شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (1)
في الليل الذي تتوقف مع حلوله الحياة في البلدة الطاهرة، وكانت هذه الحياة بسيطة كل البساطة وفي بساطتها هذه يكمن الجمال الحقيقي لهذا الوجود الذي نعيشه أو نعايشه، في هذا الليل أتسلل خلسة إلى مجلس والدي الذي يرمقني بنظراته وما إن تستقر نظراته عليَّ حتى أعرف من إشاراتها تحديد موقعي من هذا المجلس. والموقع بطبيعة الحال في مؤخرة المجلس. فالرجال الذين يسامرونه هم ضيوف علينا، وللضيوف صدور المجالس فكيف بهم إذا كانت الصفوة التي يأنس والدي إلى حديثها ولا تطيب أوقاته إلا بها. وكنت ألحظ مسألة لم أتبين حكمتها إلا فيما بعد، فهذه الصفوة هي ممن تقدم بهم العمر، ويكتسب هذا التقدم ميزته من أن بعضهم طوف في هذا العالم وتنقل بين بلاد عدة. عرفت فيما بعد أن ظروف الحياة كانت تجبرهم على هذا التنقل، ولعلّ بعضهم عشق السفر؛ فما أن تستقر به الحياة في مدينته حتى يعاود الحنين إلى مواضع بعينها في هذه الأرض. وكأن الواحد منهم يفتخر مثلاً بأنه شرب من مائة عين. ولعلّ السفر على مراحل، في تلك الحقبة الماضية، كان يؤدي بهم إلى الوقوف في أماكن متعددة. وكانت العيون عندئذٍ المصدر الوحيد للشرب. ألم يكن في المدينة نفسها أكثر من عين؟ من أشهرها عين سيد الشهداء التي كانت تقوم خلف مضاجع شهداء موقعة أُحد. وكان مما يميز هذه العين وجود السمك فيها بأحجام مختلفة. ثم نضبت تلك العين كغيرها من العيون الأخرى التي كان بعضها يسقي الشَّجر كما يسقي البشر.
لم تكن الوجوه بسحناتها المتميزَة، بملابسها الأنيقة، بضحكها الذي لا يتجاوز التبسم، وبحديثها العذب الذي أهم ما يميزه صدق القول وببعده عن التعرض لخصوصيات الناس، ولم يكن هذا كله الذي يشدني إلى المكوث وقتاً أطول بينهم؛ ولعلّي في سبيل هذا المكوث بينهم كنت أظهر شيئاً من البراعة في المهام التي يطلب مني والدي القيام بها: أسكب لهم القهوة العربية من الإِناء المخصص له وهو (الدلَّة) ويجب عليَّ أَنْ ألاحظ عدم اندلاق قطرة واحدة على الأرض. ثم أصعد الدرج مسرعاً حيناً ومتأنياً أحياناً أخرى. أسمع الصوت يأتيني من ((المقعد)): أين الشاي يا ولد؟ أستحثهم لصنع الشاي. وكان الناس يتخيرون النعناع بأنواعه المختلفة حتى يعطي الشاي نكهته الخاصة. الناس في المدينة لا يشربون شرابهم المفضل من دون النعناع (المديني) أو (الحساوي) المخصص لأوقات الشتاء، و (المغربي) ما أشبهه بورقة مراكش في المغرب لأوقات الصيف، وذلك يعود لطبيعة نبتة النعناع نفسها. أعود إلى المجلس وأضع (صينية) الشاي بين يديه ثم أباشرهم به (بالمناسبة يجب أن تحني قامتك وتخفض من رأسك حتى يتمكن الجالس من تناول قدح الشاي وهو في الوقت نفسه أسلوب تبرز من خلاله إكرامك للضيف وتأدبك معه).
لقد كان يا صديقي ما يشدني ويصيبني بالدهشة أيضاً هو ذلك الأدب الرفيع الذي تتعامل به هذه الفئة من الناس مع بعضهم. الصديق لا يرفع صوته على صديقه، لا يحتقره، لا يأكل في داره ثم يخرج ليتحدث إلى الناس ليحكي لهم قصصاً من صنع الخيال عما شاهده داخل الدار، لا يتركه وحده إذا ما نزلت به نوائب الدهر أو حلت به كربة من كرباتها، يواسيه من غير أن يجرح كرامته أو ينال من كبريائه، ثم لا ينطق بكلمة واحدة عما صنع. إذا اختلفوا يا صديقي لا يحملهم الخلاف على العداء وإذا تصافوا لم يدفعهم هذا الصفاء بأن يجاملوا بعضهم في أمر لا يرضي الله أو يكون في الإقدام عليه مدعاة لسخطه وغضبه. ولعلّك تسألني يا صديقي: هل عاش هؤلاء القوم حقاً على هذه الأرض؟ إنني لأجزم لك بأنهم عاشوا يوماً على أديمها وتنقلوا بين مناكبها، ولعلّ دهشتك تعظم إذا ما علمت أن حظهم من العلم كان قليلاً وحظهم من الأدب ورعاية حقوق الجار والصديق كان عظيماً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :765  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 33 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج