شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (1)
تخرج من باب الحرم النبوي المسمى بباب جبريل. فيواجهك هذا الحي ببنائه المتميز، بيوت متقاربة وطرق ضيقة ومتعرجة. الشارع الرئيس الذي يخترق هذا الحي والذي كان يسلكه أهل المدينة حاملين موتاهم إلى روضة البقيع، أو مسلمين عليهم في المناسبات. هذا الشارع يفضي بك إلى رحبة تضم منهلاً للعين ومقهى صغيراً وبناء قديماً يسمى ((الرستمية)). أما المنهل الذي كان سكان الحي يستخدمون ماءه في الشرب ويتم هذا الاستخدام عبر وسيلة كانت متداولة في المدينة إلى قبل ما يقرب من ربع قرن من الزمن وهي ((الزَّفة)) وهي أداة لحمل الماء لتزويد المنازل به، وكان الشخص الذي يحمل هذه الزفة ويسير بها بين الأزقة والحواري يسمى (السقا) هكذا كانت تنطقه عامة أهل المدينة. وإذا بلغت الحارة وأردت الوصول إلى هذا المنهل فما عليك إلا أن تهبط إليه عن طريق درجه الخاص والمرصوف بالحجر الذي كانت تتميز به معظم شوارع المدينة القديمة وأسواقها ((كشارع العينية))، ((وسويقة))، و ((سوق الحدرة)) وفي الجهة المقابلة ((للعين)) أو ((المنهل)) كان يقوم مقهى المعلم ((طيفور)) الذي يأمه الناس إذا ما فرغوا من صلاة الصبح وأرادوا الانطلاق إلى أعمالهم، أو إذا ما أخذت الشمس في المغيب وتطلعت الأنفس إلى الراحة والاستمتاع بتلك النسمات الرطبة التي كانت تنبعث من أرض الحارة. فالرحبة تضم العين والمقهى والبناء القديم ويطل عليها منزل شيخ الأغوات الذي كان يتطوَّعُ ((لِرَشِّها)) بالماء رجل غريب الأطوار كان يتخذ من الغرف الصغيرة المتناثرة في ذلك البناء القديم مسكناً له، إنه ((عبد الرحيم)) لا أعرف له لقباً أو كنية، يلبس الأسود من الملابس. لا يتحدث إليه أحد من أهل الحارة أو من غير أهلها الذين يأمونها ولا يتحدث هو إلى أحد، يقضي سحابة نهاره في الحرم قارئاً للقرآن وإذا ما واتتك الفرصة ووصلت الحارة في الهزيع الأخير من الليل فستلمحه صاعداً من العين حاملاً الماء على كتفيه ثم ساكباً له في تلك الرحبة كأنه يهيئها بتلك السقيا لبقية القوم من أهل الحي الذين يحبهم ويحبونه ولكنهم يتورعون عن الحديث إليه فغضبه لا يطاق وحياته تنطوي على سر وما أكثر الأسرار في حياة أهل الحارة، ولم يكن ((عبد الرحيم)) الذي يتخذ من ((الرستمية)) والتي أعتقد أنها كانت في حقبة ماضية مدرسة من المدارس التي أقامها الوزير رستم باشا في ما أقام من مؤسسات خيرية في جميع أنحاء العالم الإسلامي، لم يكن صاحبنا الوحيد الذي لم تهييء له فرص الحياة أكثر من مساحة محدودة في البناء الذي كاد يتهدم لتقادمه بل كان في جواره يسكن العم ((حسن)) الذي قضى جزءاً من حياته في ((مكة المكرمة)) وعلى وجه التحديد في حي الشامية حيث كان يعمل في بيت المحجوب، وكان عمل العم ((حسن)) هذا ينحصر في إعداد الطعام عندما تكون مناسبة معينة في الحي، وليس بعيداً عنهما كان يوجد ((زايد)) و ((سعد)) يحفران القبور في بقيع الغرقد نهاراً ويأويان إلى ((الرستمية)) ليلاً راضين بما كتب الله لهما وقانعين بهذه القسمة من الرزق. ثم العم ((حسب الله)) الذي كان يحترف صنعة ((النجارة)) وكان إلى جانب قيامه بهذه الصنعة يمثل الشخصية التي تتمحور عليها لقاءات سكان الرستمية وذلك بحكاياته الطريفة التي كان يرويها لجلسائه، وبتعليقاته التي لا يسلم أحد منها حتى المعلم ((طيفور)) نفسه والذي كان يعتبر مسؤولاً عن مبنى ((الرستمية)) فهو من أتباع الأغوات أو كما يقال من ((عتقائهم))، اسمه ((محمد)) و ((طيفور)) اسم ((سيده)) من الأغوات. ولقد امتد العمر بالمعلم ((طيفور)) إلى ما يزيد على ثمانين عاماً وكان يبدو للآخرين في تمام الصحة لم ينحن له ظهر أو تتغير له ملامح، يلبس ذلك الثوب الفضفاض ويشد على وسطه حزاماً ويعتمر ((كوفية)) بلدي منشَّاة، ولا يتعمم ولكنه يلقي بالسَّلِيمي على كتفه ويبقى طرفه الآخر متدلياً حتى ليكاد يلامس الأرض، يجلس على كرسي صغير مصنوع من ((الشَّريط)) وإذا ما جلس فهو منشغل بشيءٍ واحد وهو شرب ((النارجيلة)) يهيئها هو بنفسه، يخرج ((دخان الحُمِّي)) النوع الممتاز منه ((الغَيْلي)) يبله بالماء ثم يفركه بأصابعه حتى يجف ثم يضعه في ((الرأس)) المصنوع من الفخار، وزيادة في إتقان ((التعميرة)) فإنه ينفخ الرأس من أسفله حتى تتداخل حبات ((الحمِّي)) وتندمج مع بعضها البعض عندئذٍ تطيب نفسه فيضع على ((الحمِّي)) حبات صغيرة من النار، يخرج ((ملقاطه)) الصغير ويحرك الجمرات وربما استبدل ((ولعة)) بأخرى لا تسمع ((لنارجيلته)) صوتاً ولكن بإمكان أذنك أن تميز صوت أنفاسه وهي تمتح من ذلك الدخان الذي يملأ برائحته ذلك الفضاء المفتوح للمبنى العتيق.. قليلاً ما كان المعلم ((طيفور)) يشارك في أحاديث الجماعة التي تؤم الرستمية أو تسكن فيها، مثل ((الحاج التوم)) الذي يجيد شيئاً من كلمات اللغة الفرنسية والتي أفادها في مطلع حياته في بلده ((السُّودان)) والنور و ((عبد الله)) اللذين كانا يسكنان رباطاً موغلاً في القدم وهو رباط ((المظفر)) الذي إذا ما رغب أحد في دخوله فسوف تقابله عند مدخله درجات وعليه أن يسلكها نازلاً وليس صاعداً فتعاقب الزمن عليه جعل كل طبقة منه تمثل عصراً محدداً..
المعلم ((طيفور)) كان يمثل لي ولصديقي الأستاذ ((أسامة أحمد السنوسي)) سراً من الأسرار، سمعت عنه أنه كان من ((مشاكلة)) الحارة مثله في ذلك مثل ((أبو عشرين)) ومن ((عناترتها)) كما يقولون. وظلت هذه العبارات تشكل هاجساً غريباً في نفسي حتى إذا ما حل العيد واحتفل الناس بقدومه ووضع أهل حي ((باب التمار)) ((المزمار)) بالقرب من البقيع وكانت حينئذ منطقة شبه خالية من المباني، ولا يصبر على السكنى فيها إلا القلة من الناس الذين يتوزعون بين ظلال النخيل ويحتمون من الهاجرة بشجيرات الأثل. ذهبت لأشاهد مع الناس من جميع أنحاء المدينة هذه اللعبة التي يقال إنها أفريقية المنشأ ونقلها المهاجرون إلى أرض الحرمين فيما نقلوا من عادات وتقاليد.
ظللت أراقب لعبة ((المزمار)) وكانت المساحة المخصصة للعب كبيرة جداً، كان الكبار والقطع والصغار يشاركون في ((لفِّ العصا)) ويرقصون في حركات غريبة ولكنها طريفة، شاهدت من الكبار المعلم ((حمزة أبو سطوة)) الذي كان نازحاً عن المدينة ثم عاد إليها، والعم ((علي رنقا)) الذي شارك في بناء محطة سكة الحديد بباب العنبرية، والذي توفي قريباً عن عمر يناهز التسعين عاماً أو يزيد، ((وعدلي)) من مشاكلة الساحة القدامى، وكان هناك شيخ كبير قدم من جدة لسكنى المدينة وهو المعلم ((جميل عبده)) من أهل حارة اليمن من جدة. وجه مضيء كانبلاجة الصبح تزينه لحية بيضاء وملامح تشي بالصفاء والحب، هو الآخر أمسك بالعصا ولعب بها، كان معتماً بالغباني الأصفر فوق رأسه، وشاداً الإِزار الأخضر في وسطه، ومع أني كنت أتنقل في طرفي ساحة اللعب من جهة لأخرى، إلا أن فضولي كان ينصرف إلى شيء واحد فقط وهو الرغبة في رؤية المعلم ((طيفور)) الذي كان غائباً عن الساحة. وعندما سألت أحدهم عنه، كان جوابه مقتضباً: المعلم ((طيفور)) لا يلعبُ ((المزمار)). وانفض الجمع بعد أن تحركت منهم الأجسام وتقابلت العصي من فوق الرؤوس وحرَّكت الأرجل تراب الأرض الساكن وذراته، وخلت الساحة إلا من صدى يردد قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصَّفا
أنيس، ولم يسمر بمكة سامر
لقد مات ((طيفور)) ولم أجرؤ يوماً لأسأله، لماذا لا يلعب المزمار؟ أو أستفسر منه عما أفضى به لي الأستاذ عبد الستار بخاري - رحمه الله - ذات يوم. فلقد أومأ بإصبعه تجاه ((طيفور)) الخارج يومها من باب الرحمة وقال هذا رجل شجاع فعل كذا وكذا عندما كان شاباً، وبقي السر مدفوناً هناك في الحارة وذهب مع الطيبين من القوم الذين لم يبق منهم أحد، فلقد ساروا جميعاً إلى رحمة الله ضمتهم الأرض التي أحبوا واحتواهم التراب الذي عفروا فيه جباههم قربى لله وزلفى..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1087  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الأول: خميس الكويت الدامي: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج