شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تقديم
الشاحنة التي ستقلنا من جدة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقف بجوار بيتنا منذ الصباح الباكر، وصوت ((المزهَّد)) جميل قمري يتصاعد في تلك الدروب العتيقة:
((شدّوا الرحال اليوم... والشوق ناداهم
وتجمعوا الأحباب... من بعد فرقاهم))
والدي يزهو بعمامته ((الغباني)) أمام باب الدار، ووالدتي وجدّتي قد فرغتا لتوهما من ترتيب الكعك والمعمول أو ((زوّادة السفر)) كما يقولون... كنت طفلاً لم أبلغ الحُلم بعد، أشعر بفيض من الفرح لزيارة مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تلك المدينة التي شهد ثراها خطاه، وعانق ليلها قيامه، وألف فجرها قرآنه...
تتحرك الشاحنة ببطء شديد، وكانت أحلام يقظتي تستبق الشاحنة والزمان والمكان... هذه (ذهبان) أولى محطات الطريق، تتوالى بعدها المحطات (ثول) (القضيمة)، (صعبر)، قبل أن تلوح لنا من بُعد (رابغ) بنخيلها، ومقاهيها، وبيوتها الطينية... ليبدأ الجدل بين أبي وسائق الشاحنة، فأبي يفضل أن نستريح في رابغ بينما راح السائق يغري أبي بأسماك ((مستورة))، وقهوة ((عليثة)) التي لا يُعلى عليها من وجهة نظر سائق الشاحنة، لكن أبي حسم الجدل بإصدار أوامره للسائق بالتوقف، معللاً أوامره بتعب المسافرين، إذ لم نكن وحدنا على ظهر تلك الشاحنة، فلقد كان يشاركنا الرحلة عدد من الأسر (الجدّاوية) التي لم تكتف بجوار الحارة، فآثرت أن تجاورنا على ظهر الشاحنة أيضاً!
وفي أحد ((المراكز)) البعيدة في ذلك المقهى العتيق تجمع الرجال من رفاق الرحلة، بينما ضمت النساء إحدى الغرف الطينية المجاورة للمكان... وقد كان لوجبة السمك تلك مذاقها، ولأحاديث المسافرين عذوبتها...
ولم يطل بنا المقام هناك، فسرعان ما عدنا من جديد على ظهر الشاحنة، تطوي بنا المزيد من القرى ((مستورة))، ((الواسطة))، ((بدر))، ((الفريش))، ((المسيجيد))، ثم ((أبيار علي)) التي لاحت لنا من بعدها مآذن الحرم النبوي الشريف، ليرتفع صوت الأطفال بالنشيد:
((طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا اللَّه داع))
كان الليل قد تجاوز منتصفه حينما وصلنا إلى ((عروة)) وهي المحطة الأخيرة في الطريق إلى المدينة المنورة، ولم يكن ثمة خلاف بين المسافرين في أن يكون دخولنا إلى المدينة فجراً، لذا كان علينا أن نقضي ما تبقى من الليل في ((عروة)) نفترش الأرض، ونستقبل النجوم صدراً بصدر.
في الصباح كانت الشاحنة تعبر باب ((العنبرية)) مروراً بحي العنبرية الذي تصدر عنوان هذا الكتاب ((رحلة الشوق في دروب العنبرية))، ولعل المؤلف حينها - بحسب تقدير د. محمد خشيم - كان طفلاً يطل من إحدى تلك النوافذ المشرعة على الطريق، حينما راحت الشاحنة المنهكة تدخن وتصفر وتزمر قبل أن تتوقف بالقرب من باب المجيدي، حيث كان الدليل في انتظارنا ليقودنا إلى السكن الذي أقمنا فيه بعد ذلك أياماً لا تنسى، ننطلق خلالها مع صياح الديكة إلى الحرم النبوي الشريف لأداء صلاة الفجر، ثم السلام على نبينا المختار محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن يحتضن خطانا شارع ((العينية)) بحوانيته الأنيقة، نلتهم شراب ((السحلب)) الساخن في تلك الصباحيات الباردة، ونمضي يومنا بعد ذلك بين بساتين (بضاعة) و(الصافية) ومقاهي المناخة، ومنعطفات ((سويقة)) الضيقة، قبل أن تضمّنا من جديد حصوة الحرم بين المغرب والعشاء، لننعم بالتنقل بين قارىء للقرآن ومتحدث بحديث خير الأنام، في أجواء روحانية لا عهد لنا بها من قبل.
ذكريات عمرها عشرات السنين تنسكب في لحظة إثارة منحني إياها مؤلف هذا الكتاب الأديب والمؤرخ الصديق الدكتور عاصم حمدان، فلقد تفضل علي بطلب كتابة مقدمة هذا الكتاب الذي أخذني عنوانه إلى دروب التاريخ ورائحة الزمن الجميل... فعاصم حمدان لا يكتب تاريخاً. ولا يسجل واقعاً فحسب، ولكنه يرسم بالكلمة صوراً إبداعية لا يتقنها إلا مصور فنان يلتقط صوره بعدسة القلب والعقل والوجدان.
هذا المدني الجميل المحيّر بثقافته الاجتماعية ما حل بمدينة قط إلا وأصبح جزءاً من ذاكرتها الاجتماعية ونسيجها العام، يجمع كل هذا في تناغم فريد مع مرجعته ((المدينية)). فلقد قصد مكة المكرمة طالباً، فغدا خلال سنوات معدودة خبيراً بأهلها وشعبها وحكايات رجالها، فإذا ما قرأت كتابه (أشجان الشامية) ظننته ذلك الأنيس الذي افتقده الشاعر في الزمن القديم بين (الحجون) و(غليم) ذلك الأنيس الذي لفحته مكة برياح سمومها، فامتزجت في شخصيته رجولة أهل مكة، ودماثة أهل طيبة.
وتطوّحه المعرفة بعيداً في بلاد الاسكتلنديين سنوات طويلة، ولكنه عاد بعقله وعقاله، فلقد أخذ من الإنجليز والاسكتلنديين علومهم التي تحت القبعة، ولم يأخذ القبعة، كما فعل الكثيرون.
وفي جدة التي يستوطنها الآن معلماً في جامعتها، لم يعزل نفسه قط في برجه الأكاديمي، فلقد بسط علمه على قارعة المدينة، يكتب في صحفها، ويتحدث في أنديتها، ويسامر أهلها في برحة ((المظلوم))، ودروب ((العلوي)) ومجالس البيوت العتيقة العامرة في حارات اليمن والشام وأطراف المدينة المتناثرة.
أصدقاؤه خليط من خلق الله الطيبين، وولائم داره تضم العالم الجليل مع ولد الحارة النبيل، كما تجمع الثري الكريم بالفقير العفيف، فليس لصداقته اشتراط غير الحب، وليس لحبه اشتراط غير النقاء.
ولعلكم تلاحظون أنني تحدثت عن الكاتب ولم أتحدث عن الكتاب، فإذا كان من مألوف القول أن ((الكتاب يُقرأ من عنوانه)) فإن من صدق التجربة أن ((الكتاب يستمد أهميته من قيمة كاتبه))، وعاصم حمدان قيمة علمية وإبداعية، وذاكرة انتمائية، لذا لا أنصحكم بقراءة هذا الكتاب، ولكن بالسير معه وجدانياً في ((رحلة الشوق في دروب العنبرية)).
محمد صادق دياب
 
طباعة

تعليق

 القراءات :798  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 125 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الأول: من المهد إلى اللحد: 1996]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج