شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أبوك.. في ((روسيا))..
كان الشيخ العريف محمد بن سالم، معروفا بقسوته، وكانت له وهو على تلك المصطبة المرتفعة في صدر قاعة الكتاب، هيبة يرتجف منها جميع الأطفال في سني... كان يكفيه أن يدير بصره في أنحاء القاعة ليعكف كل منا على اللوح، ويأخذ في القراءة وهو يهتز بنصفه العلوي، إلى الأمام والخلف، وتلك هي الصورة المعبرة عن الانهماك في القراءة بينما أحدنا يتحدث إلى زميله بجانبه، والحديث يدور في الغالب عن أخبار (القشاع) بين عيال الساحة وعيال المناخة... من منهم الذي غلب الآخر.. وكم عدد الذين (فقُشوا).. وعن ذلك (اِلمشْكِلْ) الذي أسقط أكثر من عشرة بنبوته (المُزفَّر).. وذلك الآخر الذي كاد يقتل غريمه عندما أخرج السكين من حزامه... ولم أكن أنا من الذين يتابعون اخبار هذا القشاع، كما يتابعه الآخرون، وإنما اتجه همي إلى (أسعد) وحكاية أمه التي طلقها زوجها (بالتلاتة) وهي الآن تسكن في بيت أبيها ـ و (في الِعدَّة) لا تخرج، ولا تقابل حتى ابن عمها... ثم بعد بضعة أيام، والحديث مايزال يعود إلى (أم أسعد) اقترب من أذني وهمس قائلاً: (أمي حُبلى) من زوجها الذي طلقها (بالتلاتة..) ثم يضيف: (جدي يقول: إنها ممكن ترجع له... لكن هِيّه.. هيه تقول ما ترجع له حتى لو فرموها أوصال أوصال.).
ولا أدري كيف قام بذهني، أن ما سمعته من أسعد عن أمه (سر من الأسرار) التي يجب أن لا أفضي بها إلى أي مخلوق... ربما كان السبب هو أنه أخبرني به همسا في أذني ولم أسمعه يخبر أحدا سواي.
وعندما خرجنا من الكتاب والألواح تحت أبطينا كالعادة، شغلني ذلك (القشاع) الذي لابد أن يكون قائما في المناخة، وهي طريقه إلى زقاق الطيار... ولكنه طمأنني حين قال إنه سيذهب إلى (بسطة) خاله في (جوة المدينة).. ومعه يعود إلى البيت.
وعلى مائدة العشاء، كنت أتناول طعامي، وإرامق أمي، وفي نفسي حكاية (أم أسعد الحُبلى)... ووجدت نفسي أقول:ـ (حتى أمي يمكن أن تحبل).. وهنا لا يسرى حكم (الطلاق بالتلاتة) الذي تمنيته في ذلك اليوم.
* * *
مع هذه الأفكار، التي وضعت في تقديري مختلف الاحتمالات، عن حلم الانفصال عن زوج أمي والعودة إلى بيتنا في زقاق القفل وحلم العمل في سوق الخضرة.. أو وراء حمير السواني قضيت بعض الوقت على سريري ثم لم أستيقظ إلا في الفجر على صوت المؤذن البعيد... وكانت المفاجأة أن (الباجي) التي أصبحت أناديها (أمي باجي) أخذت توقظني، وتقول وهي تكاد تضحك
:ـ. اليوم.. ما في كتاب...
:ـ. ما في كتاب؟؟
ولم أفهم شيئا في باديء الأمر... إلى أن دخلت أمي وهي تقول:
:ـ. اليوم ما تروح الكتاب، عشان رايحين ننقل من هادا البيت.
:ـ. وكان الذي تبادر إلى ذهني، وكدت أقفز فرحا، هو إننا ـ هي وأنا.. سننتقل إلى زقاق القَفَلْ... والسبب الذي لا سبب سواه هو أن (عمي) زوجها قد طلقها (بالتلاتة).. ولكن سرعان ما تبددت هذه الفرحة الغامرة.. حين رأيت وجهها ضاحكا، ليس فيه ما يدل على شيء مما تبادر إلي ذهني... فسألتها:
:ـ. ننقل من هادا البيت على فين؟؟
:ـ. إلى بيت جديد... فيه بستان.. وبركة.. وقاعة كبيرة.. وديوان ومقعدين واحد للعساكر... والتاني لأمي باجي.. ومنكشة كمان..
:ـ. طيب، وأنا ليه ما أروح الكتاب... أنا حافض اللوح..
:ـ. عشان البيت الجديد، في (مقعد بني حسين).. وما تعرف توصل له بنفسك.
ولم أفهم شيئا، لا عن (مقعد بني حسين هذا)... ولا عن السبب في ضرورة أن أذهب معهم لأعرف الطريق إليه... وبعد لحظات أضافت أمي تقول:
:ـ. لما تشوف عمك ـ لما يجي ـ لازم تسلم على يده.. وتقول له: (مبارك).
:ـ. مبارك؟؟؟ علشان ايه؟؟
:ـ. علشان الحكومة أعطت له رتبة جديدة... دحين هوه سار (بنباشي) على كتفه دحين (تاج ونجمه). يعني يا عزيز عمك يؤمر على ألف عسكري.
:ـ. يعني أعطوله نجمة وحده بس؟؟؟ ويحكم على ألف عسكري؟؟
:ـ. أنت لسه ما تعرف هادي الرتب... بعدين لما تكبر وتسير أنت كمان ظابط، رايح تعرف، الظباط، والعساكر.. والرتب... والنجمة... والتاج...
:ـ. في حلب يا فَفَّم، كنا نشوف العساكر في الشوارع، يشيلوا الناس اللي يلتفوهم أموات على الأرصفة.. وفي الأرض.. ويحطوهم في هاديك العربات، وياخدوهم وما أدري فين يدفنوهم.. لازم القبر اللي يدفنوهم فيه، قبر كبير كتير
:ـ. ايوه.. يا عزيز.. كلامك صحيح... العسكر اللي شفناهم في حلب، هما كمان يمكن ماتوا... ماتوا في الحرب... بالرصاص اللي كنا نسمعه زي المطر.. والمدافع اللي ترج البيت كله طول الليل.
وهنا.. تذكرت حكاية أبي الذي لم يجئنا منه (حس ولا خبر)، فقلت لها
:ـ. يعني يا فَفَّم.. يمكن أبويا كمان من العساكر اللي ماتوا في الحرب زي اللي بتقولي عنهم في حلب.
:ـ. لا يا حبيبي.. أبوك، ما كان عسكري.. أبوك، كان عالم.. طالب علم.. كان حافض كتاب الله.. وحافض أحاديث البخاري ومسلم.. زي سيدك أحمد صفا
:ـ. طيب يمكن اخدوه.. وساووه عسكري.
:ـ. أبوك يا ولدي، سافر روسيا.. قازاقستان.. يجمع تبرعات من المسلمين، عشان يعمل الجامعة الإسلامية، التي أمر بها (الباديشاه) بنفسه.. وهوه سافر قبل الحرب بسنة.. هوه راح من هنا.. والحرب قامت من هنا... يعني هوه ما كان لا في حلب ولا في اسطمبول... كان في روسيا.. لما سارت الحرب.. ما عاد أحد يقدر يجي من روسيا.. ولا أحد يقدر يروح لها..
:ـ. طيب يا ففم.. انتي تظني إنو مات.. ولا حي؟
وهنا بدا على ملامحها الضيق... إذ كانت على الأرجح، لا تعرف شيئا.. ولكني لاحقتها بسؤال
:ـ. طيب يا ففم.. انا دحين يتيم... ؟؟؟ ولا إيه؟؟
:ـ. لا انت ما تتسمى يتيم
ثم أضافت وهي متغيرة الملامح.. وفي عينيها احمرار، ودمعة تكاد تنذرف
:ـ. اسمع.. دحين.. شوف (الحُمال) في القاعة.. جيين يشيلوا.. وينقلوا البيت، إلى البيت اللي قلت لك.. فيه بستان وبركة.. هيا قوم ساعد الباجي ومَنَكْشَة
واكتفيت بهذا الحوار الذي ربما كان الأول من نوعه بين وبينها عن أبي بالذات. ونهضت فعلا.. واسرعت إلى القاعة والديوان.. ورأيت (الحُمال) على ظهر بعضهم الدواليب.. أو الكراسي والكنب.. والطربيزات (المناضد).. أما منكشة.. (وأمي باجي) فقد كانتا تجمعان المنقولات الصغيرة.. تضعانها بعناية كبيرة في الصناديق الصغيرة من النوع الذي يسمى سحارة.. من تلك التي يصنعها النجار، ويبيع الواحدة بأربعة مجايدة..
وأخذت أساعد منكشة و (أمي باجي)... اتناول منهما واضع في هذه الصناديق.. مزهريات.. وكاسات.. وفناجين. أما اللمبات الكبيرة المزخرفة فقد قامت بالعناية بها (أمي باجي) بنفسها.
وكان الطريق من زقاق الطوال في الساحة، إلى المنطقة التي تسمى (مقعد بني حسين) طريقاً لا يستغني عن دليل لمن يذهب اليه لأول مرة مثلي... كان لابد من اجتياز ما يسمى (سوق جوه المدينة)... وفي نهايته مخرجان.. أعرف أحدهما الذي ينتهي إلى باب المصري ثم منه إلى سوق الحبابة ثم إلى (المناخة)... أما المخرج الثاني فهو الذي تكثر فيه المنعطفات والأزقة الصغيرة الضيقة... وبعضها مسقوف ومظلم وكل ما يضيء الطريق فيه ذلك الضوء الذي يتسلل ضعيفاً أبلغ الضعف من مخرجه بالنسبة للداخل.
وحين كنت أمشي وراء (اسماعيل، وعلى كتفه بندقيته التي تعلمت الآن انها تسمى أم خمس)، وان الجندي يرتفق في حزامه الممتلىء بالرصاص، جراباً صغيرا لما يسمى (السُّنكْي) وهو ما اصطلحنا على تسميته (السلاح الأبيض) الذي يستعمل عندما تحتدم المعركة ويواجه الجندي عدوه، أو أعداءه، والمسافة بينهما تستغني عن الرصاص... فهو اشتباك يستهدف بهذا (السنكي) الصدور والبطون مباشرة.
ولم أكن أخاف الظلام ـ كما لعلي قد سبق ان قلت ـ ولكني توجّست خيفة مما يمكن أن نواجه من (الأعداء) الذين تركت لخيالي أن يتصور وجودَهم متربصين بنا في هذه الأزقة الرهيبة... ووجدت هذا الخيال يصور لي وجودَهم مسألةً مفروضة ومفروغاً منها، لأن الحرب التي ذقنا ويلاتها في الشام وحلب، كانت بين الأتراك، والانجليز ومعهم (العرب). فما الذي يمنع أن تكون لهم بقايا تختبيء في هذه الأزقة. فان كانوا من الأتراك فاسماعيل منهم ولن يعتدوا عليه... وإن كانوا من الانجليز، فذلك مستحيل.. لأن الانجليزي نصراني، والنصارى لا يدخلون المدينة أو مكة... هكذا فهمت من أمي، في حكاياها الكثيرة ونحن على الجمل في طريقنا من ينبع إلى المدينة... كانت تسمع كلام (الجِمَّال) عن الأماكن والمواقع التي خيّم فيها جيش (الشريف)... والمواقع التي تمركز فيها جيش (الباشا)... وهو يقصد (فخري باشا)، الذي حصّن طريق المدينة من ينبع، وتمركز في مرتفعات، لم يكن من الممكن أن يمر منها (الطير الطاير)... ولذلك ظل جيش الباشا في هذه المواقع إلى أن وافق على (التسليم) بعد حصار طويل... قال الجمَّال: الناس في المدينة، أكلوا الحمير الميتة... والبِساسْ) والكلاب... وقالوا إنهم أكلوا الأموات منهم. كمان... ولا أنسى ان كلام الجمّال، الذي كان يرفع يديه شكرا لله على انه لم يكن داخل أسوار المدينة... كان في (البر)... وكان يقوم بنقل الماء، (بالِقرَب) من عيون الصفرا والحمرا... لجنود الباشا.. فيعطونه علب اللحم و (القنيطة) التي كان يتمتع بأكلها مع أمه وأخته وزوجته وأولاده... في بيت الشعر هناك بالقرب من (ينبع النخل). وكان الذي لم تفهمه أمي وهو يحكي حكاياته: السبب الذي جعل الباشا يمنع أن يمد مخلوق يده إلى (التمر) في النخيل... فكان الناس يكتفون بالتقاط ما يتساقط فقط... وقال البدوي: كان الباشا يحتفظ بالتمر للعسكر في المدينة.. (يُجْدّونه) بعدما يتَِمِرّ... ويضعونه في أكياس.. ويذهبون به إلى المدينة... كان هذا (الباشا) ينوي أن يحارب الانجليز والعرب... والدنيا كلها بعسكره من المدينة..
* * *
ولعلي قد استطردت طويلا عن هذه المشاعر والحكايا التي ذكرني بها الزقاق المظلم المسقوف إذ انعطفنا مرة أخرى ومرات، إلى أن وقف الجندي اسماعيل أخيرا عند باب بيت مفتوح رأينا فيه (الحُمّال) الذين نقلوا العفش، وظلوا ينتظرون أمي و (أمي باجي: ومنكشة... ومعهم الجندي الثاني (محمد علي)... ليقوموا بنقل كل قطعة من الأثاث إلى الغرفة أو الغرف في الطابق من طوابق البيت الثلاث.
كانت أرض الدهليز الواسع تتصدرها (دكة) طويلة عريضة... وكانت الأرض نفسها مبلطة ملساء بيضاء اللون (عرفت فيما بعد انه المرمر).. ثم هناك الباب من الدهليز إلى (فسحة) واسعة، في صدرها باب مفتوح على مصراعيه نرى عبره (البستان) و (البركة) ممتلئة ماء يعكس ضوء الشمس، وظلال الأشجار.
ويطول وصف التفاصيل الكثيرة عن هذا البيت الذي وصفته (أمي) بأنه (ملوكي) وانه يشبه ببستانه ذلك البيت الذي استأجره لنا جدي في حماه... وفيه داهمنا اللصوص وسرقوا كل ما يملك جدي والأسرة كلها... واضطر بعد ذلك جدي (أبو أمي) ان يعمل في حفر الأختام ليؤمن لقمة العيش لنا، اضافة إلى (التعيين) الذي كانت فرضته الحكومة للمهاجرين من المدينة، وهو علب اللحم، وأقراص خبز الشعير، بعدد أفراد الأسرة حسب ورقة يقدمها كل من فرضت له (الدولة) هذا التعيين.
ولفت نظري، كلام كان يدور بالتركية بين أمي ومنكشة و (أمي باجي) عن الغرفة التي ينبغي أن ينصب فيها سرير يسمونه بالتركية (كَرْيولَه) وهو سرير اشتراه عمي قبل انتقالنا إلى هذا البيت ببضعة أيام... وازداد انتباهي ومحاولة فهم الموضوع ان اسمي قد تردد أكثر من مرة، ومعه دعوات (أمي باجي) و (منكشة) وكلمات (ان شاء الله ان شاء الله)...
وعندما تم نصب (الكريولة) هذه في غرفة في الطابق الثاني من البيت، جاؤوها بمرتبة عريضة تملأ عرض السرير، ثم بمجموعة من الأغطية والشراشف... اضافة إلى مخدة بعرض السرير... وأخرى تستند إلى الجدار... وكلها مزخرفة أو مزينة بما يسمى أيامها (كورديَّلا) حمراء وزرقاء.. أما الشرشف الذي يغمر السرير ويتدلى إلى الأرض فمطرز تطريزاً جميلاً ملوناً.
قلت في نفسي وأنا أرى كل هذه (الزَّفة) لـ (الكريولة)... غير معقول أن يكون هذا لأمي وزوجها... فأنى أعرف سريرهما من الموبيليا بأعمدة الناموسية من الخشب المطعم بالنحاس الذي يلمع كأنه الذهب.
وتساءلت: لمن هذه (الكريولة) بكل هذه الأبهة؟؟؟ رجحت أن أحدا من أقارب عمي سيجيء من اسطمبول... ربما احدى اختيه، اللتين سمعت انه يتلقى منهما خطابات، ورأيته مرة يقرأ خطاباً وتدمع عيناه.. وقالت أمي انه من (أمه) التي ماتزال تنتظر عودته وتقول ان الذين عادوا من الضباط ومن زملائه كثيرون... وكلهم قالوا لها انه بخير... فلماذا لا يعود؟؟
وبعد أن تم (فرش) كل غرف البيت... نزلت أنا إلى الحديقة.. أو البستان كما يسمونه... كان أجمل ما فيه ان أرضه كلها من المرمر... وان الأشجار أو الأزهار في أحواض يدور حولها هذا المرمر... وان في كل حوض ماسورة متصلة بالبركة... يتدفق منها الماء لريِّ الأحواض... أما من أين يجي الماء؟؟؟ فهناك في ركن البستان بئر ماء اقيمت عليها طلمبة يد، يقوم بتشغيلها كل صباح لملء البركة... إما اسماعيل... أو محمد علي... ووجدتها من جانبي تسلية فكنت أقوم بتحريك الذراع كما يفعلون... فأجد الماء ينهمر في قناة تنتهي إلى البركة.
مضت أكثر من ثلاثة أيام دون أن أذهب إلى الكتّاب... ولكن أمي كانت متنبهة إلى ان هذا سيجعلني أتخلف عن زملائي... ولذلك فقد جاءتني (بجزء عمّ)، وأخذت تجلسني أمامها بعد صلاة المغرب... وتعلمني ان اقرأ الكتابة المطبوعة... دون حاجة إلى اللوح... وما أشد ما كانت تحرص على أن أفهم التجويد... كانت تقرأ قراءة مجودة.. ثم تشرح لي قواعد التجويد شرحاً وافياً، لم أسمعه من (العريف محمد) أو من الشيخ العريف محمد بن سالم... لأنهما كانا يكتفيان بأن نَقرأ قراءة مجودة.. دون افهامنا السبب في هذا النوع من القراءة. ولعلي لا أبالغ اليوم... إذا قلت اني تعلمت قواعد التجويد، ومازال أذكر أكثرها حتى اليوم من أمي رحمها الله.
قالت أمي بعد أن فرغت من (تحفيظي) أكثر من سورة... أنت الآن سبقت زملاءك في الكتاب واسأل الشيخ: هل يوافق على أن تحفظ من (الجزء) بدلا من اللوح؟؟ اعتقد انه سيوافق.
ولم يطل خفاء سر ذلك السرير بالغ الزخرفة والأبهة... فقد كشفته لي (منكشة) إذ كنت أقف إلى جانبها وهي تنظف، وترتب الغرفة... قلت لها:
:ـ. من الذي سيجيء من اسطمبول ؟؟؟
وبدت عليها الدهشة وهي تقول:
:ـ. من اسطمبول؟؟
:ـ. اخت عمي... أم أمُّه؟؟
وهنا ضحكت، لتظهر لثَّتها الحمراء، ولم يبق في فمها الا ناب أو نابان.. وقالت:
:ـ. لا أحد من اسطمبول.
:ـ. طيب... لمن هذه (الكريولة) ؟؟
ومرة أخرى ضحكت... بل وارتفع صوتها بالضحكة وهي تقول:
:ـ. انت ما يعرف؟؟
:ـ. لا ما أعرف
ومرة ثالثة فرقعت ضحكة عالية وقالت:
:ـ. هاد (كريولة).. كمان (شِلِّكْ) كبير... عشان إنتَ.
ولم أفهم كلمة (شنلك).. ولكني فهمت طبعاً أن هذه الأبهة لشخصي أنا
:ـ. لكن عشان أيه؟؟
:ـ. أنت ما يعرف كمان؟؟؟
:ـ. لا يا أمي منكشة... ما أعرف.. قوليلي ايش المسألة؟؟
ووضعت يدها على فمها تكاتم ضحكة... ثم قالت
:ـ. عشان (انت عمر حقك تسعة سنة).
:ـ. ايوه... في عيد المولد اغلق تسع سنوات.
:ـ. تسعة سنة.. ما في سُنَّتْ
:ـ. لم أفهم شيئا.. لم أجد علاقة بين عمري الذي يبلغ تسع سنوات.. وبين كلمة (سُنَّتْ)
وأسرعت إلى أمي.. وسألتها... ولم تضحك.. كما لم تُطِلْ الحوار... بل قالت بصراحة
:ـ. وصل عمرك تسعة سنين.. ولازم (نطهّرك)
ولم تكن الكلمة مجهولة عندي... إذ كثيراً ما كان يحدث أن يغيب بعض الأطفال عن الكتّاب بضعة أيام... ثم يقولون انهم (طهَّروا).. وان (عُزومة) طهاره كانت كبيره... أبوه دبح له طَلِيين.
ولا يحتاج القارىء الآن أن أشرح له ان (الطُّهار) هو (الختان).. وان الأتراك يسمونه (سُنَّتْ)...
ولا أخفي اني ارتعبت... وداخلني من الخوف، ما لم يسبق أن أحسست بمثله قط... ونسيت تماماً العلاقة بين تلك (الكَرْيولة).. وبين عملية الختان... بل منذ تلك اللحظة حرصت على أن أتجنب الدخول في غرفة (الكَرْيولة) هذه، التي كنت أرى بابها المغلق... بابا إلى ذلك المصير المجهول... وأخذت أتمنى وأدعو الله سبحانه أن يحَدُثَ في الدنيا أي حادث كالحربِ مثلا... لينسى البيت... حكاية (الطهور).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :736  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.