملاً... هذه أشجار السدر تظلل منحنيات الطريق الذي يسلكه وهذه العربات تجرها البغال تحمل أمتعة الناس وأشياءهم وهذه أصوات الباعة تنطلق من السوق أو الخان تريد أن تستفتح كما يحكي اللسان الفصيح هنا في معقل الإيمان هذا طريق (الشونة) يتوقف الفتى لينظر إلى ذلك الوجه الإيماني الذي يسكن في ربوة عالية، يخرج الرجل من الربوة ليسكب الماء على أطرافه، لا بد أنه يريد أن يؤدي صلاة الضحى... خطوات قليلة يقطعها ثم يقف الفتى أمام فرن المعلمة (وحيدة) امرأة تطلب لقمة العيش حلالاً من عرق جبينها ليس في هذا الفعل ما يشين بل إنه الشرف الأكبر والمنزلة الرفيعة التي كانت تتبوأها المرأة في البلدة الطاهرة، تذكر حديث والده - رحمه الله - تنصب الكلمات في أذنيه وتظل هناك في الذاكرة إلى الأبد... ((رأيت يا بني الفتيات يحملن على رؤوسهن التراب عندما هدم فخري باشا - غفر الله له - أسواق المدينة لمآربه الخاصة حين كان والياً على المدينة، وأذاق أهلها من صنوف العذاب ما أذاق))، يتابع الفتى مسيرته يلمح رجلاً مهيباً يدخل من باب السلام قادماً هو الآخر من حي الشونة، وخلفه طلاب يرتدون العمائم ويسيرون في أدب، إنهم من حفظة القرآن الكريم، ولم يكن ذلك الرجل المهيب الطلعة سوى عباس قاري أحد حفظة كتاب الله في بلد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأزعم أنه من القلائل الذين كانوا يرتلون القرآن مجوداً كأحسن ما يكون التجويد... وتحضرني الآن أسماء المشائخ من أمثال الشيخ حسن الشاعر، وأحمد ياسين خياري، وحسن بخاري وحسين عويضة، والسيد أحمد السنوسي، وعبد العزيز بن صالح رحمهم الله.
يدخل الفتى المدرسة يأمل ألا يكون متأخراً وإلا فعصا الأستاذ سليمان سمان الغليظة تكون في انتظاره، ونظرات حادة من وكيل المدرسة الأستاذ المربي بكر آدم رحمه الله كفيلة هي الأخرى بإدخال الرعب إلى نفسه المرهفة جداً، في الساحة التي تقع أمام مبنى المدرسة ينتشر الباعة، ولكن بائع (الأقر) - وهي حلوى إندونيسية الأصل - أعتقد أن له النصيب الأوفى من القروش التي حملها الطلاب في جيوبهم، وفي بعض الأيام تكون هناك فسحة من الوقت قبل الدخول إلى المدرسة، يسير الفتى خلف بعض الزملاء قاطعين المسافة بين المدرسة وبين ما كان يعرف قديماً بباب الجمعة، والذي لم يبق منه إلا ذلك الكركون - بناء من الخشب - يجلس في داخله رجل ثقيل النكتة باهت الابتسامة لا يلتفتون إلى حديثه، وكان باب البقيع - والذي أول من دفن فيه - أخو الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة سيدنا عثمان بن مظعون رضي الله عنه.
وحين ندخل البقيع نبدأ بالسلام على من ضمتهم الربوة الطاهرة من آل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم وزوجاته وبناته، وننتقل إلى آخر المقبرة حيث يقع قبر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو الذي استحت منه ملائكة السماء، ثم قبر فاطمة بنت أسد رضي الله عنها والدة الرسول من الرضاعة وأم سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهي التي لحدها الحبيب صلى الله عليه وسلم بيده ودعا لها مستغفراً ومتوسلاً. وبين القبرين مساحة تغرينا بالوقوف فيها برهة من الزمن، حيث تهب النسمات الندية التي تبعث في الروح نشوة إيمانية مميزة، كيف لا والرحمات تنزل من السماء على أكرم من مشى فوق الثرى وصلى وقام وحج واعتمر؟
كان مراقب المدرسة عطوفاً على الفتى، فقبل مدة يسيرة من حلول موعد الظهر يسمح له مع عدد يسير من الطلاب بالصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه يوم تظلل فيه سماء المدينة سحب الرحمة، ويأخذ الفتى موقعه في مؤخرة الجزء القديم من المسجد، هناك يجتمع شمل المؤذنين. وقبل دقائق من حلول الأذان يقطع هؤلاء الرجال المسافة بين هذا الموقع ودكة الأغوات ويستلم كل واحد منهم مفتاح المنارة التي سوف يؤدي نداء الإيمان من طوفها، ويلمح الفتى شاباً في مقتبل العمر يقوم مع والده الذي يمسك (ببسطونه) كما يقولون، يلبس طاقية بلدي منشاة، وثوباً تكاد تلمح من أعطافه كيف يكون كي الملابس متقناً من قبل سيدات الدور آنذاك وأكاد أزعم أنني لم أعد أرى ذلك الهندام الجميل والأناقة الطبيعية... ولم يكن ذلك الفتى إلا الشاب عبد العزيز بخاري، ولم يكن الرجل الذي تهذبت أعطاف ملابسه سوى والده الشيخ حسين بخاري رحمه الله، وأتذكر أنني سرت في ذلك الوقت من عام 1383هـ، أي قبل حوالي أربعين عاماً وكنت يومها في المراحل الأولى من الدراسة، سرت متتبعاً خطى ذلك الشاب الذي لم أره من قبل في ساحة المؤذنين حتى وصل إلى باب المنارة التشكيلية نسبة إلى أسرة معروفة كانت تؤدي الأذان في القرن الثامن الهجري كما ذكره مؤرخ المدينة ابن فرحون. وارتفع الأذان من المنارة الرئيسة المجاورة لمثوى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وكان الشيخ بكر خوجة رحمه الله يؤذن في منارة السلام، وارتفع صوت الشاب من التشكيلية وكان حسين بخاري رحمه الله صاحب صوت قوي وشجي يستدر الدمع من العيون حتى وإن كانت عصية على انسكاب الدمع. وخيمت على سماء المدينة يومها أجواء الخشوع والطمأنينة وتسابق الناس من العينية والساحة وسويقة يستمعون لنداء الحق من جامعة الإسلام الأولى، وانتظر الناس خروج الشاب الذي تجاوز العشرين من عمره بسنوات قليلة، وقطع المؤذن الشاب عبد العزيز بخاري المسافة بين آخر المسجد في البناء الجديد إلى ساحة المؤذنين وكان والده أكثر ما يكون فرحاً، واستقر صوت عبد العزيز في نفس الفتى فمتى سمعه عادت به الذكرى إلى الماضي، يعيشه شوقاً وحباً وحنيناً في أعماق نفسه إلى أيام مضت في الرحاب الطاهرة قضاها متنقلاً بين السيح والحارة، وقرأ الدرس في حلقات العلم على أيدي رجال لهم ألسنة طاهرة وقلوب صافية ووجوه نضرة وأمني النفس بالعودة أقول لها (بكرة) و(بعد بكرة) يجي بكرة وبعد بكرة ولا أزال في البعد قصياً فمتى يا حبيبي وسيدي يكون اللقاء في الروضة سوياً...؟؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :846  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 126 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.