شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بلاد المدني..
حتى ذلك اليوم، الذي أقدمت فيه على الهروب من الكتاب واستئجارالحمارلي أولاً، ثم لصديقي يحيى الذي أغريته، بالاحتيال للخروج من الكتاب، ومرافقتي في التجوال على الحمير، لا أذكر أني ارتكبت تصرفاتٍ أو هي مخالفات بهذا المستوى... ولذلك فأن لي أن أُسميها أول وأخطر تصرف خرجت به على السلوكيات التي كانت أُمي رحمها الله تحرص على ترسيخها في حياتي.
وفي اللحظات التي كنت أتبادل فيها الحديث مع يحيى عن الشيخ حامد، وجبروته، وعن الشيخ العريف محمد بن سالم وأتساءل ـ بيني وبين نفسي ـ عن ((المصْرع))، الذي قال يحيى أنه مزرعة لبيت (المدني)، وأنه بالقرب من (سيدنا حمزة) وجدت نفسي أتهيّب النتائج التي لابد أن تترتب على هروبي من الكتّاب أولاً... ثم على ركوب الحمير... وأخيراً على هذه الرحلة إلى أمكنة لم يسبق قط أن سمعت بها..
لم نكن قد ابتعدنا عن باب الشامي الذي خرجنا منه في طريقنا إلى (المصرع) عندما بدا لي أن أتساءل عن (الحمّار الذي اتفقت مع مالك الحمير على أن يرافقني... التفت ورائي فلم أر له أثراً... ولاحظ يحيى التفاتتي، فقال وهو يضحك:
:ـ. الحمّار؟؟؟ أنا قلت له... يرجع لعمه... أصلي أنا أعرف الطريق. وما دام الدنيا نهار... ما في خوف.
ولم أكن أخاف الليل، أو الظلام... ولكن كلمة: (ما في خوف) تلمح إلى أن الخوف ليس من الليل أو الظلام... وإنما من شيء آخر... جال بذهني (الذئب) وغيره من الحيوانات المفترسة، التي يمكن أن تظهر في الليل... وسألت يحيى:
:ـ. الخوف من الدياب؟؟
ففرقع ضحكة على طريقته وهو يقول:
:ـ. الدياب ما تخوّف يا عزيز... اللي يخوِّف هو البدو اللي يشلّحوا الناس ويأخذوا كل اللي في جيوبهم من الفلوس... وهادا اذا كانوا اللي بيمشوا في الليل، ما هم مسلّحين.
:ـ. ويعني نحن مسلّحين؟؟
:ـ. لا... بس نحن رايحين نكون في البيت في العصر.. يعني (ساعة الصرفة) من الكتّاب...
:ـ. أيوه صحيح... نحن لازم نكون في البيت ساعة الصرفة من الكتّاب..
:ـ. ويا ويلنا اذا تأخرنا وعرفوا أننا كنا غايبين.. عن الكتّاب.
:ـ. يعني، يا يحيى، نقدر نوصل ((المصرع))... ونرجع البيت زي ما بتقول؟؟
:ـ. ولا يهمّك... ويمكن ما نوصل المصرع... نتمشّ، ولمّا نشوف الوقت قرّب من (وقت الصرفة) نرجع... والحمير بنفسها تجري ونحن راجعين...
ثم التفت يحيى إلى جبل تعلوه مبان بيضاء.. وقال:
:ـ. هادي قلعة جبل سلع... وهيّه اللي كان (الباشا) يحارب منها البدو اللي كانوا محاصْرين المدينة مع الشريف..
:ـ. وأنتو كنتو في المدينة أيام هادي الحرب؟؟
:ـ. أيوه، نحن، ما رضي سيدي (عبدالنبي) أنّو يخلينا نسافر الشام، زي الناس اللي سفّرهم (فخري) بالبابور... قعدنا في المدينة... لكن تعبنا تعب الويل..
:ـ. زينّا نحن... سافرنا في البابور... وفي حلب تعبنا تعب الويل... اسكت يا يحيى هادي حكاية طويلة... الناس كانوا بيموتوا من الجوع... ويطيحوا في الأزقّة.. أموات وتشيلهم العربيات... كل عشرة مع بعض... ويدفنوهم كلهم في قبر واحد كبير..
:ـ. وأنت يا عزيز شفت بعينك الأموات؟؟
:ـ. كل الناس اللي في حلب كانوا بيموتوا.. وكنا بنشوفهم.. وأنت ما تدري أنّوا أهلنا كلّهم ماتوا في حلب... وفي حما... وما رجع منهم أحد إلاَّ أنا وأُمي على جمل من ينبع.
:ـ. وهنا كمان... ناس كتير ماتوا من الجوع... سيدي (عبد النبي) كان مخزِّن في صهريج تحت الأرض، أرزاق.. حب.. ورز.. وسمن... وفاصوليا، وحُمّص... وعشان كده ربّنا سلم وما متنا بالجوع... جعنا كتير.. عشان سيدي ما كان يخلينا نأكل إلا مرّة واحدة في اليوم... ونقعد جيعانين طول النهار... بس فيه ناس جاعوا... أكلوا الحمير الميتة وكمان أكلوا البِساس... وسمعنا فيه ناس أكلوا الأموات كمان.
:ـ. قل لي يا يحيى.. سيدك حسين كان بيأدّن زي هادي الأيام؟؟
:ـ. أيوه.. الباشا لما قفَّل أبواب الحرم وجلس فيه مع الضباط... كان يسمح للمأدنين أنهم يدخلوا المناير ويأدنوا... سيدي حسين... وكمان ((النجدي))... وكمان الباشا يعطيهم مرتيتن في الأسبوع قنّيطة وعلبة لحم..
وفجأة توقف يحيى عن حكاياته.. وقال:
:ـ. هيّا يا عزيز... هيّا نجري لا يلحقونا..
:ـ. مين اللي يلحقونا؟؟
وأسرع يحيى ينعطف بالحمار الذي يركبه في اتجاه المدينة... وانعطف الحمارالذي أركبه أنا أيضاً... وقال يحيى وهو يستحث الحمار على الركض:
:ـ. شوفهم هناك... تحت النخله... اتنين... هما اللي لو حصلونا يشلحونا... يأخذوا الحمير... ويأخذوا الحوايج اللي نحن لابسينها... ونرجع البيت عريانين... والتفتُ حيث أشار... ورأيتهما فعلاً... اتنين من البدو... عريانين ألاَّ من لباس يستر العورة... وفي يد كل منهم بندقية... أو ربما سيف.. إذ لم أتمكن من التحقُق مما أرى...
وانطلقنا لا نتوقف.. ولا نلتفت إلى الوراء... وكما قال يحيى، كان الحماران يسرعان في الركض لأنهما يريدان العودة إلى مربطهما في المناخة، والتفت يحيى التفاتة سريعة فهتف يقول:
:ـ. لقد انفلتا وراءنا... الاتنان يا عزيز...
وأدركني الرعب وأخذت اضرب الحمار، وأستحثه على المزيد من الركض.. إلى أن اقتربنا من (باب الشامي) فيه العساكر والضباط... وأدركنا أن الاتنين اللذين انفلتا وراءنا قد عادا واختفيا عن الانظار... وما كدنا نجد أنفسنا تحت سقف الباب الكبير، حتى استوقفنا أحد الجنود وهو يقول:
:ـ. من الذي سمح لكما بالخروج من الباب؟؟
من جانبي التزمت الصمت، اذ لم أعرف ماذا يجب أن أقول.. ولكن يحيى تصدى للاجابة بلباقته وذكائه فقال:
:ـ. ما أحد قال لنا لازم نأخذ إذن... ونحن بنتمشى في النهار...
:ـ. الذي استأجرتم منه الحمير... من هو؟؟
:ـ. يا عمّنا... اللي ا ستأجرنا منه الحميرهوّه كمان ما أحد قال له لازم نأخذ إذن... وفجأة (شخط) فينا العسكري بصيحة مرعبة... ولكز أحد الحمارين بكعب بندقيته... وهو يقول:
:ـ. اذا شفناكم مرة تانية، ما عندنا لكم إلا الحبس... فاهمين؟
:ـ. فاهمين.
وأنطلقنا نركض إلى مربط الحمير... وكان الرجل ينتظرنا... ولعلّه كان قلقاً إن لم يكن علينا فعلى الحمارين اذ قال:
:ـ. بركة اللي رجعتوا... بيقولوا... إن البدو اللي في الطريق، بيشلحوا اللي يكونوا بلا سلاح... ويأخذوا كل اللي معاهم.
ومن بعيد على مركاز آخر قال رجل متوسط العمر:
:ـ. ما هو ما دامت الحكومة استغنت عنهم... وما عاد بتدفع لهم المعاش اللي كانوا بيأخذوا أيام الحرب... إيش تبغاهم يسووا... يرجعوا لِلي كانوا فيه طول عمرهم.
:ـ. ولكن ما دام الحرب انتهت... يعني.
:ـ. أيوه الحرب انتهت... لكن هادول كلّهم كانوا زي العسكر... كانوا بيأخذوا معاشات... والحكومة ما يمكن تستغني عن عسكرها.
:ـ. عسكر الحكومة موجودين.. شوفهم في باب الشامي.. وفي القلعة... وفي قلعة جبل سلع.
:ـ. العسكر اللي بتقول أنهم موجودين، ما هم من البدو اللي كانوا مع الشريف.. هادول من الشام... ومن العراق... أغراب... ما هم العقيل.. والبدو..
وأثناء هذا الحوار الذي حرصت على أن لا يفوتني، كنا تركنا الحمارين... وتقدمنا إلى صاحبهما وأخرجت اللفافة التي وضعت فيها قطع النقد... وقبل أن أفتحها قلت:
:ـ. كم يا عمّ؟؟
:ـ. هات يا ولدي اللي يجي.
:ـ. بس كم يا عمّي.
ورفض أن يحدد... فأخرجت من اللفافة (مجيديا)... ما كاد يراه الرجل حتى حملق عينيه وهو يقول بدهشة: (مجيدي براسه؟؟).
وأسرع يخرج من عبْه كيس نقود، وقبل أن يستلم المجيدي، أخذ يعد قطعاً من النقد بينها ربع مجيدي، وكمية من الهلل... وناولني كل ذلك.. وأخذ المجيدي... وهو يقول:
:ـ. يا ريت الطريق أمان.. وتيجي كل يوم... أنت وصاحبك... روح يا ولدي... ربّنا يرضى على أصلك..
وكان الوقت يقترب من وقت (صرفة الكتّاب)... فقال يحيى:
:ـ. أنا أروح الكتّاب.. عشان آخذ اللوح... وانت فين لوحك؟؟
:ـ. لوحي في البيت...
:ـ. لكن يا عزيز أنا شايف أنت عندك فلوس كتير...ما تقول لي من فين جبتها؟؟
رحمني الضحك وأناأقول له:
:ـ. من الطهار... من اللي كانوا يزوروني ويحطّوها تحت المخدة...
:ـ. طيب... ما دام كتير زي ماني شايف.. ما تيجي أنا وأنت نبيع ونشتري...
ونكسب يا عزيز... يمكن كل يوم مجيديين..
وانطلق في اتجاه كتّاب القبة ليأخذ لوحه، وتركني أفكر في حكاية (نبيع و نشتري) ونكسب كل يوم مجيديين. ولعلها كانت المرة الأولى التي أدرك فيها أن المجيدي مبلغ كبيرجداً والسبب هوفرحة صاحب الحمير، برؤيته.. وقطع النقد الكثيرة التي دفعها لي باعتبارها ((فضلة)) هذا المجيدي العظيم.
صحت استوقف يحيى... وعندما التفت. قلت له:
:ـ. ترى بكرة... نتقابل هنا في الصبح.
:ـ. ليه أنت بطلت تروح الكتّاب؟؟
:ـ. لا.. بس كم يوم كده.. وبعدين لازم أروح... لكن كم تبغا علشان نبيع ونشتري؟؟
ضحك... ولم يتوقف... اذ كان حريصاً على أن يلحق الكتّاب لأخذ (اللوح).. ولكنه قال:
:ـ. إن كان تقدر تجيب خمسة مجايدة... يا سلام... نحن نسير (شبندر تجار..).
* * *
عندما دخلت دهليز البيت... كان الجنديان في مكانهما... مما جعلني أطمئن إلى أنني لم أتأخر عن موعد (الصرفة من الكتّاب)... وأسرعت إلى العطفة التي أخبأت فيها اللوح وجزء عمّ... وأخذتها... ولكن قبل أن استلم السلالم إلى الغرفة التي مايزال فيها ذلك السرير الوثير... أحسست أن (اسماعيل) يسرع بخطواته اليّ... ورأى اللوح والكتاب فقال بعربيته المكسرة:
:ـ. لكن مادام... لوح هنا... كمان كتاب... هنا... أنت كنت فين؟؟؟ ارتبكت، وامتلأت رعباً... اذ انكشف الواقع، وهو أني لم أذهب إلى الكتّاب في ذلك اليوم ولابد أن الأمر سيصل إلى أُمي... وعمّي...
ظللت في مكاني، صامتاً... واللوح في يدي. مع الكتّاب... إلى أن خطر لي أن أقول:
:ـ. أنا نسيت اللوح والكتاب هنا... أنا رحت الكتّاب بدون اللوح... وبدون جزو عمّ... وكان واضحاً أنه لم يقتنع... وساروه الشك... ولكنه انسحب إلى مكانه صامتاً... وانطلقت أنا إلى (البستان) كما كنا نسمى تلك الحديقة الصغيرة... وجلست على أحد المقاعد في مواجهة ذلك ((المِنور))، الذي رأيت فيه بنت الخالة أُم الفرج لأول مرة.. ولم يطل جلوسي، وأنا أُفكر في الكارثة المتوقعة اذا ما خطر لاسماعيل أن يِبلغ أُمي أو عمّي... فاذا بالوجه الجميل يطل من المنور... وقالت بصوت مسموع...
:ـ. أنت خلاص رحت الكتّاب اليوم؟؟
:ـ. أيوه... خلاص رحت الكتّاب...
:ـ. ورايحين يخلّوك في الكتّاب بعدما تحفض جزو عمّ ؟؟
:ـ. ما أدري... ليه؟؟
:ـ. لا... ولا شيء... بس اللي بيحفض جزو عمّ في الكتاب... لازم يروح المدرسة... المكتب... أنا سيدي حمزة، رايح يدخل أخويا على المدرسة... اللي يسموها المكتب... عشان هوّه حفض جزء عمّ كلّه مع الشيخ اللي ساكن جنبنا...
:ـ. طيب وفين هادي المدرسة؟؟
:ـ. أنا أقول لاستيتة فاطمة، وهيّه لابد تعرف... والمدرسة اللي فتحوها السنة في باب المجيدي بيقولوا أنّو اسمها (الراقية)... يعني زي (الرشدية) اللي كانت في أيام العُسْمنلي..
وفجأة كانت أُمي تتقدم نحوي، وملامحها تؤكد أنها غاضبة محتدمة... وما كادت تصل إلى مجلسي... حتى التفتت إلى المنور... التفاتة عاجلة... ثم تناولت يدي وجذبتني اليها بشدة.
أدركت... أنها قد علمت من اسماعيل أني لم أرجع من المدرسة باللوح والكتاب...
وأدركت أن في الأمر ما يستلزم أن تعرف الحقيقة... وما وراءها... ومنها ركوب الحمير... وكل الذي جرى في ذلك اليوم..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :693  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 67 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.